الرحيم
كلمة (الرحيم) في اللغة صيغة مبالغة من الرحمة على وزن (فعيل) وهي...
العربية
المؤلف | هلال الهاجري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات |
واحرصْ في هذه الأيامِ التسعةِ الفاضلةِ على الصِّيامِ .. فهي العبادةُ الوحيدةُ التي أُخفي أجرُها عن الأنامِ، قَالَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ الْحَسَنَةُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعمِائَة ضِعْفٍ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِلا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ) .. فذلكَ فإنَّكَ تسمعُ عجباً من صيامِ الصَّالحينَ، طمعاً في عظيمِ أجرِ ربِّ العالمينَ..
الخطبة الأولى:
إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعوذُ باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].
أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ أَصْدَقَ الحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرَ الهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثاتُها، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ.
تختلفُ أفضلُ أيَّامِ الدنيا بالنِّسبةِ للنَّاسِ، باختلافِ الاهتماماتِ والطبائعِ والأجناسِ؛ فمنهم أفضلُ أيَّامِه في الحياةِ هي أيامُ الإنجازاتِ والنَّجاحِ، ومنهم أفضلُ أيَّامِه هي أيامُ السَّعادةِ والأفراحِ، ومنهم أفضلُ أيَّامِه هي أيَّامُ الزَّواجِ واللَّيالي المِلاحِ، ولكنْ اسمعوا ماذا قالَ -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ-: "أَفضلُ أيَّامِ الدُّنيا العَشر"؛ يَعني عَشرَ ذِي الحَجَّةِ.
ولا عجبَ في ذلكَ، فهي موسمُ الخيرِ والطاعاتِ، تجتمعُ فيه أمهاتُ العباداتِ؛ فيها الصلاةُ والذِكرُ، وفيها الصيامُ والنَحرُ، فيها الأيامُ المُباركةُ، وفيها الأعمالُ الصالحةُ؛ كما جاءَ في حديثِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي اللهُ عنهما- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-: "مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَشْرِ".
تعجَّبَ الصحابةُ -رضيَ اللهُ عنهم- من هذا الفضلِ العظيمِ، وتذّكروا أكثرَ الأعمالِ أجراً وأحبَّها إلى العزيزِ العليمِ، تلك اللحظاتُ، التي تتطايرُ فيها الأشلاءُ، وتتدّفقُ فيها الدماءُ، وترتفعُ فيها الأرواحُ، إلى ربِها العليمِ الفتّاحِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-: "وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ".
ولذلكَ لمَّا سمِعَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ -رحمَه اللهُ تعالى- هذا الحديثَ من ابنِ عباسٍ -رضيَ اللهُ عنهما-، انتفعَ به انتفاعاً عظيماً؛ فكانَ إِذَا دَخَلَ أَيَّامُ الْعَشْرِ اجْتَهَدَ اجْتِهَادًا شَدِيدًا حَتَّى مَا يَكَادُ يَقْدِرُ عَلَيْهِ, فهل ننتفعُ نحنُ عندما نسمعُ ونعلمُ ما في أيامِ عَشْرِ ذِي الحِجَّةِ مِنْ فضلٍ عظيمٍ؟.
هي أيَّامُ التَّهليلِ والتَّكبيرِ, هي أيَّامُ التَّسبيحِ والتَّحميدِ؛ كما جاءَ في الحديثِ: "مَا مِنْ أَيَّامٍ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ وَلَا أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ الْعَمَلِ فِيهِنَّ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَشْرِ؛ فَأَكْثِرُوا فِيهِنَّ مِنْ التَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّحْمِيدِ", ولذلكَ لمَّا سمعَ ابْنُ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- هذا الحديثَ من رسولِ اللهِ -صلى اللهُ عليهِ وسلمَ-، كَانَ يَخْرُجُ إِلَى السُّوقِ فِي أَيَّامِ الْعَشْرِ يُكَبِّرُ، وَيُكَبِّرُ النَّاسُ بِتَكْبِيرِهِ, وهذ التكبيرُ المطلقُ الذي يبدأُ من أولِ ذي الحجةِ إلى آخرِ أيامِ التشريقِ ويكونُ في كلِ وقتٍ ومكانٍ.
دعونا في هذه الأيامِ الفاضلةِ نراجعُ علاقتَنا مع أولِ ما يُحاسبُ عليه العبدُ يوم القيامةِ, لمَّا سمعَ الصحابةُ -رضيَ اللهُ عنهم- قولَه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "وَاعْلَمُوا أَنَّ خَيْرَ أَعْمَالِكُمْ الصَّلَاةُ"، كانوا كما وصفَهم ابنُ مسعودٍ -رضيَ اللهُ عنه-: "وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا وَمَا يَتَخَلَّفُ عَنْهَا إِلَّا مُنَافِقٌ مَعْلُومُ النِّفَاقِ، وَلَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يُؤْتَى بِهِ يُهَادَى بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ حَتَّى يُقَامَ فِي الصَّفِّ", يَقُولُ عُدَيُّ بْنُ حَاتِمٍ: "مَا جَاءَ وَقْتَ صَلاَةٍ قَطُّ إِلاَّ وَقَدْأَخَذْتُ لَهَا أُهْبَتَهَا، وَمَا جَاءَتْ إِلاَّ وَأَنَا إِلَيْهَا بِالأَشْوَاقِ".
بل اسمع إلى هذا المثالِ الرائعِ, لما طُعنَ عُمرُ بنُ الخَطابِ -رضيَ اللهُ عنه-، أُغميَ عليه وحُملَ إلى بيتِه، فدخلَ المِسورُ بنُ مَخرمةَ -رَضيَ اللهُ عنه- وسألَ عَنهُ، فقالوا: كما ترى، فقالَ: أَيقظوه للصَّلاةِ، فكَانوا يُحركونَهُ، ويُكلمونَه فلا يَردُّ عليهم لكثرةِ ما نَزفَ من الدِّماءِ، فماذا قَالَ له المِسورُ بنُ مخرمةَ؟، قالَ له: يا أميرَ المؤمنينَ! الصَلاةُ، ففَزعَ عُمرُ، وأَفاقَ، وقَالَ: "نعم، ولا حَظَّ في الإسلامِ لمن تَركَ الصَّلاةَ"، فصلَّى، وإنَّ جُرحَه ليَثْعَبُ دَماً، فهل رأيتُم كيفَ أنَّهم لم يستطيعوا أن يُوقظوه، وأن ينبهوه إلا بالصَّلاةِ لشِدةِ حِرصِه عليها؟! فحبُّ الصَّلاةِ وسِرعةُ الاستجابةِ هي التي رفعتْ مكانةَ الصحابةِ.
واحرصْ في هذه الأيامِ التسعةِ الفاضلةِ على الصِّيامِ؛ فهي العبادةُ الوحيدةُ التي أُخفي أجرُها عن الأنامِ، قَالَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ الْحَسَنَةُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعمِائَة ضِعْفٍ، قَالَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: إِلا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ".
فلذلكَ فإنَّكَ تسمعُ عجباً من صيامِ الصَّالحينَ، طمعاً في عظيمِ أجرِ ربِّ العالمينَ, عن ابنِ أَبي عَديٍّ قَالَ: "صَامَ داودُ بنُ أبي هند أربعينَ سَنةً لا يعلمُ به أهلُه، وكانَ خَرَّازاً يحملُ معه غداءَه من عندهم، فيتصدقُ به في الطَّريقِ، ويَرجعُ عَشيًّا، فيفُطرُ مَعهم, فيظنُّ أهلُ السُّوقِ أنه قد أكلَ في البيتِ، ويظنُّ أهلُّه أنه قد أكلَ في السُّوقِ", ولذلكَ ظهرَ ذلكَ جليَّاً في حُسنِ خاتمَتِهم, فعن يَزيدَ بنِ عبدِ ربِه قَالَ: ذهبتُ مع خالي عليِّ ابنِ مسلمٍ لعيادةِ أبي بكرٍ بنِ أبي مريمَ وهو في النَّزعِ، فقلتُ له: رحمَكَ اللهُ، لو جَرعتَ جُرعةَ مَاءٍ؟، فقالَ بيدِه: لا، ثم جَاءَ الليلُ، فقالَ: أَذَّنَ؟، فقلتُ: نعم، فقَطَّرنا في فَمِه قَطرةَ مَاءٍ، ثم غَمضَّناهُ، فماتَ -رحمَه اللهُ-.
والصَّدقةَ الصَّدقةَ -أيُّها الحبيبُ-, وتذّكرْ ذلك الموقفَ المُهِيبَ, قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا سَيُكَلِّمُ رَبَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ، ثُمَّ يَنْظُرُ مَنْ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ مِنْ عَمَلِهِ، ثُمَّ يَنْظُرُ أَشْأَمَ مِنْهُ، فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ، ثُمَّ يَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلَا يَرَى إِلَّا النَّارَ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ؛ فَاتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ", فلنتصدَّقْ يومياً من كسبٍ طيّبٍ ولو بالقليلِ, وقد جاءَ في الحديثِ: "مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ وَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ إِلَّا الطَّيِّبَ وَإِنَّ اللَّهَ يَتَقَبَّلُهَا بِيَمِينِهِ ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهِ؛ كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الْجَبَلِ".
ولذلكَ عندما وقرَ في قلبِ أبي بكرٍ الصَّديقِ -رضيَ اللهُ عنه- ما للصَّدقةِ من فضلٍ وبِرٍّ، كانَ له في إنفاقِ المالِ في سبيلِ اللهِ قَصَبُ السَّبقِ، فعن زيدِ بنِ أسلمَ، عن أبيه قَالَ: سَمعتُ عمرَ بنَ الخطَّابِ -رضيَ اللهُ عنهُ- يَقولُ: أَمَرنا رسولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ- أن نتصدَّقَ، فوافقَ ذلك عَندي مَالًا، فقلتُ: اليومَ أَسبقُ أبا بكرٍ -رضيَ اللهُ عَنهُ- إن سَبقتُه يومًا، قالَ: فجئتُ بنصفِ مَالي، فقالَ رسولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ-: "ما أبقيتَ لأهلِكَ؟" قلتُ: مِثلَه -أي تصدَّقَ بنصفِ مالِ-، وأَتى أبو بكرٍ بكلِّ ما عَندَه، فقالَ: "يا أبا بكرٍ! ما أبقيتَ لأهلِك؟" قالَ: أبقيتُ لهم اللهَ ورسولَه، قالَ عمرُ: لا أَسبقُه إلى شيءٍ أبدًا. فعجيبٌ عُجابٌ أمرَ هؤلاءِ الأصَحابِ!.
وأما كتابُ اللهِ -تعالى- فليكنْ له في هذه الأيامِ أكبرَ الحظِ والنصيبِ, اقرأ وتدبّر, رتّل وتفكّر, فِي غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ نَزَل النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَنْزِلاً، فَقَالَ: "مَنْ رَجُلٌ يَكْلَؤُنَا لَيْلَتَنَا هَذِهِ؟" فَانْتَدَبَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَرَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ فَقَالاَ: نَحْنُ يَا رَسُولَ اللَّهِ, فقَالَ الأَنْصَارِيُّ لِلْمُهَاجِرِيِّ: أَيُّ اللَّيْلِ أَحَبُّ إِلَيْكَ أَنْ أَكْفِيَكَهُ أَوَّلَهُ أَوْ آخِرَهُ؟ قَالَ: اكْفِنِي أَوَّلَهُ, فَاضْطَجَعَ الْمُهَاجِرِيُّ فَنَامَ, وَقَامَ الأَنْصَارِيُّ يُصَلِّي, وَأَتَى رَجُلٌ من المشركينَ فَلَمَّا رَأَى شَخْصَ الرَّجُلِ رَمَاهُ بِسَهْمٍ فَوَضَعَهُ فِيهِ, فَنَزَعَهُ فَوَضَعَهُ، وَثَبَتَ قَائِماً ُثمَّ رَمَاهُ بِسَهْمٍ آخَرَ فَوَضَعَهُ فِيهِ, فَنَزَعَهُ فَوَضَعَهُ، وَثَبَتَ قَائِماً ُثمَّ عَادَ لَهُ بِثَالِثٍ فَوَضَعَهُ فِيهِ, فَنَزَعَهُ فَوَضَعَهُ، ثُمَّ رَكَعَ وَسَجَدَ ثُمَّ أَهَبَّ صَاحِبَهُ، فَقَالَ: اجْلِسْ فَقَدْ أُوتِيتَ, فَلَمَّا رَأَى الْمُهَاجِرِيُّ مَا بِالأَنْصَارِيِّ مِنَ الدِّمَاءِ قَالَ: سَبْحَانَ اللَّهِ! أَلاَ أَهْبَبْتَنِي من أولِ سهمٍ, قَالَ: كُنْتُ فِي سُورَةٍ أَقْرَؤُهَا فَلَمْ أُحِبَّ أَنْ أَقْطَعَهَا حَتَّى أُنْفِذَهَا -أي أقضيها-.
فهل رأيتُم مثلَ هؤلاءِ الأنامِ؟ قراءةُ القرآنِ تُنسيهم الآلامَ, بل وضربَ السيوفِ وطعنَ السهامِ, والموتُ أهونُ على أحدِهم من قطعِ سورةٍ من كلامِ ذي الجلالِ والإكرامِ.
نفعني اللهُ وإيَّاكم بالقرآنِ العظيمِ، ونفعني وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيمِ، أقولُ ما تَسمعونَ وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم من كلِّ ذنبٍ فاستغفروه؛ إنَّه هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ ربِ العالمينَ، يوالي على عبادِه مواسمَ الخيرِاتِ؛ ليكفّرَ عنهم السيئاتِ، ويرفعَ لهم الدرجاتِ، وأشهد أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه، أولُ سابقٍ إلى الخيراتِ، صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وأصحابِه الذي لا تمرُ بهم فرصةٌ للخيرِ إلا شغلوها بالصالحاتِ؛ (أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ)[المؤمنون: 61].
أما بعد: جلسَ رسولُ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- بينَ أصحابِه في أحدِ الأيامِ العاديةِ، فقالَ: "مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ صَائِمًا؟"، قَالَ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: أَنَا، قَالَ: "فَمَنْ تَبِعَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ جَنَازَةً؟"، قَالَ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: أَنَا، قَالَ: "فَمَنْ أَطْعَمَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ مِسْكِينًا؟"، قَالَ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: أَنَا، قَالَ: "فَمَنْ عَادَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ مَرِيضًا؟"، قَالَ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: أَنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّمَ-: "مَا اجْتَمَعْنَ فِي امْرِئٍ إِلاَّ دَخَلَ الْجَنَّةَ", فكيفَ إذا اجتمعتْ هذه الأعمالُ في أفضلِ أيامِ الدُّنيا؟! وإنَّها ليسيرٌ على من يسرَّها اللهُ -تعالى- عليه.
فيا مَن فرّطَ في رمضانَ وما فيه من عظيمِ الأجرِ, وفاتَه مغفرةُ الذنوبِ وليلةُ القدرِ, وصيامُ ستٍ من شوالٍ وأجرُ صيامِ الدهرِ: ها قد جاءتك العشرُ, فتقّربْ إلى اللهِ -تعالى- بالصلاةِ والصيامِ والصدقةِ والذكرِ, والصبرَ الصبرَ؛ فإنما هي أيامٌ وينقضي العمُرُ, فاجتهدْ حتى تكونَ من الذين قالَ اللهُ -تعالى- فيهم: (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ)[الواقعة: 10 - 14].
عبادَ اللهِ: قالَ رسولُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إذا رَأَيْتُمْ هِلَالَ ذِي الحجّة وَأَرَادَ أحدكم أَنْ يُضَحِّيَ؛ فَلْيُمْسِكْ عن شَعْرِهِ وَأَظْفَارِهِ", وقالَ: "إذا دَخَلَتْ الْعَشْرُ وَأَرَادَ أحدُكم أَنْ يُضَحِّيَ؛ فلا يَمَسَّ من شَعرِهِ وَبَشَرِهِ شيئاً", وهذا النهيُ خاصٌ بصاحبِ الأضحيةِ، أما المضَحَّى عنهم من الزوجةِ والأولادِ فلا يعمُهم النهيُ, واعلموا أنه (لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ)[الحج: 37], تقبَّلَ اللهُ منا ومنكم.
اللهم طهرْ قلوبَنا، وزكِ نفوسَنا، وأرشدْ عقولَنا، وحسِّنْ أقوالَنا، وأخلصْ أعمالَنا، وأصلحْ أحوالَنا، وضاعفْ أجورَنا، وارفعْ منازلَنا برحمتِك يا أرحمَ الراحمينَ، اللهم وفقْنا للصالحاتِ، واصرفْ عنا الشرورَ والسيئاتِ، واغفرِ اللهم لنا ما مضى وما هو آتٍ، برحمتِك يا ربَ الأرضِ والسماواتِ.
اللهم يَسِّرْ على الحُجَّاجِ حجَّهم، واستجِب دُعاءَهم، اللهم اجعل حجَّهم مبرورًا، وسعيَهم مشكورًا، وذنبَهم مغفورًا، وأعِدهم إلى ديارِهم سالِمين غانِمين، اللهم جازِ بالخيراتِ والحسناتِ من سعَى في خدمةِ الحَجيج من رُعاةٍ ورعيَّةٍ، اللهم تقبَّل منَّا ومنهم، وثبِّتنا على الحقَّ والهُدى، واختِم لنا بخيرٍ يا أرحمَ الراحمينَ.