الحافظ
الحفظُ في اللغة هو مراعاةُ الشيء، والاعتناءُ به، و(الحافظ) اسمٌ...
العربية
المؤلف | مرزوق بن سالم الغامدي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات |
إن شهر رمضان شهر مغنم وأرباح، والتاجر الحاذق يغتنم المواسم ليزيد من أرباحه؛ فاغتنموا هذا الشهر بالعبادة وكثرة الصلاة، وقراءة القرآن، والعفو عن الناس والإحسان للغير، والتصدق على الفقراء. ففي شهر رمضان تُفتح أبواب الجنة، وتُغلق أبواب النار، وتُصفد فيه الشياطين وينادي منادٍ كل ليلة: "يا باغي الخير أقبل هلم، ويا باغي، الشر أقصر". فكونوا عباد الله من أهل الخير متبعين في ذلك سلفكم الصالح، مهتدين بسنة نبيكم -صلى الله عليه وسلم- حتى نخرج من رمضان بذنب مغفور وعمل صالح مقبول...
الخطبة الأولى
أيها الإخوة:
ما أشبه الليلة بالبارحة هذه الأيام تمر بسرعة وكأنها لحظات، لقد استقبلنا رمضان ثم ودعناه، وما هي إلا فترة من الزمن وإذا نحن نستقبل رمضان مرة أخرى.
أيها الإخوة:
ولو نظرنا حولنا لوجدنا أن بعضاً ممن أدرك رمضان الماضي أصبح من أهل القبور، وربما البعض منا في هذا العام ممن يقدر الله له أن يصوم رمضان كاملاً. فيقدر الله ألا يكون من أهل الدنيا بعده فيكون آخر رمضان يصومه ويقومه، ولو استشعر كل منا هذا الأمر واستعد للموت بعد رمضان أو في أثنائه وصام رمضان إيماناً واحتساباً وقامه أيضاً إيماناً واحتساباً لنال السعادة والفوز بالجنة، فرغم أنف ثم رغم أنف من أدرك رمضان ولم يغفر له.
أيها الإخوة:
إن الاستعداد في رمضان يكون بمحاسبة النفس على تقصيرها سواء بالتقصير في تحقيق الشهادتين أو التقصير في الواجبات أو التقصير في عدم ترك ما نقع فيه من الشهوات أو الشبهات .. فيقوم العبد سلوكه ليكون في رمضان على درجة عالية من الإيمان ..
فالإيمان يزيد وينقص، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، فأول طاعة يحققها العبد هي تحقيق العبودية لله وحده، وينعقد في نفسه ألا معبود بحق إلا الله؛ فيصرف جميع أنواع العبادة لله لا يشرك معه أحداً في عبادته، ولا يرائي بعبادته، ومنها العبادات القلبية من خشية ورهبة وخوف ورجاء وتوكل وإنابة، وإخبات ورغب، واستعانة واستغاثة وأيضاً وكل أنواع العبادة الظاهرة، ويستيقن كل منا أن ما أصابنا لم يكن ليخطئنا، وما أخطأنا لم يكن ليصيبنا وأن كل شيء بقدر.
ونمتنع عن كل ما يناقض تحقيق الشهادتين؛ وذلك بالابتعاد عن البدع والإحداث في الدين. وبتحقيق الولاء والبراء، بأن نوالي المؤمنين ونعادي الكافرين والمنافقين، ونفرح بانتصار المسلمين على أعدائهم، ونقتدي بالنبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، ونستن بسنته -صلى الله عليه وسلم- وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعده، ونحبها ونحب من يتمسك بها ويدافع عنها في أي أرض وبأي لون وجنسية كان.
بعد ذلك -أيها الإخوة- نحاسب أنفسنا على التقصير في فعل الطاعات كالتقصير في أداء الصلوات جماعة، وذكر الله -عز وجل- وأداء الحقوق للجار وللأرحام وللمسلمين، وإفشاء السلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتواصي بالحق، والصبر على ذلك، وبالصبر عن فعـل المنكرات، أو بالصبر على فعل الطاعات، أو بالصبر على أقدار الله -عز وجل-.
ثم تكون المحاسبة على فعل المعاصي واتباع الشهوات بمنع أنفسنا من الاستمرار عليها، أي معصية كانت صغيرة أو كبيرة، سواء كانت معصية بالعين، بالنظر إلى ما حرم الله أو بالسماع للمعازف أو بالمشي فيما لا يرضي الله -عز وجل-، أو بالبطش باليدين في ما لا يرضي الله، أو بأكل ما حرم الله من الربا أو الرشوة أو غير ذلك مما يدخل في أكل أموال الناس بالباطل.
ويكون نصب أعيننا -أيها الإخوة- أن الله يبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل ويبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، وقد قال سبحانه وتعالى: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ) [آل عمران: 133- 136].
وقال تعالى: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ) [الزمر: 53- 54]. وقال تعالى: (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا) [النساء: 110].
بهذه المحاسبة وبالتوبة والاستغفار يجب علينا أن نستقبل رمضان، فالكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني.
أيها الإخوة: إن شهر رمضان شهر مغنم وأرباح، والتاجر الحاذق يغتنم المواسم ليزيد من أرباحه؛ فاغتنموا هذا الشهر بالعبادة وكثرة الصلاة، وقراءة القرآن، والعفو عن الناس والإحسان للغير، والتصدق على الفقراء.
ففي شهر رمضان تُفتح أبواب الجنة، وتُغلق أبواب النار، وتُصفد فيه الشياطين وينادي منادٍ كل ليلة: "يا باغي الخير أقبل هلم، ويا باغي، الشر أقصر".
فكونوا عباد الله من أهل الخير متبعين في ذلك سلفكم الصالح، مهتدين بسنة نبيكم -صلى الله عليه وسلم- حتى نخرج من رمضان بذنب مغفور وعمل صالح مقبول.
أسأل الله العلي العظيم أن يوفقنا جميعاً لذلك ويعيننا على الصيام والقيام وفعل الطاعات وترك المنكرات إنه ولي ذلك والقادر عليه، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
قال تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [البقرة: 185].
أيها الإخوة: أخلصوا النية لله في صيامكم وقيامكم، وبيتوا النية بالصيام، ويصح أن تنووا صيام الشهر كله إذا لم تخرموه بإفطار بعذر. لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى". ولقوله -صلى الله عليه وسلم-: "من لم يبيت الصيام قبل الفجر فلا صيام له"، فمن أفطر بعذر لسفر أو لمرض أو لغيره فعليه تجديد النية.
وعلى المسلم أن يتحلى بالصبر حتى وإن سابَّه أحد أو شاتمه كما جاء في الحديث الصحيح: "فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن شاتمه أحد أو قاتله فليقل: إني امرؤ صائم".
ومن سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- تأخير السحور وتعجيل الإفطار، ويكون تأخير السحور إلى ما قبل الفجر بما يقدر بقراءة خمسين آية، وعلى المسلم أن يتسحر ولو بقليل من الماء؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "تسحروا فإن في السحور بركة".
وإذا أصبح الصائم وهو جنب من الليل فليغتسل ولا شيء عليه، وكذلك من أكل أو شرب ناسياً فليتم صومه فإنما أطعمه الله وساقاه، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-، والمسافر مخير بين الصوم والإفطار أثناء سفره كما جاء في صحيح مسلم عن حمزة بن عمرو الأسلمي -رضي الله عنه- أنه قال: يا رسول الله أجد بي قوة على الصيام في السفر فهل عليَّ جناح؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "هي رخصة من الله فمن أخذ بها فحسن، ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه".
هذا في السفر المباح، أما من سافر بقصد الإفطـار أو سافر في معصية فأفطر فهو آثم وعليه وزر وعليه القضاء مع التوبة والاستغفار.
وقد شرع في رمضان الاعتكاف في العشر الأواخر منه استعداداً وتحرياً لليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، وهي الليلة المباركة التي يفرق فيها كل أمر حكيم أسأل الله العلي العظيم أن يجعلنا ممن يحظون بالقيام والدعاء والاستغفار في ليلة القدر إنه ولي ذلك والقادر عليه.
كما أنه يشرع قيام رمضان، وأن من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة .. فلله الحمد والمنة، يقوم المصلي ساعة من الليل مع الإمام فكأنما قام الليل كله.
ولا ننسى -أيها الإخوة- الاهتمام بالفرائض أولاً والمواظبة عليها في المساجد جماعة، فالله -عز وجل- يحب التقرب إليه بالفرائض. فلا ننسى الأصل والفرض ونهتم بالنوافل والمستحب.
وصلاة القيام -أيها الإخوة- ليس لها أذان ولا إقامة، وقد سئلت أمنا عائشة -رضي الله عنها- عن صلاة النبي -صلى الله عليه وسلم- في رمضان فقالت: "لم يزد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في رمضان ولا غيره عن إحدى عشرة ركعة".
والنبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشيت الصبح فأوتر بواحدة" إذاً الأفضل أن تكون صلاة الليل إحدى عشرة ركعة بقراءة مرتلة وخشوع واطمئنان في جميع الأركان ومن زاد على إحدى عشرة ركعة فلا بأس؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "صلاة الليل مثنى مثنى"، سواء صلى المصلي ثلاثاً وعشرين أو ثلاثاً وثلاثين أو غير ذلك، المهم أن تكون الصلاة بقراءة مرتلة وخشوع واطمئنان وسواء صلاها المسلم مع الإمام في المساجد أو صلاها منفرداً في بيته.
أما دعاء القنوت في الوتر فلم يثبت فعله عن النبي -صلى الله عليه وسلم- لا في رمضان ولا في غيره، لا منفرداً ولا في جماعة حيث قد صلى النبي -صلى الله عليه وسلم- بالصحابة في رمضان في عدة رمضانات، وفي ليالي متفرقة من كل رمضان صلى النبي -صلى الله عليه وسلم- بالصحابة ولم ينقل عنه أنه قنت في الوتر، ولذلك أخذ المالكية بهذا الأمر فهم لا يقنتون لا في رمضان ولا في غيره، وأهل بلاد المغرب يتمسكون بعدم القنوت طوال العام.
ولكن أيها الإخوة حيث ثبت أن الصحابة قد قنتـوا في النصف الأخير من رمضان في عهد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، فلذلك رأى بعض أهل العلم أن القنوت في الوتر لا يشرع طوال العام إلا في النصف الأخير من رمضان، وبهذا أخذ الشافعية فهم لا يقنتون في الوتر طوال العام إلا في النصف الأخير من رمضان، ودليلهم قوي؛ لإجماع الصحابة -رضي الله عنهم- على ذلك.
وأما من يقنت في الوتر طوال العام بحجة الحديث الذي يروى عن تعليم النبي -صلى الله عليه وسلم- للحسن -رضي الله عنه- دعاء القنوت المشهور، فقد قال بعض أهل العلم: لا بأس بذلك. إذاً فمن قنت أو ترك. أو اقتصر على النصف الأخير من رمضان فلا بأس. ولا ينكر على أحد منهم، فالأمر واسع، والحمد لله.
ولكن الأرجح هو أن يكون دعاء القنوت في النصف الأخير من رمضان، والدعاء في القنوت ينبغي أن يكون موافقاً لما ثبت عن إجماع الصحابة، مع البعد عن التعدي في الأقوال والبعد عن الإطالة والتنغيم تشبهاً بقراءة القرآن، والأولى خشوع القلوب بالقرآن وبحسن التلاوة، مع تطبيق السنن في الصلاة من خشوع وطمأنينة، وقراءة دعاء الاستفتاح الذي يتهاون به كثير من أئمة التراويح هذه الأيام، نسأل الله لنا ولهم الهداية والإخلاص في القول والعمل إنه سميع مجيب.