الكبير
كلمة (كبير) في اللغة صفة مشبهة باسم الفاعل، وهي من الكِبَر الذي...
العربية
المؤلف | محمد بن إبراهيم النعيم |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | أركان الإيمان - التوحيد |
لقد قام الإسلام على توحيد الله -تعالى- وعبادته، واللجوء إليه، والاستغاثة به، وحرم الاستغاثة بأي شيء آخر من عالم الغيب، كالجن والملائكة والأموات، وأن من استغاث بهؤلاء فقد أوقع نفسه في الشرك، وأمرنا نبينا -صلى الله عليه وسلم- إذا سألنا أن نسألَ الله، وإذا استعنا أن نستعينَ بالله، إلا أن...
الخطبة الأولى:
لقد أخبرنا رسولنا -صلى الله عليه وسلم- عن أعمال وأقوال تغضب الله -عز وجل- وتسخطه وحذرنا من الوقوع فيها، فمتى ما حل على العبد غضبُ الله فقد هوى، قال تعالى: (وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى)[طـه: 81].
أيها الإخوة في الله: كنت قد ذكرت لكم في عشر خطبٍ سابقة، بعض الأعمال التي تغضب الله -عز وجل- ولا يزال هناك العديد من تلك الأقوال والأفعال التي تدل على غضب الله -عز وجل- على العبد، ومنها: اتخاذ القبور مساجد، فقد روى عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ -رحمه الله تعالى- (وهو من كبار التابعين) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "اللَّهُمَّ لا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ، اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى قَوْمٍ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ"(رواه الإمام مالك).
فمن أسباب غضب الله -تعالى- على العبد: أن تتخذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد، أي موضعا للسجود عندها والصلاة فيها تبركا أو استغاثة بها.
فمن ذهب إلى قبور الصالحين لسؤالهم، والاستغاثة بهم وعرض حاجاته عليهم، فقد اتخذهم شركاء مع الله، وجعلهم أندادًا مع الله -جل وعلا-، والله -تعالى- يقول: (فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ)[البقرة: 22].
لقد قام الإسلام على توحيد الله -تعالى- وعبادته واللجوء إليه والاستغاثة به، وحرم الاستغاثة بأي شيء آخر من عالم الغيب، كالجن والملائكة والأموات، وأن من استغاث بهؤلاء فقد أوقع نفسه في الشرك، وأمرنا نبينا -صلى الله عليه وسلم- إذا سألنا أن نسألَ الله، وإذا استعنا أن نستعينَ بالله، إلا أن طائفة من المسلمين أصروا على اللجوء إلى غير الله وسؤال غير الله، والاعتقاد بالأموات من أهل القبور وأنهم ينفعون ويقربون إلى الله زلفى، ولذلك انتشرت كثير من المقامات والأضرحة والقبور داخل بعض المساجد في كثير من دول العالم الإسلامي، وأصبحت تلك القبور مساجد يسجدون عندها أو يصلون عندها، وبعضهم يطوف حولها متبركا بحد زعمه بصلاح ذلك الميت وبقربه من الله -عز وجل-.
وبعضهم يتشبث بشبهات ما أنزل الله بها من سلطان بجواز دفن الأموات داخل المساجد لسؤالهم أو الصلاة عندها للتبرك بهم، مستدلين بأن قبر اسماعيل -عليه السلام- موجود في حجر اسماعيل، وأن بين الحجر الأسود وزمزم قبر سبعين نبيا، وكل ذلك لم يصح عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، فلو كان الأمر صحيحا لنبهنا إليه النبي -صلى الله عليه وسلم-، فكيف يُدّعى بأن الحرم المكي فيه قبور أنبياء؟ والنبي-صلى الله عليه وسلم- قد لعن من اتخذ قبور أنبيائهم مساجد؟
وبعضهم يتخذون مقامات لبعض الصالحين فيدفنوهم في المساجد ليطوف حوله الناس ويضعون صناديق نذور وتبرعات ليأكلوا أموال الناس بالباطل مستدلين بجواز وضع المقامات والقبور في المساجد لوجود مقام إبراهيم -عليه السلام- بجوار الكعبة، وما علموا أن مقام إبراهيم -عليه السلام- ما هو إلا صخرة بها أثر لقدميه، وليس موطنا لقبره.
ومن شبه هؤلاء أيضا: ادعاؤهم أنه ورد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أن سبعين نبياً مدفونين في مَسْجِدِ الْخَيْفِ بمنى، فهذا الحديث لا يصح، والذي ورد هو ما رواه ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "صَلَّى فِي مَسْجِدِ الْخَيْفِ سَبْعُونَ نَبِيًّا فِيهِمْ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلامُ-، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ عَلَيْهِ عَبَاءَتَانِ قَطَوَانِيَّتَانِ وَهُوَ مُحْرِمٌ عَلَى بَعِيرٍ مِنْ أَزْدِ شَنُوءَةَ مَخْطُومٍ"(رواه الطبراني وحسنه الألباني)، فمسجد الخيف صلى فيه سبعون نبيا وليس دفن فيه سبعون نبيا.
ومن شبه القوم أيضا: استدلالهم بالآية التي في سورة الكهف حيث قال تعالى: (قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا)[الكهف: 21].
فهل هذه الآية دليل في جواز بناء المساجد على القبور؟
قال المفسرون: بأن الذين قالوا ذلك الكلام هم أهل الغلبة والسلطة، ولم يقله العلماء والصالحون، وإنما قاله حكامهم ورؤساؤهم، لقوله تعالى: (قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا)[الكهف: 21]، والله -تعالى- ذكر ذلك إخبارا وليس إقرارا بحسن صنيعهم.
وعلى افتراض تقريره، فإن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد في شرعنا خلافه، وما دام ورد في شرعنا النهي عن اتخاذ القبور مساجد فلا تجوز الصلاة فيها، لا سيما أنه ورد اللعن والغضب على من فعل ذلك، حيث روت عَائِشَةُ -رضي الله عنها- فقَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي مَرَضِهِ الَّذِي لَمْ يَقُمْ مِنْهُ: "لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ"، قَالَتْ: "فَلَوْلا ذَاكَ أُبْرِزَ قَبْرُهُ، غَيْرَ أَنَّهُ خُشِيَ أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا"(متفق عليه).
ولعل قائلا يقول: إن هذا اللعن نزل بحق اليهود والنصارى وليس بحقنا، أقول بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- حين ذكر ذلك قصد تحذيرنا أن لا نقع فيما وقع فيه أهل الكتاب، وقد جاء النهي لنا صريحا بعدم اتخاذ القبور مساجد، في الحديث الذي رواه جُنْدَبٌ -رضي الله عنه- قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِخَمْسٍ وَهُوَ يَقُولُ: "...أَلا وَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ وَصَالِحِيهِمْ مَسَاجِدَ، أَلا فَلا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ، إِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ"(رواه مسلم).
ومن أكبر الشبه التي يستدل بها بعض الناس بجواز دفن الصالحين في المساجد للتبرك بها، هو: وجود قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- وقبر صاحبيه -رضي الله عنهما- داخل المسجد النبوي الشريف.
وما علموا بأن النبي-صلى الله عليه وسلم- في بيت عائشة -رضي الله عنها- وكان خارج المسجد، فالأصل في مسجد الرسول أنه بني لله -تعالى- ولم يبن على قبر، وإنما أدخل قبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالتوسعة، وكان ذلك في عهد الوليد بن عبد الملك عام ثمان وثمانين هجرية، ولم يكن ذلك بموافقة أهل العلم، فقد جمع عمر بن عبد العزيز والي المدينة المنورة حين ذاك وجوه الناس وفقهاء المدينة، وقرأ عليهم كتاب الوليد بن عبد الملك الذي طلب فيه توسعة المسجد النبوي من كل الجهات، وهدم حجرات النبي -صلى الله عليه وسلم- فشق عليهم ذلك وقالوا: بأن مشاهدة الحجاج وعموم الناس لحجرات النبي -صلى الله عليه وسلم- ومدى تواضعها فيه عبرة وأدعى للزهد في الدنيا فرأوا عدم هدمها، فكتب عمر بن عبد العزيز إلى أمير المؤمنين بما أجمع عليه فقهاء المدينة، فأرسل إليه يأمره بهدمها، فغلب القرار السياسي القرار الديني، فلم يجد عمر بن عبد العزيز بدّا من هدمه وتوسعة المسجد، ولما شرعوا في الهدم صاح الأشراف ووجوه الناس وتباكوا مثل يوم مات النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصبحت حجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- التي فيها قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- وصاحبيه داخل المسجد، الأمر الذي أوقع الأمة في فتنة لا تزال كثير من دول العالم الإسلامي تعاني منها، إذ كثير من العوام بنوا قبور بعض الصالحين داخل المساجد للتبرك بها والطواف حولها مستدلين بوجود قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- داخل مسجده، وما علموا أن قبره صلى الله عليه وسلم كان خارج المسجد، ثم أدخل اضطرارا.
ولحرص السلف على عدم اتخاذ قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- مكانا للسجود والصلاة عنده، قال النووي -رحمه الله تعالى- بأن السلف بنوا جدارين على ركني القبر الشماليين وحرفوهما حتى التقيا في صورة مثلث، حتى لا يتمكن أحد من استقبال القبر.
أسأل الله -تعالى- أن يحفظنا من الشرك وتوابعه، وأن يجنبنا غضبه، وأن يخلص لنا أعمالنا ونياتنا، ويفقهنا في أمر ديننا.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، الجليل لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي سلك بأهل الاستقامة سبيل السلامة، أحمده سبحانه وأشكره وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ نبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله -تعالى- حق التقوى، واحذروا المساجد التي فيها قبور فتجنبوها، ولعل قائلا يقول: ما الفائدة من هذه الخطبة وبلادنا ليس فيها أضرحة ولا مقامات ولا قبور يطاف حولها، فهذا صحيح ولله الحمد، ولكني أبين ذلك لأنه يوجد بيننا أناس وافدين قد انتشرت عندهم هذه الشركيات ليحذروها، وكذلك أُبيّن لمن يذهب إلى أي بلد إسلامي للسياحة، فقد يدخل مسجدا فيه قبر، فما حكم الصلاة في ذلك المسجد؟
قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله تعالى-: "إذا كان هذا المسجدُ مبنيًّا على القبر، فإن الصلاةَ فيه محرمة، ويجب هدمه؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لعن اليهودَ والنصارى حيث اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد تحذيرًا مما صنعوا. وأما إذا كان المسجدُ سابقًا على القبر، فإنه يجب إخراجَ القبر من المسجد ويدفن فيما يدفن فيه المسلمون، ولا حرج علينا في هذه الحال إذا نبشنا هذا القبر؛ لأنه دُفِن في مكان لا يحل أن يدفن فيه، فإن المساجد لا يحل دفن الموتى فيها" ا. هـ.
فخلاصة الخطبة -يا عباد الله-: أن من ذهب إلى مسجد فيه قبر وصلى فيه رجاء بركة ذلك القبر، فقد وقع في غضب الله، خصوصا إذا كان المسجد بني لأجل وجود ذلك القبر، قال المباركفوري في شرحه على سنن الترمذي: "فَمَنْ اِتَّخَذَ مَسْجِدًا بِجِوَارِ نَبِيٍّ أَوْ صَالِحٍ رَجَاءَ بَرَكَتِهِ فِي الْعِبَادَةِ وَمُجَاوَرَةِ رُوحِ ذَلِكَ الْمَيِّتِ فَقَدْ شَمِلَهُ الْحَدِيثُ شُمُولاً وَاضِحًا كَشَمْسِ النَّهَارِ، وَمَنْ تَوَجَّهَ إِلَيْهِ وَاسْتَمَدَّ مِنْهُ فَلا شَكَّ أَنَّهُ أَشْرَكَ بِاَللَّهِ وَخَالَفَ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَمَا وَرَدَ فِي مَعْنَاهُ. وَلَمْ يُشْرَعْ الزِّيَارَةُ فِي مِلَّةِ الإِسْلامِ إِلاَّ لِلْعِبْرَةِ وَالزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا وَالدُّعَاءِ بِالْمَغْفِرَةِ لِلْمَوْتَى" ا. هـ.
فالعكوف على القبور، والتمسح بها وتقبيلها والدعاء عندها، هو أصل الشرك وعبادة الأوثان، ولهذا اتفق العلماء على أن من زار قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أو قبر غيره من الأنبياء والصالحين، فانه لا يتمسح به ولا يقبله، وليس في الدنيا ما شُرع تقبيله الا الحجرُ الأسود، روت عَائِشَةُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فِي مَرَضِهِ الَّذِي لَمْ يَقُمْ مِنْهُ "لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ" قَالَتْ: عَائِشَةُ لَوْلا ذَلِكَ لأبْرِزَ قَبْرُهُ، خَشِيَ أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا"(متفق عليه).
اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا...
اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت...
اللهم أحينا على أحسن الأحوال...
اللهم ارزقنا الثبات حتى الممات...
اللهم أصلح لنا ديننا....
اللهم احفظ علينا أمننا واستقرارنا، وأصلح ولاة أمرنا...