القادر
كلمة (القادر) في اللغة اسم فاعل من القدرة، أو من التقدير، واسم...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - الأطفال |
وَمِنَ الْأَخْطَاءِ فِي مُعَاقَبَةِ الْأَطْفَالِ: الشِّدَّةُ وَالْغِلْظَةُ فِي الْمُعَامَلَةِ، وَاسْتِعْمَالُ الْأَلْفَاظِ النَّابِيَةِ وَالْقَاسِيَةِ، وَهَذَا يُورِثُ الْأَطْفَالَ النُّفُورَ عَنِ الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ وَكَرَاهِيَتَهُمْ لَهُمْ إِذَا اسْتَمَرَّ مَعَهُمْ ذَلِكَ التَّعَامُلُ الْجَافِي.
الخُطْبَةُ الأُولَى:
إِنَّ الْحَمْدَ للهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَتُوبُ إِلَيْهِ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71]، أَمَّا بَعْدُ:
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: فَإِنَّ الْأَطْفَالَ نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ، وَمِنَّةٌ جَسِيمَةٌ، وَزِينَةٌ فِي الدُّنْيَا ظَاهِرَةٌ، غَيْرَ أَنَّ هَذِهِ النِّعْمَةَ كَدَّرَتْهَا عِنْدَ الأَبَوَيْنِ شَكَاسَةُ الْأَطْفَالِ، وَسُوءُ سُلُوكِهِمْ فِي الْأَفْعَالِ وَالْأَقْوَالِ، وَعِصْيَانُهُمْ وَتَمَرُّدُهُمْ عَنِ الطَّاعَةِ؛ مِمَّا قَدْ يُؤَجِّجُ ذَلِكَ نَارَ الْغَضَبِ فِي نُفُوسِ الآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ؛ حَتَّى يَتَطَايَرَ مِنْ ذَلِكَ الْغَضَبِ شَررُ الْعِقَابِ لِأُولَئِكَ الْأَوْلَادِ الْمُخَالِفِينَ لِمَنْهَجِ الِانْقِيَادِ وَالْبِرِّ.
غَيْرَ أَنَّ ذَلِكَ التَّأْدِيبَ قَدْ يَتَجَاوَزُ حَدَّ التَّأْدِيبِ إِلَى الْإِيذَاءِ وَالتَّعْذِيبِ، وَبِذَلِكَ يَحْدُثُ انْحِرَافٌ كَبِيرٌ فِي مُعَاقَبَةِ الْأَطْفَالِ؛ حَيْثُ يَصِيرُ ذَلِكَ الْعِقَابُ الْخَاطِئُ انْتِصَارًا لِلنَّفْسِ، بَدَلَ تَرْبِيَةِ الطِّفْلِ وَإِعَانَتِهِ عَلَى اعْتِدَالِ سُلُوكِهِ وَفِعْلِهِ؛ فَحَتَّى لَا يَقَعَ الْخَلَلُ فِي التَّرْبِيَةِ كَانَ لِزَامًا تَحَسُّسُ الْأَخْطَاءِ الَّتِي رُبَّمَا يَقَعُ فِيهَا الْمُرَبُّونَ وَالآبَاءُ.
عِبَادَ اللهِ: مِنَ الْوَسَائِلِ الْخَاطِئَةِ فِي مُعَاقَبَةِ الْأَطْفَالِ: الدُّعَاءُ عَلَيْهِمْ بِمَا يَضُرُّهُمْ وَيُصِيبُهُمْ فِي عَاجِلِ أَمْرِهِمْ أَوْ آجِلِهِ؛ وَدَعْوَةُ الْوَالِدَيْنِ لِأَوْلَادِهِمَا مِنَ الدَّعَوَاتِ الَّتِي أَخْبَرَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِأَنَّهَا مَظِنَّةُ الْإِجَابَةِ؛ فَقَدْ قَالَ-عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-: "ثَلَاثُ دَعَوَاتٍ يُسْتَجَابُ لَهُنَّ، لَا شَكَّ فِيهِنَّ: دَعْوَةُ الْمَظْلُومِ، وَدَعْوَةُ الْمُسَافِرِ، وَدَعْوَةُ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ"(رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ).
وَمِنَ الْمُحْزِنِ أَنَّكَ تَجِدُ بَعْضَ الآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ مَنْ يَرْفَعُ أَكُفَّ الدُّعَاءِ فِي سَاعَةِ غَضَبٍ بِالدَّعَوَاتِ عَلَى أَفْلَاذِ الْأَكْبَادِ، وَلَا يُفَكِّرُ الْوَالِدُ الدَّاعِي فِي عَاقِبَةِ دُعَائِهِ لَوِ اسْتُجِيبَ لَهُ، وَلِذَلِكَ حَذَّرَنَا رَسُولُنَا الْكَرِيمُ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- مِنْ هَذَا؛ فَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لَا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَوْلَادِكُمْ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَمْوَالِكُمْ؛ لَا تُوَافِقُوا مِنَ اللهِ سَاعَةً يُسْأَلُ فِيهَا عَطَاءً فَيَسْتَجِيبُ لَكُمْ"(رَوَاهُ مُسْلِمٌ).
وَتِلْكَ الدَّعَوَاتُ الَّتِي رَفَعَهَا الْوَالِدُ أَوِ الْوَالِدَةُ إِلَى السَّمَاءِ عَلَى أَحَدِ الْأَوْلَادِ قَدْ تُسْتَجَابُ أَحْيَانًا؛ كَمَا حَصَلَ فِي الْقِصَّةِ الَّتِي رَوَاهَا الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي صَحِيحَيْهِمَا -وَالسِّيَاقُ لِمُسْلِمٍ- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "لَمْ يَتَكَلَّمْ فِي الْمَهْدِ إِلَّا ثَلَاثَةٌ: عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، وَصَاحِبُ جُرَيْجٍ، وَكَانَ جُرَيْجٌ رَجُلًا عَابِدًا، فَاتَّخَذَ صَوْمَعَةً، فَكَانَ فِيهَا، فَأَتَتْهُ أُمُّهُ وَهُوَ يُصَلِّي، فَقَالَتْ: يَا جُرَيْجُ، فَقَالَ: يَا رَبِّ أُمِّي وَصَلَاتِي، فَأَقْبَلَ عَلَى صَلَاتِهِ، فَانْصَرَفَتْ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ أَتَتْهُ وَهُوَ يُصَلِّي، فَقَالَتْ: يَا جُرَيْجُ، فَقَالَ: يَا رَبِّ أُمِّي وَصَلَاتِي، فَأَقْبَلَ عَلَى صَلَاتِهِ، فَانْصَرَفَتْ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ أَتَتْهُ وَهُوَ يُصَلِّي، فَقَالَتْ: يَا جُرَيْجُ، فَقَالَ: أَيْ رَبِّ أُمِّي وَصَلَاتِي، فَأَقْبَلَ عَلَى صَلَاتِهِ، فَقَالَتْ: اللَّهُمَّ لَا تُمِتْهُ حَتَّى يَنْظُرَ إِلَى وُجُوهِ الْمُومِسَاتِ، فَتَذَاكَرَ بَنُو إِسْرَائِيلَ جُرَيْجًا وَعِبَادَتَهُ، وَكَانَتِ امْرَأَةٌ بَغِيٌّ يُتَمَثَّلُ بِحُسْنِهَا، فَقَالَتْ: إِنْ شِئْتُمْ لَأَفْتِنَنَّهُ لَكُمْ، قَالَ: فَتَعَرَّضَتْ لَهُ، فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهَا، فَأَتَتْ رَاعِيًا كَانَ يَأْوِي إِلَى صَوْمَعَتِهِ، فَأَمْكَنَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا، فَوَقَعَ عَلَيْهَا فَحَمَلَتْ، فَلَمَّا وَلَدَتْ قَالَتْ: هُوَ مِنْ جُرَيْجٍ، فَأَتَوْهُ فَاسْتَنْزَلُوهُ وَهَدَمُوا صَوْمَعَتَهُ وَجَعَلُوا يَضْرِبُونَهُ فَقَالَ: مَا شَأْنُكُمْ؟ قَالُوا: زَنَيْتَ بِهَذِهِ الْبَغِيِّ، فَوَلَدَتْ مِنْكَ، فَقَالَ: أَيْنَ الصَّبِيُّ؟ فَجَاءُوا بِهِ، فَقَالَ: دَعُونِي حَتَّى أُصَلِّيَ، فَصَلَّى، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَتَى الصَّبِيَّ فَطَعَنَ فِي بَطْنِهِ، وَقَالَ: يَا غُلَامُ مَنْ أَبُوكَ؟ قَالَ: فُلَانٌ الرَّاعِي، قَالَ: فَأَقْبَلُوا عَلَى جُرَيْجٍ يُقَبِّلُونَهُ وَيَتَمَسَّحُونَ بِهِ، وَقَالُوا: نَبْنِي لَكَ صَوْمَعَتَكَ مِنْ ذَهَبٍ، قَالَ: لَا، أَعِيدُوهَا مِنْ طِينٍ كَمَا كَانَتْ، فَفَعَلُوا....".
فَتَأَمَّلُوا -رَحِمَكُمُ اللهُ- فِي أَثَرِ دَعْوَةِ الْأُمِّ!
غَيْرَ أَنَّ رَحْمَةَ اللهِ -تَعَالَى- بِعِبَادِهِ اقْتَضَتْ أَلَّا يَسْتَجِيبَ كُلَّ دَعْوَةٍ صَدَرَتْ مِنَ الْوَالِدَيْنِ عَلَى الْأَوْلَادِ؛ كَمَا قَالَ -تَعَالَى-: (وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ)[يونس:11]، وقال -أيضًا-: (وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولًا)[الإسراء:11].
أَيُّهَا الْمُرَبُّونَ: وَمِنَ الْأَخْطَاءِ فِي مُعَاقَبَةِ الْأَطْفَالِ: الْحِرْمَانُ الدَّائِمُ؛ ظَنًّا أَنَّ هَذَا أُسْلُوبٌ فِي تَجْفِيفِ مَنَابِعِ التَّدْلِيلِ الْمُفْسِدِ، وَهَذَا خَلَلٌ فِي التَّرْبِيَةِ رُبَّمَا أَدَّى نَتَائِجَ عَكْسِيَّةً فِي نَفْسِ الطِّفْلِ وَفِي انْكِسَارِ شَخْصِيَّتِهِ؛ فَالْأَطْفَالُ لَدَيْهِمْ نَوَازِعُ وَرَغَبَاتٌ، فَهُمْ يُحِبُّونَ اللَّعِبَ وَالْمَرَحَ، وَاللِّقَاءَ بِالْأَصْدِقَاءِ مِنَ الْجِيرَانِ وَالْأَقَارِبِ وَالزُّمَلَاءِ، كَمَا يُحِبُّونَ النُّقُودَ، وَقَدْ يُفَضِّلُونَ أَكَلَاتٍ مُعَيَّنَةً أَوْ حَلْوَى مُحَدَّدَةً لَدَيْهِمْ؛ فَبَعْضُ الْآبَاءِ أَوِ الْأُمَّهَاتِ حِينَمَا يَحْدُثُ مِنْ أَطْفَالِهِمْ أَخْطَاءٌ فَإِنَّهُمْ يُسَارِعُونَ إِلَى عُقُوبَتِهِمْ بِالْحِرْمَانِ الدَّائِمِ مِنْ تِلْكَ الْمَحْبُوبَاتِ! وَهَذَا الْعِقَابُ بِهَذَا الِامْتِدَادِ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ إِذْ إِنَّهُ قَدْ يَعْكِسُ النَّتَائِجَ عَلَيْهِمْ.
نَعَمْ لِلْحِرْمَانِ، وَنَعَمْ لِقَوْلِ: لَا، وَلَكِنْ لِيَكُنْ ذَلِكَ بِقَدْرِ الذَّنْبِ؛ فَلْيَكُنْ مُدَّةً مُعَيَّنَةً حَتَّى يَعْرِفَ الطِّفْلُ خَطَأَهُ وَلَا يُكَرِّرُهُ مَرَّةً أُخْرَى فَيُحْرَمُ ذَلِكَ الْمَحْبُوبَ.
وَمِنَ الْأَخْطَاءِ فِي مُعَاقَبَةِ الْأَطْفَالِ: الشِّدَّةُ وَالْغِلْظَةُ فِي التَّأْدِيبِ، وَاسْتِعْمَالُ الْأَلْفَاظِ الْقَاسِيَةِ، وَهَذَا يُورِثُ الْأَطْفَالَ النُّفُورَ عَنِ الآبَاءِ وَجَفَائِهِمْ وَتَمَرُّدِهِمْ.
هَذَا السُّلُوكُ الْأَبَوِيُّ فِي الْعِقَابِ سُلُوكٌ خَاطِئٌ؛ لِأَنَّهُ يُخَالِفُ تَعَالِيمَ الْإِسْلَامِ الدَّاعِيَةِ إِلَى الرِّفْقِ وَاللِّينِ حَتَّى فِي إِقَامَةِ الْحُدُودِ عَلَى أَهْلِهَا، فَكَيْفَ بِطِفْلِكَ وَفِلْذَةِ كَبِدِكَ؟! كَمَا أَنَّ فِي ذَلِكَ السُّلُوكِ مُبَايَنَةً لِأَسَالِيبِ التَّرْبِيَةِ النَّاجِحَةِ الَّتِي يُرْجَى مِنْ خِلَالِهَا نُبُوغُ الْأَطْفَالِ وَاسْتِقَامَتِهِمْ، يَقُولُ -تَعَالَى-: (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ)[فصلت:34]، وَلَيْسَتِ الشِّدَّةُ وَالْغِلْظَةُ هُنَا مِنَ الدَّفْعِ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ.
مَعَاشِرَ الْآبَاءِ: وَمِنَ الْأَخْطَاءِ فِي مُعَاقَبَةِ الْأَطْفَالِ: التَّشْهِيرُ بِخَطَأِ الطِّفْلِ أَمَامَ الآخَرِينَ؛ فَأَنْتَ أَيُّهَا الْوَالِدُ أَوْ أَنْتِ أَيَّتُهَا الْوَالِدَةُ بِمَثَابَةِ الطَّبِيبِ الَّذِي يَصِفُ الدَّوَاءَ عَلَى قَدْرِ الدَّاءِ، وَكَالْجَرَّاحِ الَّذِي يَضَعُ الضِّمَادَ الْمُنَاسِبَ عَلَى الْجُرْحِ. وَتَعْنِيفُ الْوَلَدِ الْمُخْطِئِ أَمَامَ غَيْرِهِ إِعَانَةٌ لَهُ عَلَى اسْتِمْرَارِ الدَّاءِ، وَعِلَاجٌ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْإِعْلَانَ بِالتَّعْنِيفِ -خَاصَّةً أَمَامَ زُمَلَائِهِ وَمَعَارِفِهِ- يَضُرُّ شَخْصِيَّةَ الطِّفْلِ، وَيُشَجِّعُهُ عَلَى الْإِصْرَارِ عَلَى ذَلِكَ الْخَطَأِ، وَيَنْقُصُ مِنْ حُبِّ وَالِدَيْهِ فِي نَفْسِهِ، وَيُرَبِّي فِيهَا انْتِهَازَ فُرْصَةٍ لِلِانْتِقَامِ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْجَهْرِ بِالتَّعْنِيفِ.
وَقَدْ عَلَّمَنَا الْإِسْلَامُ الْأُسْلُوبَ النَّاجِحَ فِي الْعِتَابِ، وَهُوَ اسْتِعْمَالُ التَّلْوِيحِ بَدَلَ التَّصْرِيحِ إِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي الْمَلَأِ؛ فَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سَبَّابًا وَلَا فَحَّاشًا وَلَا لَعَّانًا، وَكَانَ يَقُولُ لِأَحَدِنَا عِنْدَ الْمَعْتَبَةِ: "مَا لَهُ تَرِبَ جَبِينُهُ!"، وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِينَ يَحْصُلُ خَطَأٌ مِنْ أَحَدِ أَصْحَابِهِ، وَيَحْتَاجُ إِلَى مُعَالَجَتِهِ، وَتَنْبِيهِ النَّاسِ عَلَى تَجَنُّبِ ذَلِكَ، لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَذْكُرُ الْمُخْطِئَ بِاسْمِهِ، بَلْ كَانَ كَثِيرًا مَا يَقُولُ: "مَا بَالُ أَقْوَامٍ...؟".
فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ مِنَ التَّعْيِينِ فَيَتَجَنَّبُ الْوَالِدَانِ الْإِعْلَانَ بِالتَّعْنِيفِ أَمَامَ الْآخَرِينَ، بَلْ يَكُونُ عِلَاجُ ذَلِكَ الْخَطَأِ فِي السِّرِّ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ أَدْعَى لِسَمَاعِ كَلَامِ الْوَالِدَيْنِ، وَأَنْجَعُ فِي الْبُعْدِ عَنِ ذَلِكَ الْخَطَأِ.
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ، فَاسْتَغْفِرُوهُ؛ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الْحَمْدُ للهِ وَكَفَى، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى النَّبِيِّ الْمُجْتَبَى، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ الْأَخْيَارِ الْأَوْفِيَاءِ؛ أَمَّا بَعْدُ:
أَيُّهَا الْمُرَبُّونَ وَالْآبَاءُ: الضَّرْبُ وَالْعِقَابُ الْبَدَنِيُّ الْمُبَرِّحُ، خَطَأٌ ظَاهِرٌ فِي التَّرْبِيَةِ، يَبْنِي جِسْرًا مِنَ النُّفُورِ، وَكَسْرًا لِلنَّفْسِ، وَجُرْحًا غَائِرًا يَصْعُبُ الْتِئَامُهُ؛ فجَسَدُ الْأَطْفَالِ لَا يَحْتَمِلُ السَّوْطَ وَلَا شِدَّةَ الضَّرْبِ، قَسْوَةٌ وَأَيُّ قَسْوَةٍ أَنْ تُطْفَى جَمْرَةُ غَضَبِ الْوَالِدِ عَلَى هَذِهِ الْأَجْسَادِ الضَّعِيفَةِ، ثُمَّ يَظُنُّ جَهْلًا أَنَّهُ يُحْسِنُ صُنْعًا؟!
وَكَمْ مِنَ الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ مَنْ تَجَرَّعَ حَسَرَاتِ الْأَسَى وَالنَّدَمِ بَعْدَ أَنْ رَأَى عَوَاقِبَ فِعْلِهِ الطَّائِشِ الْمِعْوَجِّ؛ مِنْ كَسْرِ عُضْوٍ مِنَ الْأَعْضَاءِ، أَوْ جُرْحٍ مِنَ الْجُرُوحِ الْغَائِرَةِ، أَوْ أَوْصَلَ إِلَى إِعَاقَةٍ دَائِمَةٍ، بَلْ وَصَلَ الْأَمْرُ إِلَى مَوْتِ بَعْضِ الْأَبْنَاءِ!! وَالْوَاقِعُ مَلِيءٌ بِالْأَمْثِلَةِ عَلَى هَذِهِ النَّتَائِجِ الْمُرَّةِ.
عِبَادَ اللهِ: يَبْقَى الضَّرْبُ وَسِيلَةً مِنَ الْوَسَائِلِ الْمَشْرُوعَةِ لِلتَّقْوِيمِ وَالتَّأْدِيبِ لِلْمُخْطِئِينَ؛ غَيْرَ أَنَّ هَذِهِ الْوَسِيلَةَ لَا بُدَّ مِنِ اسْتِعْمَالِهَا بِقَدْرٍ مَحْدُودٍ وَفِي أَمَاكِنَ مُعَيَّنَةٍ، وَوَسِيلَةٍ لِلضَّرْبِ لَا تَضُرُّ الْأَطْفَالَ، مَعَ تَجَنُّبِ اسْتِخْدَامِ الضَّرْبِ الشَّدِيدِ وَصَفْعِ الْوَجْهِ، وَالْعَصَا الْحَدِيدِيَّةِ وَالْكَبِيرَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَمِنَ الْأَخْطَاءِ فِي مُعَاقَبَةِ الْأَطْفَالِ: تَحْقِيرُهُمْ أَمَامَ الْآخَرِينَ، وَهَذَا الْعِقَابُ لَهُ أَثَرٌ نَفْسِيٌّ سَيِّئٌ عَلَى الْأَطْفَالِ، وَهُوَ عِلَاجٌ يَزِيدُ الْمَرَضَ عِلَّةً، وَالْخَطَأَ اتِّسَاعًا.
وَمِنَ الْأَخْطَاءِ فِي مُعَاقَبَةِ الْأَطْفَالِ -أَيْضًا-: عَدَمُ قَبُولِ اعْتِذَارِهِمْ عَلَى أَخْطَائِهِمْ، وَمَا أَسْوَأَ هَذَا الْعِقَابَ! حَيْثُ إِنَّهُ يُشَجِّعُهُمْ عَلَى طُولِ صُحْبَةِ تِلْكَ الْأَخْطَاءِ، وَعَدَمِ مُعَاتَبَةِ أَنْفُسِهِمْ عَلَى ارْتِكَابِهَا، وَمَا أَقْبَحَ أَنْ يَكُونَ الْوَالِدَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا مُعِينًا لِأَوْلَادِهِ عَلَى الِاعْوِجَاجِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَشْعُرَ بِذَلِكَ!
عِبَادَ اللهِ: عَلَيْنَا نَحْنُ -الْآبَاءَ-، وَكَذَلِكَ عَلَى الْأُمَّهَاتِ: أَنْ نُرَاجِعَ أَنْفُسَنَا فِي مُعَاقَبَةِ أَطْفَالِنَا عَلَى أَخْطَائِهِمْ؛ فَلْنَكُنْ حَازِمِينَ مَعَهُمْ وَلَكِنْ بِرَحْمَةٍ وَعَطْفٍ، وَحِكْمَةٍ وَرِفْقٍ، فَنَضَعُ الْعِقَابَ كَالدَّوَاءِ الَّذِي يُشْفَى بِهِ الدَّاءُ؛ فَإِنْ كَانَ دَوَاؤُنَا سَيَزِيدُ السُّقْمَ وَالْأَلَمَ فَلْنَتَجَنَّبْ ذَلِكَ.
نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُعِينَنَا وَإِيَّاكُمْ عَلَى تَرْبِيَةِ أَطْفَالِنَا التَّرْبِيَةَ الصَّحِيحَةَ النَّاجِحَةَ.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى خَيْرِ الْبَرِيَّةِ؛ (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب:56].