الشكور
كلمة (شكور) في اللغة صيغة مبالغة من الشُّكر، وهو الثناء، ويأتي...
العربية
المؤلف | حمزة بن فايع آل فتحي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - الدعوة والاحتساب |
أنتم منائر الناس، ومصابيح المجتمع، وسُرُج الحياة، فلا يستفزنكم تطاولُ جاهل، أو يَحطمنْكم تحاملُ سخيف، وكونوا كالأنبياء صبرًا، وكالجبال شموخًا. من يضاهي فضلكم، أو يداني منازلَكم؟! كل مجتهد ومثابر، خرج من عباءتكم، وكل ناجح ومبتكر، هو بعضُ غراسكم. أنتم شامة الناس، وعنوان الإنجاز، ومصدر الإشعاع والإبداع...
الخطبة الأولى:
الحمد لله عددَ خلقه، وزنةَ عرشه، ومدادَ كلماته، والحمدُ لله قدّر الأقدار، وكتب الآجال، وكور الليل على النهار، والحمد لله على أفضاله، وواسع نعمائه، نحمده ونشكره، ومن كل ذنب نستغفره، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمدًا عبده ورسوله، النبي المختار، وسيد الأبرار، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً مزيداً إلى يوم القرار.
أما بعد: فاتقوا الله يا مسلمون حق التقوى (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ)[سورة الطلاق:2-3].
أيها الناس: ماذا ينقدحُ في ذهن أحدكم، وهو يودع عاماً ويستقبل عاماً جديداً؟!
نودع عامَنا الماضي وإنا | لمسؤولون عن عامٍ جديدِ |
نقضّي دهرَنا فرحاً وحُزنا | وتأكُلنا الحياةُ بلا مفيدِ |
هل تفكّرت في تصرُّم الأيام، وهل تأملت في تغيُّر الأعمار، وكرّ الدهور والأعوام؟! وهل تذكرتَ إخوانا عاشرتَهم، وأصدقاء لازمتَهم، ثم غادروا إلى الله للحساب والجزاء؟! فاستيقن أنك عائد إلى الله (وَكُلُّهُمْ آَتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا)[مريم:95].
فاحذر طولَ الأمل، أو التعلق بالدنيا، أو المنافسة فيها، بل نافس في الآخرة، وسارع مع المسارعين، فرُبَّ كلمة تهديك إلى الجنة، وربَّ طاعة رفعتك للدرجات العاليات (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا)[النساء:40]، وهذه وقفة أولى، قال -عليه الصلاة والسلام-: "مَن قال سبحان الله وبحمده غُرست له نخلةٌ في الجنة".
وفِي دخول العام الدراسي: وقفة ثانية للعلم، ومعتبَر للمدارس؛ فما تفاخرت الأممُ بشيء كالعلم، هل ترفعهم الرياضة، أو تعلو بهم الخرافات؟! كلا. إنّ الرفعةَ الحقيقية في العلم وجمعه، وفي تجاربِه واكتشافاته. وديننا دين العلم، ورسالتنا رسالة العلم، أما يكفيكم فخرًا أن أول آية في القرآن (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ)[العلق:1].
وهنالك -يا مسلمون- مستودع العلوم، ومنتهي الأخلاق، ومنائر الحكم، في الشخصية العظمى، والقدوة الجُلّى، رسولِنا الكريم -عليه الصلاة والسلام-؛ المعلم الأول، والواعظ المؤسس، والمربي الحكيم. وهل يليق تحدُّثنا عن العلم ودروسه ومؤسساته ولا نأتي على ذكره، ونقبِسَ من حكمه وتوجيهاته؟!
تذوب شخوص الناس في كل لحظة | وفِي كل بوم أنت في القلب تكبر ُ |
أتسأل عن أعمارنا؟ أنت عمرنا | وأنت لنا التاريخ وأنت المحرر ُ |
فقد أساءَ رجل في الصلاة في زمنه، وشمَّت إنسانًا عطس، فاغتاظ الصحابة ونبَّهوه حتى صمت، فلما قُضيت الصلاة استدعاه النبي -صلى الله عليه وسلم- ووعظه برفق، فيقول هذا الصحابي: "فَبِأَبِي هُوَ وَأُمِّي! مَا رَأَيْتُ مُعَلِّمًا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ أَحْسَنَ تَعْلِيمًا مِنْهُ، فَوَاللَّهِ مَا كَهَرَنِي وَلَا ضَرَبَنِي وَلَا شَتَمَنِي. وقَالَ له: "إِنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ، إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ".
فانظروا هنا لجمال المدرسة النبوية ولطفها؛ حيث الخُلُق والنُّبل، والآداب والوداد، والسكينة والأبوة، والرحمة والحكمة! فلا يمكن للمعلم أن ينجح بلا علم، ولا يمكن أن يتميز دون مهارة ورفق، ولا يمكن أن يخرج أجيالاً بلا رحمة وحكمة، وهذا درس متين.
وفِي وقفة ثالثة: للمعلمين الأفذاذ، أنتم منائر الناس، ومصابيح المجتمع، وسُرُج الحياة، فلا يستفزنكم تطاولُ جاهل، أو يَحطمنْكم تحاملُ سخيف، لم يوفِكم حقكم، أو يأخذكم إلى رحاب التوقير والتقدير، وكونوا كالأنبياء صبرًا، وكالجبال شموخًا، وكالأشجار نفعًا وظلالاً.
من يضاهي فضلكم، أو يداني منازلَكم؟! كل مجتهد ومثابر، خرج من عباءتكم، وكل ناجح ومبتكر، هو بعضُ غراسكم. أنتم شامة الناس، وعنوان الإنجاز، ومصدر الإشعاع والإبداع. لله درّكم! ليت شعري ما أقول، وكيف أصف، وماذا أقرر؟!
كُن كَالنَّخِيلِ عَنِ الأَحْقَادِ مُرْتَفِعًا | بِالطُّوبِ يُرْمَى فَيَرْمِي أَطْيَبَ الثَّمَرِ |
فارم على أولئك الناقمين أطيب الثمار بتربية أبنائهم، وصناعة جيلنا، وإصلاح ناشئتنا.
وفِي وقفة رابعة: للأبناء والجيل القادم: تذكروا أن العلم أسمى أمانيكم، وأن الدراسة بقدر ما تُتعبكم تسعدكم، وتعلي من شأنكم؛ فخذوا من المدارس والجامعات والمعاهد مزاهرَ العلم، ومحاسن الآداب، وروائع الحِكم، قال -صلى الله عليه وسلم-: "مَن سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا، سهَّل الله له طريقًا إلى الجنة".
واصبر يا بُني على شدة معلم، أو جفاء أستاذ، وطول مقررات؛ فقد قيل:
من لم يذق مر التعلم ساعةً | تجرع ذل الجهل طول حياتهِ |
اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بِما علمتنا، وزدنا علمًا وعملاً، وإيماناً وإخلاصاً.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم...
الخطبة الثانية:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد:
أيها الإخوة الفضلاء: فضّلكم اللهُ بالدِّين وبالعلم وبالأخلاق، فتداركوا أعمارَكم، وزكوا نفوسكم، وراقبوا أبناءكم، واستثمروا ما بقي من حياتكم.
قال الإمام ابن القيم -رحمه الله تعالى-: "وقت الإنسان هو عُمره في الحقيقة، وهو مادةُ حياته الأبدية في النعيم المقيم، ومادةُ معيشته الضنك في العذاب الأليم، وهو يَمر مرَّ السحاب، فمن كان وقتُه لله -تعالى- وبالله -تعالى-، فهو حياته وعمره، وغير ذلك ليس محسوباً من حياته".
فلا يذهب الوقتُ عنكم بلا اعتبار، ولا تمر ساعاته بلا ذكر، ولا تغِب لحظاته دون عبادة .. فأنتم في شهر الله المحرم، ويُستحب صيامه كما قال -صلى الله عليه وسلم-: "أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم"؛ وهذه وقفة خامسة: فلا تفوّتوه عبادة وصياماً، لا سيما عاشوراء المجد والنصر والتغيير.
ولنتعلم من أسلافنا جدّهم ومسارعتَهم. انظر إلى بلال -رضي الله عنه- سمع -صلى الله عليه وسلم- دَفَّ نعليه في الجنة؛ فسأله فقال: "أرجى عمل عندي أني لم أتطهر طُهورًا في ساعة من ليل أو نهار، إلا صليت بذلك الطَّهور ما كُتب لي أن أصلي".
واسمع ما يقول الحسن البصري -رحمه الله-: "أدركتُ أقوامًا كانوا على أوقاتهم، أشدَّ حرصًا منكم على دراهمكم ودنانيركم".
وتأمل وتعلم من حافظي الأوقات، وضابطي الساعات. وقد تعلم الإمام الشافعي -رحمه الله- من الصوفية -مع انحرافهم- قولهم: "الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك"؛ فاقطع الزمان ادّكارًا واستثمارًا، وعمرانًا ومعالجة، وتطلابًا للآخرة؛ (وَإِنَّ الدَّارَ الْآَخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)[سورة العنكبوت:64].
وكان الخطيبُ البغدادي -رحمه الله- يسير ومعه كتاب يقرأ فيه، والمجد ابن تيمية -رحمه الله- كان يُقْرَأُ عليه وهو في الخلاء. وما ذاك إلا لتقدير الزمان، وتعظيم الساعات.
وفَّقنا الله وإياكم لمرضاته، وصلوا وسلموا -معاشر أهل الإسلام- على معلم الخير، ورسول الرحمة والملحمة نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.