الرحيم
كلمة (الرحيم) في اللغة صيغة مبالغة من الرحمة على وزن (فعيل) وهي...
العربية
المؤلف | خالد بن عبدالله الشايع |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - المنجيات |
إن المسلمين في هذا الزمن قد تكالبت عليهم الشرور والأعداء, وليس لهم قوة في أنفسهم؛ ولهذا ينبغي أن يفزعوا إلى الله بالدعاء, وأن يدعوَ كلُ مسلم لإخوانه من المستضعفين, فها هو النبي -عليه الصلاة والسلام- يستنصر لضعفاء المسلمين, ويدعو لهم في قنوت الفجر, وها هو يستنصر بالدعاء يوم بدر حتى سقط رداؤه...
الخطبة الأولى:
الحمد لله أمر بالدعاء ووعد بالإجابة, أحمده -سبحانه- لا أحصي ثناء عليه, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, شهادة أرجو بها النجاة يوم لقاه, وأشهد أن محمدا عبده ورسوله, بشر وأنذر ورغب وحذر, فما من شيء فيه خير إلا ودل الأمة عليه, ولا ما فيه شر إلا حذرها منه, صلوات ربي عليه, وعلى من اقتفى أثره إلى يوم الدين, وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد:
فيا عباد الله: إن الدعاء هبة من الله -تعالى-, يهبه لمن شاء من عباده, وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء, والله ذو الفضل العظيم, إلا أنه ينبغي للمؤمن أن يعلم أن للدعاء أوقاتا تكون الإجابة فيها أحرى من غيرها, وهذه تكلمنا عليها في خطبة ماضية, كما أن للدعاء آدابا ينبغي للعبد أن يتحلى بها؛ فمتى ما تم ذلك حصل المقصود بإذن ربنا المعبود.
قال ابن القيم: "إذا جمع مع الدعاء خشوعا في القلب, وانكسارا بين يدي الرب, وذلالة وتضرعا ورقة, واستقبل الداعي القبلة وكان على طهارة, ورفع يديه إلى الله -تعالى-, وبدأ بحمد الله والثناء عليه, ثم ثنى بالصلاة على محمد عبده, ثم قدم بين يدي حاجته التوبة والاستغفار, ثم دخل على الله وألح عليه في المسألة, وتملقه ودعاه رغبة ورهبة, وتوسل إليه بأسمائه وصفاته وتوحيده, وقدم بين يدي دعائه صدقة؛ فإن هذا الدعاء لا يكاد يرد أبدا".
معاشر المؤمنين: نمر سريعا على الآداب التي ينبغي لكل داع أن يتحلى بها؛ ليقبل دعاؤه بإذن الله؛ فمن ذلك:
أن يكون الداعي موحداً لله -تعالى- في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته, ممتلئاً قلبه بالتوحيد, فشرط إجابة الله للدعاء استجابة العبد لربه بطاعته وترك معصيته, قال الله -تعالى-: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ)[البقرة: 186].
ومنها: أن يسأل اللهَ -تعالى- بأسمائه الحسنى, قال الله -تعالى-: (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ)[الأعراف: 180].
ومنها: الثناء على الله -تعالى- قبل الدعاء بما هو أهله, روى الترمذي من حديث فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ -رضي الله عنه- قَالَ: بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَاعِدٌ إِذْ دَخَلَ رَجُلٌ فَصَلَّى, فَقَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي, فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "عَجِلْتَ -أَيُّهَا الْمُصَلِّي-, إِذَا صَلَّيْتَ فَقَعَدْتَ فَاحْمَدْ اللَّهَ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ, وَصَلِّ عَلَيَّ, ثُمَّ ادْعُهُ", وفي رواية له: "إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِتَحْمِيدِ اللَّهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ, ثُمَّ لْيُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-, ثُمَّ لْيَدْعُ بَعْدُ بِمَا شَاءَ", قَالَ: ثُمَّ صَلَّى رَجُلٌ آخَرُ بَعْدَ ذَلِكَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-, فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَيُّهَا الْمُصَلِّي: ادْعُ تُجَبْ"(صححه الألباني في صحيح الترمذي).
ومنها: استقبال القبلة, روى مسلم في صحيحه من حديث عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رضي الله عنه- قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَلْفٌ وَأَصْحَابُهُ ثَلاثُ مِائَةٍ وَتِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلا, فَاسْتَقْبَلَ نَبِيُّ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْقِبْلَةَ ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ... الحديث, قال النووي -رحمه الله- في شرح مسلم: "فِيهِ اِسْتِحْبَاب اِسْتِقْبَال الْقِبْلَة فِي الدُّعَاء, وَرَفْع الْيَدَيْنِ فِيهِ".
ومنها: اليقين بالله -تعالى- بالإجابة, وحضور القلب, أخرج الترمذي من حديث أبي هريرة قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ادْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالإِجَابَةِ, وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ لا يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لاهٍ", وهو حديث متكلم فيه سنده إلا أن معناه صحيح.
اللهم ارزقنا الأدب معك كما تحب وترضى يا كريم, أَقُولُ مَا سَمِعْتُمْ وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ الْعَلِيَّ الْعَظِيمَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرُوهُ؛ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى عِظَمِ نِعَمِهِ وَاِمْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَحْدَهُ لَا شريكَ لَهُ؛ تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ، وَأَشَهَدُ أَنَّ مُحَمَّدَاً عَبْدَهُ وَرَسُولُهُ وَخَلِيلَهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمَاً كَثِيرَاً.
أمَّا بَعْدُ: فَاِتَّقُوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ- حَقَّ التَّقْوَى، وَاِسْتَمْسِكُوا مِنَ الْإِسْلَامِ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى.
فيا أيها الناس: لا يزال الحديث موصولا عن الآداب التي ينبغي للمؤمن أن يتحلى بها؛ فمن ذلك: الإكثار من المسألة؛ فيسأل العبد ربه ما يشاء من خير الدنيا والآخرة, والإلحاح في الدعاء, وعدم استعجال الإجابة, أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "يُسْتَجَابُ لِلْعَبْدِ مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ, مَا لَمْ يَسْتَعْجِلْ", قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: مَا الاسْتِعْجَالُ؟ قَالَ: "يَقُولُ: قَدْ دَعَوْتُ, وَقَدْ دَعَوْتُ؛ فَلَمْ أَرَ يَسْتَجِيبُ لِي, فَيَسْتَحْسِرُ عِنْدَ ذَلِكَ وَيَدَعُ الدُّعَاءَ".
ومنها: الجزم بالدعاء؛ كما أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ, اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي إِنْ شِئْتَ, لِيَعْزِمْ الْمَسْأَلَةَ؛ فَإِنَّ اللهَ لا مُكْرِهَ لَهُ".
ومنها: التضرع والخشوع والرغبة والرهبة, قال الله -تعالى-: (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً)[الأعراف: 55] وقال: (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ)[الأنبياء: 90] وقال: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ)[الأعراف: 205].
ومنها: الدعاء ثلاثاً, روى البخاري ومسلم عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رضي الله عنه- قَالَ: "كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَعَا دَعَا ثَلاثًا, وَإِذَا سأَلَ سَأَلَ ثَلاثًا" .
ومنها: إطابة المأكل والملبس, روى مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَيُّهَا النَّاسُ: إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لا يَقْبَلُ إِلا طَيِّبًا, وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ, فَقَالَ: (يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ)[المؤمنون: 51], وَقَالَ: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ)[البقرة: 172], ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ, يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ: يَا رَبِّ يَا رَبِّ, وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ, وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ, وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ, وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ؛ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ", قال ابن رجب -رحمه الله-: "فأكل الحلال وشربه ولبسه والتغذي به سبب موجِبٌ لإجابة الدعاء".
ومنها: إخفاء الدعاء وعدم الجهر به, قال الله -تعالى-: (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً)[الأعراف: 55], وأثنى الله -تعالى- على عبده زكريا عليه السلام بقوله (إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا)[مريم: 3].
هذه أهم الآداب التي ينبغي للداعي أن يتحلى بها, فالكثير منا يشتكي من عدم إجابة الدعاء وما يدري أنه هو الذي سد باب الإجابة بأحد الموانع.
عباد الله: إن المسلمين في هذا الزمن قد تكالبت عليهم الشرور والأعداء, وليس لهم قوة في أنفسهم؛ ولهذا ينبغي أن يفزعوا إلى الله بالدعاء, وأن يدعوَ كلُ مسلم لإخوانه من المستضعفين, فها هو النبي -عليه الصلاة والسلام- يستنصر لضعفاء المسلمين, ويدعو لهم في قنوت الفجر, وها هو يستنصر بالدعاء يوم بدر حتى سقط رداؤه, ألا فلندع لإخواننا في كل مكان يضطهدون فيه, ولنخصص لهم شيئا من دعائنا, في السجود وفي جوف الليل, فهذا أقل ما يقدمه المسلم لإخوانه المسلمين.
اللهم إنا نعوذ بك أن ننزل حاجاتنا بغيرك, اللهم فرج عن إخواننا المستضعفين في كل مكان, رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ، رَبَّنَا وآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ.
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلَامٌ عَلَى المُرْسَلِينَ، وَالحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ.