المعطي
كلمة (المعطي) في اللغة اسم فاعل من الإعطاء، الذي ينوّل غيره...
العربية
المؤلف | سعود بن ابراهيم الشريم |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المهلكات |
وإن من أنجح دفع ثقافة التعصب ورفعها زَرْعَ الوازعِ الدينيِّ الدالِّ على العدل، المانع الحيف والبهتان، كذلك تربية النشء على روح الجماعة والألفة، وأن الإسلام بمصدريه؛ الكتاب والسُّنَّة سياج مانع من التعصب للَّوْن أو اللسان أو الجنس أو الأرض أو المذهب أو القبيلة...
الخطبة الأولى:
الحمد لله العلي الأعلى، خلق فسوَّى، وقدَّر فهدى، وأخرج المرعى فجعله عثاء أحوى، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، وخيرته من خلقه، سيد ولد آدم يوم القيامة، بلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، وتركنا على المحجَّة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، فصلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وعلى أصحابه الغر الميامين، وعلى من تبعهم وسار على طريقهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد: فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي المقصِّرة بتقوى الله، فهي وصيته للأولين والآخرين، فبتقوى الله يجتمع ما تفرَّق، ويكبر ما صغر، ويصلح ما فسد، ويرفع ما سقط، بالتقوى يطمئن القلب، وينكشف الكرب، ويأمن الخائف، وتُكتَسب الولاية، (أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ)[يُونُسَ: 62-63].
عباد الله: لقد جعَل الله لأمة الإسلام في كتابه العزيز وسُنَّة رسوله -صلى الله عليه وسلم- ما تشتبك به صلات أهل الإسلام، وتستوثق عراهم؛ ليكونوا من جهة التمثال أَكْفاء، أبوهم آدم وأمهم حواء، فلا يفخر أحد على أحد، ولا يفضل أبيض أسود، ولا عربي عجميًّا إلا بمقدار ما يحمله في نفسه من تقوى الله، التي جعلها معيار الفضل والكرامة، وأن أنسابهم وألوانهم ولغاتهم منطلق تعارُف كما قال جل شأنه: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)[الْحُجُرَاتِ: 13].
إنه تعارُف يدفع التناكر، وتآلُف يدفع التخالف؛ إنه لم يجعلهم شعوبا وقبائل ليبغي بعضهم على بعض، ولا ليُذيق بعضُهم بأسَ بعض، ولا ليلعن بعضهم بعضا، ولم يجعل لغاتهم سببا في اجتماعهم ولا ألوانهم ولا أراضيهم، وإنما جعَل لهم دينًا يجمعهم ولا يفرِّقهم، ويُصلِحهم ولا يُفسِدهم، وينفي العصبية والعبية عنهم، كما ينفي الكيرُ خبثَ الحديد، إلا أن ثمة أقواما يفسِّرون الأمور وفق ما يريدون، لا وفق حقيقتها التي أرادها لهم خالقهم، بحكمته وعدله؛ حيث يقودهم الهوى لا العقل، والطيش لا الحكمة، فهم يغلِّبون الإرادة على الإدارة، والعمى على الهدى، حتى أحدث صنيعهم هذا نهجا خداجًا غير تمام، برزت بسببه عصبية بئيسة، وقبلية مقيتة، وقومية وشعبوية وشعوبية، فإن التعصب -يا رعاكم الله- يولِّد في نفس صاحبه احتقار من ليس في فلكه، ولا هو من لونه ونسبه، وكفى بذلك إثما مبينا، وشرا مستطيرا، كيف لا، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم" (رواه أبو داود).
التعصب -أيها المسلمون- يفتك بصاحبه فتكا حتى يجعل صدره ضيقا حرجا، لا يرى معه إلا نفسه، ومن كان في دائرة عصبيته، بخلاف السماحة التي تجعل صدر صاحبها دوحة واسعة الظل، ينعم بظلها كل أخ له في الدين، مهما كان بينهما من فروق اجتماعية أو اختلاف تنوُّع لا تضادّ فيه، ولا يبتر الأصول الجامعة بينهما تحت راية الدين العادلة.
ثم اعلموا -يا رعاكم الله- أنه ما مِنْ متعصِّب إلا كان رائده الهوى، والهوى يعمي ويصم، وما رئي متعصب قط عُرِفَ بالعدل والإنصاف، ولا متعصب متحلٍّ بالحلم والأناة، ولا متعصب وسطي، إنما المتعصب إمَّعة مقلِّد، عاصب عينيه خلف هواه، ومن هو معجَب به، وهو -دون ريب- داء مُعدٍ، ونتاج عَدْوَاهُ إصابةُ المتعصب بالاضطراب تجاه الصواب، فيرى القذاة في عين أخيه، ولا يرى الجذع المعترض في عينه، ويعيب على غيره ما هو واقع في أسوأ منه، إنه ما من امرئ إلا ولديه نقص من وجه، مهما بلغ في علمه وجاهه، ونَسَبِه ومذهبه، وكثيرون ممَّن يتجاهلون نقصَهم يجعلون دونَه ستارَ التعصب، ليُخفُوا من ورائه ما لا يريدون محلَّه إلا الكمال الزائف.
التعصب -عباد الله- طاقة مهدَرَة، وجهد مضاعف، تم بذلُه في غاية غير حميدة، وهو لوثة عقلية تنسج خيوطا من أوهام التميُّز المغشوش، الناجم عن شعور باختصاص لا يدانى، وعظمة لا تجارى، وانتفاخة هِرٍّ يحاكي بها المتعصبُ صولةَ الأسد الهصور، وتلك -لَعَمْرُ اللهِ- خيوط رقيقة يتمسك بها المتعصب كمثل خيوط العنكبوت التي اتخذت منها بيتًا، (وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)[الْعَنْكَبُوتِ: 41].
إذا استحضرنا ذلكم كله فلنعلم أنه لم يأت التعصب بلفظه ومعناه في الكتاب والسنة إلا على وجه الذم، وأنه ضربٌ من الطبائع الجاهلية، التي لا تستوي ومكارم الإسلام ومصالحه، فقد قال الله -جل شأنه-: (إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ)[الْفَتْحِ: 26]، وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الله -عز وجل- قد أذهب عنكم عُبِّيَّةَ الجاهلية وفخرَها بالآباء، مؤمن تقي، وفاجر شقي، أنتم بنو آدم، وآدم من تراب، لَيَدَعَنَّ رجالٌ فخرَهم بأقوام إنما هم فحم من فحم جهنم، أو ليكُونُنَّ أهونَ على الله من الجعلان، التي تدفع بأنفها النتن" (رواه أبو داود).
وقال صلى الله عليه وسلم: "من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات مات ميتة جاهلية، ومن قاتل تحت راية عمية، يغضب لعصبة أو يدعو إلى عصبة أو ينصر عصبة، فقُتل فقتلة الجاهلية، ومن خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها لا يتحاشى من مؤمنها ولا يفي لذي عهد عهده، فليس مني ولستُ منه" (رواه مسلم).
وفي الحديث الآخر: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سمع أحد الصحابة من الأنصار ينادي: "يا للأنصار"، فَرَدَّ عليه أحد المهاجرين: "يا للمهاجرين"، فقال صلى الله عليه وسلم: "ما بال دعوى الجاهلية؟ قالوا: يا رسول الله، كسَع رجلٌ من المهاجرين رجلًا من الأنصار، -أي: ضَرَبَهُ-، فقال صلى الله عليه وسلم: "دَعُوها فإنها مُنتِنَةٌ" (رواه البخاري، ومسلم).
وقد سار على نهج المصطفى -صلى الله عليه وسلم- صحابتُه من بعده والتابعون لهم بإحسان، وقد استفاض عن الأئمة الأربعة؛ أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، مع اختلاف في ألفاظهم، أن كل واحد منهم لا يتعصَّب لرأيه، وأنه يتبرأ من الخطأ المخالِف للكتاب والسُّنَّة، ويضع قاعدة عامة يفهمها الحاضر لهم واللاحق، أنه إذا صح الحديث فهو مذهبه، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه لله-: "فمن تعصَّب لأهل بلدته أو مذهبه أو قرابته أو لأصدقائه دون غيرهم كانت فيه شعبة من الجاهلية، حتى يكون المؤمنون كما أمرهم الله -تعالى- معتصمين بحبله وكتابه وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، فإن كتابهم واحد، ودينهم واحد، ونبيهم واحد، وربهم إله واحد، لا إله إله هو، له الحمد في الأولى والآخرة، وله الحكم وإليه ترجعون"، وقال أيضا: "كل ما خرج عن دعوى الإسلام والقرآن مِنْ نَسَبٍ أو بلدٍ أو جنسٍ أو مذهبٍ أو طريقةٍ فهو عزاء الجاهلية".
وقال ابن القيم -رحمه الله-: "الدعاء بدعوى الجاهلية؛ كالدعاء إلى القبائل والعصبية، ومثله التعصب إلى المذاهب، والطوائف والمشايخ، وتفضيل بعضهم على بعض يدعو إلى ذلك، ويوالي عليه، ويعادي، فكل هذا من دعوى الجاهلية" انتهى كلامه رحمه الله.
فيا لله ما أقبح العصبية، وما أكثر ضحاياها، فكم من قتيل هلك تحت راية عبية، وكم من أسرة تفرَّقَت بسببها، وكم من مفارِق للجماعة احترق بنارها، وإذا كان في لقاء المتحاربين قاتِل ومقتول فإن المتعصبينِ المتقابلينِ كلاهما مقتول؛ نعم، كلاهما مقتول بسلاح التعصب المميت، والحق أن العقل الواسع لا يقابل التعصب الضيق، ولا غرو -عباد الله- فالعقل الواسع لا ينحني أمام ريح التعصب، ولا يغرق في مائه، ولقد صدق الله: (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا)[آلِ عِمْرَانَ: 103].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، ولسائر المسلمين والمسلمات من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه وتوبوا إليه، إن ربي كان غفورا رحيما.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمدا لا ينفد، أفضل ما ينبغي أن يحمد، والصلاة والسلام على أفضل المصطفين محمد، وبعد.
فإن أحسن الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وعليكم بالجماعة، فإن يد الله على الجماعة.
عباد الله: إذا كان التعصب مذموما في شريعتنا الغرَّاء فإنه يدخل في حكمه كل وسيلة تذكيه، سواء كانت على صورة أفراد أو هيئات أو جماعات أو نوادٍ، وسواء كان شِعْرا أو نثرا أو شعارا، فإن ما حرمت غايته حرمت وسيلته، وإذا أُحسِن ضبط الوسائل فلن توصل إلى غايات مذمومة، والمرء العاقل يدرك أن التعصب ضرب من الكبر والاستعلاء وادعاء الكمال، والحقيقة أن للمتعصب عورات وللسان أَلْسُنًا، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون" (رواه أحمد وغيره).
وإن من أنجح دفع ثقافة التعصب ورفعها زَرْعَ الوازعِ الدينيِّ الدالِّ على العدل، المانع الحيف والبهتان، كذلك تربية النشء على روح الجماعة والألفة، وأن الإسلام بمصدريه؛ الكتاب والسُّنَّة سياج مانع من التعصب للَّوْن أو اللسان أو الجنس أو الأرض أو المذهب أو القبيلة، ولقد اتفق المسلمون جميعًا على أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خير الخَلْق نسَبًا ودِينًا ورسالة وأعظمهم جاها عند الله، لا جاه لمخلوق أعظم من جاهه، ولا شفاعة أعظم من شفاعته، فلم يتعصب لذلك، ولم يَبْغِ به على أحد، بل هو القائل: "أنا سيد ولد آدم ولا فخر، وأنا أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة ولا فخر، وأنا أول شافع وأول مشفع ولا فخر، ولواء الحمد بيدي يوم القيامة ولا فخر" (رواه ابن ماجه، وأصله في الصحيحين).
وقد أكد النبي -صلى الله عليه وسلم- على ذلك بما أرشد به أمته وبدأهم فيه بنفسه ليقتدوا به، وفيه الأسوة والقدوة، حيث قال صلى الله عليه وسلم: "لا تُطْرُوني كما أطرت النصارى ابنَ مريم، إنما أنا عبدٌ، فقولوا: عبد الله ورسوله" (رواه البخاري).
وحاصلُ الأمرِ عبادَ اللهِ: أن التعصب باب شر على العباد، وإذا فُتِحَ تعسر إغلاقه، وهو مذموم غير محمود، وإن كان المرء لا بد فاعلا فليكن تعصُّبُه لمكارم الأخلاق وجميل الخصال، والعَضّ عليها بالنواجذ، فذلكم -لَعَمْرُ اللهِ- التعصب الذي لا يُذَمّ، والتمسك الذي يُغبَطُ عليه صاحِبُه، والله المستعان، وهو الهادي إلى سواء السبيل.
هذا وصلوا -رحمكم الله- على خير البرية، وأزكى البشرية محمد بن عبد الله صاحب الحوض والشفاعة فقد أمركم الله بذلك في قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56]، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، وارض اللهم عن خلفائه الأربعة؛ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر صحابة نبيك محمد -صلى الله عليه وسلم-، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وجودك وكرمك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم انصر دينك وكتابك، وسنة نبيك وعبادك المؤمنين، اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم كن لإخواننا المستضعفين في دينهم في سائر الأوطان.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم، اللهم أصلح له بطانته يا ذا الجلال والإكرام، اللهم وفقه وولي عهده لما فيه صلاح البلاد والعباد.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم لا تحرمنا خير ما عندك بشر ما عندنا، اللهم إنا خلق من خلقك فلا تمنع عنا بذنوبنا فضلك، يا ذا الجلال والإكرام.
(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[الْبَقَرَةِ: 201]، (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)[الصَّافَّاتِ: 180-182]، وآخِرُ دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.