الحسيب
(الحَسِيب) اسمٌ من أسماء الله الحسنى، يدل على أن اللهَ يكفي...
العربية
المؤلف | حمزة بن فايع آل فتحي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التاريخ وتقويم البلدان - المنجيات |
بالأمس انكسفت الشمس، ووقعت آية عظيمة، وخوّف الله عباده، وانحجب النور، فهل تدبرنا ذلك، وحقّقنا المقصد منها، وعدنا إلى أنفسنا قليلاً: (وَكَأَيِّنْ مِنْ آَيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ)[يوسف:105]؛ آية أعرضوا عنها! وآية تجاهلوها! وآية سخروا منها!
الخطبة الأولى:
الحمد لله القائل: (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا)[طه:111]. والحمد لله ما اتخذ صاحبة ولا ولدًا، والحمدُ لله أحاط بكل شيء علمًا، وأحصى كل شيء عددًا، تبارك اسمه، وتعالى جده، ولا إله غيره.
نحمده ونشكره ومن كل ذنب نستغفره، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله؛ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: أيها الناس: بالأمس انكسفت الشمس، ووقعت آية عظيمة، وخوّف الله عباده، وانحجب النور، فهل تدبرنا ذلك، وحقّقنا المقصد منها، وعدنا إلى أنفسنا قليلاً: (وَكَأَيِّنْ مِنْ آَيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ)[يوسف:105].
آية أعرضوا عنها! وآية تجاهلوها! وآية سخروا منها!
أما لنا عظةٌ في كل نائبة | أم الحياةُ مزاهير وأشغالُ |
تلقى الكسوف ولا تَهوي له رهَبا | أما لقلبك إذعانٌ وإقبالُ؟! |
والعجيبُ مسارعة عدد من المختصين إلى التحذير من مطالعة الشمس بالعيون؛ لئلا يختل الإبصار، وهذا لا بأس به، وصدحت أصوات الأطباء والتربويين، وأبناءكم وصغاركم..، ولكننا قليلاً ما سمعنا من يحذرنا خطر الذنوب، ووقعها في القلوب، ونكايتها في النفوس، وما تفعله في الأمزجة من بلايا وكآبات.
هل صحةُ الأجساد أولى من صحة الأرواح؟! ألم تشاهدوا صولةَ الذنوب في نفوسنا، وكيف تُزري وتنكي، وتُذل وتعكّر، فتتراجع النفس، ويضعف النشاط ويحصل التقصير، بل يعمّ بها الهلاك، قال -تعالى-: (فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آَخَرِينَ)[الأنعام:9].
وقال العلماء في أثر المعاصي: إن لها ظلمةً يجدها المرءُ في قلبه، حقيقةً يحس بها كما يحس بظلمة الليل البهيم -هل رأيتم الليل البهيم؟-، وأنها توهن القلب والبدن، وتورث حرمان الطاعة، وتقصّر العمر، وتمحق بركته؛ فالحذر الحذر يا مسلمون. قال أبو سليمان الداراني -رحمه الله-: "مَن صفَّى صُفِّي له، ومن كَدَّر كُدِّرَ عليه".
أيها الإخوة الكرام: انكسفت الشمسُ على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاستقبلها بالفزع والذكر والاهتمام. جاء في الصحيح عَنْ أَبِي بَكْرَةَ -رضي الله عنه-، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَانْكَسَفَتِ الشَّمْسُ، فَقَامَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَجُرُّ رِدَاءَهُ حَتَّى دَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَدَخَلْنَا، فَصَلَّى بِنَا رَكْعَتَيْنِ حَتَّى انْجَلَتِ الشَّمْسُ، فَقَالَ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمَا فَصَلُّوا وَادْعُوا حَتَّى يُكْشَفَ مَا بِكُمْ".
وفي رواية في الصحيح أيضًا: فَقَالَ: "إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، وَإِنَّهُمَا لَا يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ، وَإِذَا كَانَ ذَاكَ فَصَلُّوا وَادْعُوا حَتَّى يُكْشَفَ مَا بِكُمْ". وَذَاكَ أَنَّ ابْنًا لِلنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- مَاتَ يُقَالُ لَهُ: إِبْرَاهِيمُ؛ فَقَالَ النَّاسُ فِي ذَاكَ. وفي رواية "فَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْهَا شَيْئًا فَافْزَعُوا إِلَى ذِكْرِهِ وَدُعَائِهِ وَاسْتِغْفَارِهِ".
وصلّى صلاة طويلة أسيفة، أطال فيها القيام كالبقرة وآل عمران. وحُفِظَ من خطبته البليغة: "يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، مَا مِنْ أَحَدٍ أَغْيَرُ مِنَ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-؛ أَنْ يَزْنِيَ عَبْدُهُ، أَوْ تَزْنِيَ أَمَتُهُ، يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، وَاللَّهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا".
وقال: "لقد رأيتُ في مقامي هذا كل شيء وُعِدْتُمْ به، حتى لقد رأيتُني أريد أن آخذ قطفًا من الجنة، حين رأيتموني أتقدم، ولقد رأيت جهنم يحطُم بعضها بعضًا حين رأيتموني تأخرت".
وفي لفظ: "ورأيتُ النار فلم أر كاليوم منظرًا قطُّ أفظعَ منها، ورأيتُ أكثرَ أهل النار النساء. قالوا: وبِمَ يا رسول الله؟ قال: بكفرهن. قيل أيكفرن بالله؟ قال: يكفرن العشير، ويكفرن الإحسان، لو أحسنتَ إلى إحداهن الدهر كله ثم رأت منك شيئًا، قالت: ما رأيتُ منك خيرا قط".
ومنها: "ولقد أوحي إليَّ أنكم تُفتنون في القبور مثل، أو قريبًا من فتنة الدجال، يؤتى أحدكم فيقال له: ما علمك بهذا الرجل؟ فأما المؤمن أو قال الموقن فيقول: محمد رسول الله جاءنا بالبينات والهدى، فأجبنا وآمنّا واتّبعنا، فيقال له: نمْ صالحا؛ فقد علمنا إن كنتَ لمؤمنًا، وأما المنافق، أو قال: المرتاب، فيقول: لا أدري، سمعتُ الناس يقولون شيئًا، فقلته".
فتأملوا عبادَ الله، خوفَ رسول الله وحزنه، وكيف عظّم هذه الآية، وهو مصداق قوله -تعالى-: (وَمَا نُرْسِلُ بِالْآَيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا)[الإسراء:59]؛ فحقُّ هذه الآيات الخوفُ من الله، وتوقّي الذنوب، وأن تمادينا بلا توبة، سببٌ للعقوبة والهلاك (فَلَمَّا آَسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ)[الزخرف:55].
فلا يُستقبل الكسوف بتحذير صحي، دون الحذر الشرعي. ولا بسخرية وتلاعب، وقد علمنا أن الذنوب مهلكات، ولا بتغافل، وقد رأينا قدرة الله -تعالى-.
ثم تأمل في: صلاتِه الطويلة، وحزنِه من الذنوب، وتنبيهه على الصالحات، وقوله: "فافزعوا"، تعني المبادرة والانطلاق بسرعة إلى الذكر والتوبة.
وكذلك حذر من ذنوب كالزنا والفواحش وذكر غيرةَ الله "يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، مَا مِنْ أَحَدٍ أَغْيَرُ مِنَ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-؛ أَنْ يَزْنِيَ عَبْدُهُ، أَوْ تَزْنِيَ أَمَتُهُ"، وفي شيوع ذلك أسقام وطوام وأكدار.
وغيرةُ الله أن تُنتهك محارمُه، وتُؤتَى معاصيه، ويُعتدى على حدوده. (مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا)[نوح:13-14].
وذكر اليومَ الآخر والجنة والنار فقال: "يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، وَاللَّهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا"، والمراد بالعلم هنا، ما يتعلق بعظمة الله وانتقامه ممن يعصيه، والأهوال التي تقع عند النزع والموت وفي القبر ويوم القيامة، ومناسبة كثرة البكاء وقلة الضحك في هذا المقام واضحة، والمراد به التخويف والتهديد.
أحيا الله قلوبنا بطاعته، وجنّبنا مصارع الغافلين. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، أعز أولياءه، وأذل أعداءه، ونصر دينه، وخلّد شريعته، وأصلي وأسلم على الهادي البشير والسراج المنير، نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيا مسلمون، ويا مصلون؛ خليقٌ بصلاتنا أن تحيي قلوبنا، وأن تنهانا عن المناكر، وأن تجعلنا متفكرين في آيات الله، متعظين بالأحداث والوقائع (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ)[ق:37].
فأحي قلبَك، وزكّ روحك، وبادر ساعاتك، والهج بلسانك؛ (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا)[الشمس:9-10].
ثم إنه -صلى الله عليه وسلم- ذكر الموت وشدته، وفتنة القبر وأهواله، فأعدوا للامتحان ثباتًا، وللسؤال جوابًا، وللشدة طاقة وتحملاً، ولن يحملكم هنالك إلا عملٌ صالح، أو قربة مباركة، أو مسارعةٌ طيبة، أو حسنة خفية (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ)[آل عمران:133].
ثم إنه لا مخرج لنا من الفتن والأخطار إلا بالتوبة وكثرة الاستغفار (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[النور:31]؛ فلا تغتروا بدنيا طاغية، ولا ذنوب فاشية، أو أرواح خاوية، فإن لها من الله طالبًا، وعاقبتها وخيمة، وآثارها فظيعة، والسعيد من وُعظ بغيره (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآَيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)[الأحقاف:27].
فتوبوا يا مسلمون، وجدّدوا إيمانكم، وبادروا أوقاتكم، فاليوم عملٌ ولا حساب، وغدًا حساب ولا عمل. (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم أعزنا بطاعتك، ولا تذلنا بمعصيتك.