البحث

عبارات مقترحة:

الواسع

كلمة (الواسع) في اللغة اسم فاعل من الفعل (وَسِعَ يَسَع) والمصدر...

الآخر

(الآخِر) كلمة تدل على الترتيب، وهو اسمٌ من أسماء الله الحسنى،...

الشافي

كلمة (الشافي) في اللغة اسم فاعل من الشفاء، وهو البرء من السقم،...

طوبى لأهل الشام!

العربية

المؤلف عبد الله بن ناصر الزاحم
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات التاريخ وتقويم البلدان
عناصر الخطبة
  1. فضل بلاد الشام .
  2. ملاحم آخر الزمان بالشام .
  3. ابتلاءات أهل الشام .
  4. طوبى لأهل الشام! .

اقتباس

إن بلاد الشام بلادٌ بارَكَها الله؛ فهي ظِئرُ الإسلامِ وحاضِنَتُه، وعاصِمتُه حينًا من الدهر، سُطِّرَت على أراضيها كثيرٌ من دواوين الإسلام، وعلى أرضها عسْكَر موْكِبُ الفاروق حين ذهب لفتح بيت المقدس، وفي ثَراها دُفِن جموعٌ من الصحابةِ ومن عُلماء المُسلمين، وعُقِدَت في أفيائِها ألوِيَةُ الجهاد، وكُسِرَت على رُباها الحملاتُ الصليبية، وجرَت على ثراها دماءُ الشهداء من الصحابةِ والأخيارِ والأصفياء، ومنها انطلقتْ جُيُوش الإسلامِ إلى أرجاء الدُّنيا.

الخطبة الأولى:

الحمد لله الذي خلق فسوى، والذي قدَّرَ فهدى، أحمده حمدا كثيرا طيباً مباركاً فيه، ملء السماوات وملء الأرض وملء ما بينهما، وملء ما شاء الله من شيء بعد.

 وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له...

أما بعد عباد الله: فإن خيرَ الوصايا، الوصيةُ بتقوى الله -تعالى-...

أيها المسلمون: إن الله اصطفى من البشر أنبياءَه ورُسُلَه، واصطفى من الأرضِ بقاعاً ميَّزها وشرَّفها، فأفضلُ البقاعِ وأطهَرُهَا مكة المكرمة، وطَيبة الطيبة.

ومن البقاعِ التي ميَّزها الله وذكر الله بركتها في كتابه الكريم أرضُ الشام: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الإسراء:1].

فقد جعل الله بلادَ الشام مَدْرَجَ الأنبياء، ومُتنزَّلَ الوحيِ من السماء، وهي أرضُ المحشَرِ والمنشَر، وحين يبعثُ اللهُ المسيحَ ابنَ مريم في آخر الزمان لا ينزلُ إلا فيها.

إن بلاد الشام بلادٌ بارَكَها الله؛ فهي ظِئرُ الإسلامِ وحاضِنَتُه، وعاصِمتُه حينًا من الدهر، سُطِّرَت على أراضيها كثيرٌ من دواوين الإسلام، وعلى أرضها عسْكَر موْكِبُ الفاروق حين ذهب لفتح بيت المقدس، وفي ثَراها دُفِن جموعٌ من الصحابةِ ومن عُلماء المُسلمين، وعُقِدَت في أفيائِها ألوِيَةُ الجهاد، وكُسِرَت على رُباها الحملاتُ الصليبية، وجرَت على ثراها دماءُ الشهداء من الصحابةِ والأخيارِ والأصفياء، ومنها انطلقتْ جُيُوش الإسلامِ إلى أرجاء الدُّنيا.

وهي البلاد التي خرَّجَتْ للأمةِ آلافَ العلماءِ والفُقهاءِ والأُدَباء، وهي موطنُ الخلافةِ الأمويَّة، التي تداوَلَ الحُكمَ فيها خلفاء أفذاذ، أضافوا للمجدِ مجدًا، وللعِزِّ عِزًّا.

إذا عُدَّتْ حضاراتُ الإسلامِ ذُكِرَتِ الشام، وإذا ذُكِرِ العلمُ والفضلُ والفتوحُ ذُكِرَتِ الشام.

عرَفَهَا تاريخُ الإسلام رمزاً للعِزِّ، ومَوْطِناً للتمكين، وستبقى -بإذن الله- إسلاميَّةً بهويتها، سُنيَّةً بعقيدتها، قويةً برجالها، وما حياةُ الإعراضِ التي مرَّت بها كغيرها من البلدان بعد الاستعمار إلا مرحلةٌ استثنائيَّةٌ تُقلِع عنها بإذن الله -تعالى-.

وفي آخر الزمان عندما تكون الملحَمَةُ الكُبرى سيكونُ فُسطاطُ المُسلمين ومجمعُ راياتهم فيها، عن أبي الدَّرْدَاءِ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "فُسْطَاطُ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ الْمَلْحَمَةِ الْغُوطَةُ إِلَى جَانِبِ مَدِينَةٍ يُقَالُ لَهَا دِمَشْقُ"، وقَالَ: "سَيُفْتَحُ عَلَيْكُمْ الشَّامُ، وَإِنَّ بِهَا مَكَانًا يُقَالُ لَهُ الْغُوطَةُ -يَعْنِي دِمَشْقَ- مِنْ خَيْرِ مَنَازِلِ الْمُسْلِمِينَ -يَعْنِي فِي الْمَلَاحِمِ-"، وفي رواية: "خيرُ مساكن الناسِ يومئذٍ".

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا وَقَعَتِ الْمَلاحِمُ؛ بَعَثَ اللَّهُ بَعْثًا مِنَ الْمَوَالِي من دمشق هُمْ أَكْرَمُ الْعَرَبِ فَرَسًا، وَأَجْوَدُهُ سِلاحًا، يُؤَيِّدُ اللَّهُ بِهِمُ الدِّينَ".

وعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ -رضي الله عنه- قَالَ: قال رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "طُوبَى لِلشَّامِ! طُوبَى لِلشَّامِ!"، قال: قُلْتُ: مَا بَالُ الشَّامِ؟ قَالَ: " الْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَجْنِحَتِهَا عَلَى الشَّامِ".

وعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ إِذْ رَأَيْتُ عَمُودَ الْكِتَابِ احْتُمِلَ مِنْ تَحْتِ رَأْسِي فَظَنَنْتُ أَنَّهُ مَذْهُوبٌ بِهِ فَأَتْبَعْتُهُ بَصَرِي فَعُمِدَ بِهِ إِلَى الشَّامِ، أَلَا وَإِنَّ الْإِيمَانَ حِينَ تَقَعُ الْفِتَنُ بِالشَّامِ".

وقد دعا النبي -صلى الله عليه وسلم- للمدينةِ والشامِ واليمنِ بالبركة، فعن ابْنَ عُمَرَ-رضي الله عنه- قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي مَدِينَتِنَا، وَبَارِكْ لَنَا فِي شَامِنَا، وَبَارِكْ لَنَا فِي يَمَنِنَا، وَبَارِكْ لَنَا فِي صَاعِنَا، وَبَارِكْ لَنَا فِي مُدِّنَا".

وعَنِ ابْنِ عُمَرَ-رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي شَامِنَا ويَمَنِنَا" مرَّتَيْنِ، فَقَالَ رَجُلٌ: وَفِي مَشْرِقِنَا، وفي رواية: وَفِي نَجْدِنَا، قَالَ: " هُنَالِكَ الزَّلَازِلُ، وَالْفِتَنُ مِنْهَا". أَوْ قَالَ: " بِهَا يَطْلُعُ قَرْنُ الشَّيْطَانِ". وفي رواية: "مِنْ هُنَالِكَ يَطْلُعُ قَرْنُ الشَّيْطَانِ، وَلَهَا تِسْعَةُ أَعْشَارِ الشَّرِّ".

لهذا ما لبث كثير من الصحابة -رضي الله عنهم- بعد وفاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-  إلا قليلا فتوجهوا إلى الشام؛ الأرض التي بارَكَها الله، ووصَّى بها رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-، فعن عَبْدِ اللهِ بْنِ حَوَالَةَ -رضي الله عنه- قال: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فَشَكَوْنَا إِلَيْهِ الْعُرْيَ وَالْفَقْرَ وَقِلَّةَ الشَّيْءِ, فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "أَبْشِرُوا! فَوَاللهِ لأَنَا بِكَثْرَةِ الشَّيْءِ أَخْوَفُنِي عَلَيْكُمْ مِنْ قِلَّتِهِ, وَاللهِ! لا يَزَالُ هَذَا الأَمْرُ فِيكُمْ حَتَّى يَفْتَحَ اللهُ أَرْضَ فَارِسَ، وَأَرْضَ الرُّومِ، وَأَرْضَ حِمْيَرَ –أي: العراق والشام واليمن-، وَحَتَّى تَكُونُوا أَجْنَادًا ثَلاثَةً: جُنْدًا بِالشَّامِ, وَجُنْدًا بِالْعِرَاقِ, وَجُنْدًا بِالْيَمَنِ, وَحَتَّى يُعْطَى الرَّجُلُ الْمِائَةَ فَيَسْخَطَهَا". أي يستقِلّها.

وفي الحديث: قَالَ ابْنُ حَوَالَةَ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! اخْتَرْ لِي إِنْ أَدْرَكَنِي ذَلِكَ! قَال: "إِنِّي أَخْتَارُ لَكَ الشَّامَ؛ فَإِنَّهُ صَفْوَةُ اللهِ مِنْ بِلادِهِ, وَإِلَيْهِ تُجْتَبَى صَفْوَتُهُ مِنْ عِبَادِهِ".

وعَنْهُ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: " سَيَكُونُ جُنْدٌ بِالشَّامِ وَجُنْدٌ بِالْيَمَنِ"، فَقَالَ رَجُلٌ: فَخِرْ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ إِذَا كَانَ ذَلِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "عَلَيْكَ بِالشَّامِ! عَلَيْكَ بِالشَّامِ!  عَلَيْكَ بِالشَّامِ! فَمَنْ أَبَى فَلْيَلْحَقْ بِيَمَنِهِ وَلْيَسْقِ مِنْ غُدُرِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَدْ تَكَفَّلَ لِي بِالشَّامِ وَأَهْلِهِ".

وعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِذَا فَسَدَ أَهْلُ الشَّامِ فَلا خَيْرَ فِيكُمْ، وَلَنْ تَزَالَ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي مَنْصُورِينَ لا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ".

وفي آخر الزمان ينزل عيسى ابن مريم -عليه السلام- في الشام، عَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ -رضي الله عنه- قَالَ: ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الدَّجَّالَ -فذكر الحديث وفيه-: " ثُمَّ يَنْزِلُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عِنْدَ الْمَنَارَةِ الْبَيْضَاءِ، شَرْقِىَّ دِمَشْقَ، فَيُدْرِكُهُ عِنْدَ بَابِ لُدٍّ فَيَقْتُلُهُ".

والشام هي أرض المحشر، فعن أبي ذر -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "الشَّامُ أَرْضُ الْمَحْشَرِ، وَالْمَنْشَرِ".

وعن بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيْنَ تَأْمُرُنِي؟ قَالَ:"هَا هُنَا". وَنَحَا بِيَدِهِ نَحْوَ الشَّامِ. قَالَ: "إِنَّكُمْ مَحْشُورُونَ رِجَالاً وَرُكْبَانًا، وَتُجَرُّونَ عَلَى وُجُوهِكُمْ".

أسأل الله -جل وعلا- أن يحفظنا بحفظه، وأن يكلأنا برعايته، وأن يختار لنا ما فيه صلاح ديننا ودنيانا وآخرتنا؛ إنه جواد كريم.

أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين...

الخطبة الثانية:

الحمد لله على إحسانه، وأشكره على توفيقه وامتنانه، واشهد أن لا إله إلا الله...

أَمَّا بَعدُ، فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالى وَأَطِيعُوهُ...

عباد الله: رُبَّ قائلٍ: وَأَيُّ نَعِيمٍ وَأَيُّ نَعمَةٍ لِلشَّامِ وَأَهلِهَا، وَنَحنُ نَرَى اليَهُودَ يُدَنِّسُونَ المَسجِدَ الأَقصَى مُنذُ أَكثَرَ مِن سِتِّينَ عَامًا، وَالنُّصَيرِيَّةُ تَسُومُ أَهلَ السُّنَّةِ العَذَابَ مُنذُ أَكثَرَ مِن أَربَعِينَ سَنَةً؟ وَهَذِهِ المَصَائِبُ مَا تَزَالُ تَتَوَالى عَلَيهِم، وَالقَتلُ فِيهِم على أشُدِّه؟!.

وَهَذَا القول دليلٌ على قُصُورِ نظَرِ قائله وَضِيقِ أُفُقِ تفكِيرِه، ودَلِيلٌ عَلَى استِحكَامِ مَحَبَّةِ الدُّنيَا في النُّفُوسِ وَتَغَلغُلِهَا في القُلُوبِ وَتَفضِيلِهَا عَلَى الآخِرَةِ، حَتى أصبحتْ لا تَرَى الخَيرَ وَالشَّرَّ إِلاَّ بِقَدرِ مَا يُنَالُ مِنَ الدُّنيَا، أَو يَضِيعُ عَلَى أَهلِهَا مِنهَا، ولا يرون المحظوظ إِلاَّ من يعيش في رَغَدٍ مِنَ العَيشِ  والأمن عَلَى دُنيَاه، دون النَّظَرِ في حظ الآخِرَةِ، والتَمَسُّكِ بالِعَقِيدَة والاستقامة عَلَى الدِين.

إنَّ فَضِيلَةَ بَلَدٍ وَطِيبَ عَيشِ أَهلِهِ عِندَ اللهِ، لا يعني أَنَّهُم لا يُبتَلَونَ وَلا يُصَابُونَ، بَل قَضَت سُنَّةُ اللهِ أَن يُبتَلَى المُؤمِنُونَ، وَأَن يَكُونَ الابتِلاءُ عَلَى قَدرِ قُوَّةِ الدِّينِ، ...، وَقَالَ -صلى الله عليه وسلم-: "أَشَدُّ النَّاسِ بَلاءً الأَنبِيَاءُ ثم الأَمثَلُ فَالأَمثَلُ"، وَقَالَ: "مَن يُرِدْ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُصِبْ مِنْهُ".

وبَيَّنَ -عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ- أَنَّ عَدَمَ البَلاءِ لا يَكُونُ إِلاَّ لِلمُنَافِقِينَ، ومعلوم أنَّ مَكَّةَ وَالمَدِينَةَ من أفضل البقاع وقد أصابهما مِنَ البَلاءِ ما لا يخفى، فَقَد ابتُلِيَ فِيهِمَا النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- وَصَحبُهُ وخصوصاً السَّابِقِينَ مِنهُم، فقد عَانَوا مِنَ المُشرِكِينَ وَالمُنَافِقِينَ وَاليَهُودِ، وَأَصَابَهُم مِن الأذى مَا أَصَابَهُم، وَمَعَ هَذَا عَاشُوا في نعيمٍ روحيٍ لا يوصف، وَأَدرَكُوا من رَاحَةَ القُلُوبٍ غايتها، ولم تَستَطِعْ الأسلحةُ وأنواعُ التَّعذِيبِ وصنوفُ الغَدرِ وَالخِيَانَةِ أَن تَنتَزِعَهَا مِنهُم.

عَن خَبَّابٍ -رضي الله عنه- قَالَ: أَتَيتُ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُردَةً وَهُوَ في ظِلِّ الكَعبَةِ، وَقَد لَقِينَا مِنَ المُشرِكِينَ شِدَّةً، فَقُلتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلا تَدعُو اللهَ؟! فَقَعَدَ وَهُوَ مُحمَرٌّ وَجهُهُ فَقَالَ: "لَقَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ لَيُمْشَطُ بِمِشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ عِظَامِهِ مِنْ لَحْمٍ أَوْ عَصَبٍ مَا يَصْرِفُهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَيُوضَعُ الْمِنْشَارُ عَلَى مَفْرِقِ رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَيْنِ مَا يَصْرِفُهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَلَيُتِمَّنَّ اللَّهُ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ مَا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ".

ومنَ المقرَّر شرعًا: أنَّ الله لا يُقدِّر شرًّا محضًا؛ بل قضاءُ الله فيه من الخيرِ ما يغيب على كثيرٍ من العباد، فلا يليقُ بأمَّة الإسلام أن تنوحَ على مآسيها، وتتوجَّع لخسائرها، وتتناسى مكاسبَها وأرباحَهَا.

فالفَوزُ الحَقِيقِيُّ هُوَ فَوزُ الآخِرَةِ، والخَسَارَةُ التي لا تُعوَّضُ هِيَ خَسَارَةُ الدِّينِ، فالمؤمن الصادق لا يأسى على ما فاته مِنَ الدُّنيَا؛ مادام سالماً له دِينُه، ومحافظاً على عَقِيدَتِه، َأَمَّا من يرى أنَّ سعَادَة المُجتَمَعَاتِ بِقَدرِ انغِمَاسِهَا في بُحُورِ الملذات وزخارف الدنيا، فهذا هُوَ الخُذلانُ بِعَينِهِ، فاللهَ -جل وعلا- يَبتَلِي أقَوامًا بَالشَّرِّ، ويَبتَلِيَ آخَرِينَ بِالخَيرِ، قَالَ -تعالى-: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) [الأنبياء:35]، فالعِبرَةُ بالخَاتِمَةِ، والفوزُ لمن وُفِّقَ لخاتمةٍ حَسَنَةٍ يَسْعَدُ بعدها سَعَادَةً لا يَشقَى بَعدَهَا أَبَدًا.

فحِينَ تَستَعِرُ نِيرَانُ المُجرِمِينَ مِنَ أَعدَاءِ الدِّينِ عَلَى المؤمنين من أهل الشام في عُقرِ دارِهِم، فَيَقتُلُون الأنفس، وَيَهتِكُون الأَعرَاضَ، وَيَنحَرُون الأَطفَالَ الأَبرِيَاءَ، في صُوَرٍ تَشمِئَزُّ مِنهَا الفِطَرَةُ السَّوِيَّةُ، فَاعلَمُوا أَنَّ اللهَ تَعَالى أَرَادَ أَن تَكُونَ تِلكَ الابتِلاءَاتُ هِيَ قَاطِعَةَ الشَّرِّ عَنهُم وَحَاسِمَةَ العَذَابِ، لِيَنعَمُوا بَعدَهَا في جَنَّاتِ وَنَهَرٍ، في مَقعَدِ صِدقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُقتَدِرٍ.

بَينَمَا يَتَنَقَّلُ أُولَئِكَ المُجرِمُونَ مِن عَذَابٍ إِلى آخَرَ، وَيُصَابُونَ في نُفُوسِهِم بِالضِّيقِ وَالحَرَجِ، ثم لا يَلبَثُونُ أَن تَتَحَقَّقَ فِيهِم سُنَّةُ اللهِ في الظَّالمِينَ، فَيَهلِكُوا شَرَّ مَهلِكٍ، وَيَبدَأَ طَرِيقُ إِهَانَةِ اللهِ لهم...

ففَرقٌ كَبِيرٌ بَينَ مَن يُمَحَّصُ لِيُخَلَّصَ، وَيُبتَلَى بِالشِّدَّةِ لِيُعَافى، وَيُسَلَّطُ عَلَيهِ مَن يُنهي حياتَه فَيَلقَى اللهَ شَهِيدًا قَد غُفِرَ لَهُ، وَبَينَ مَن يُملَى لَهُ في دُنيَاهُ، وَيُبتَلَى بِالعَافِيَةِ وَالرَّخَاءِ، وَيُفسَحُ لَهُ لِيَتَمَادَى في الغَيِّ، ثم يُؤخَذُ عَلَى غِرَّةٍ، وَيُهلَك في حِينِ غَفلَةٍ، فَيَوافيَ اللهَ بِذُنُوبِهِ عَلَى ظَهرِهِ، فمن فقِهَ ذلك حُقَّ له أَن يُرَدِّدَ قَولَ النبي -صلى الله عليه وسلم-: " طُوبى لأَهلِ الشَّامِ!".

وقولنا هذا لا يعني أنَّ المُؤمِنَ يَمدَحُ البَلاءَ أَو يَتَمَنَّى حُصُولَهُ أَو يُعَرِّضُ نَفسَهُ لَهُ، أَو يُحِبُّ بَقَاءَ الأُمَّةِ عَلَيهِ، وَلَكِنَّ المؤمن يرضى بالقضاء والقدر، ويصبر ويتفاءل، ويُحسن الظن باللهَ، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ، لاَ تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ، وَاسْأَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلاَلِ السُّيُوفِ".

فالمُعافىَ لا يفرح، والمبتلى لا يحزن، (لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ) [الحديد:23].

وَإِنَّ لَحظَةً مِن نَعِيمِ الجَنَّةِ كَفِيلَة بِأَن تَمسَحَ عَن أَهلِهَا مَا عَانَوهُ في دُنيَاهُم مِن بَلاءٍ وبُؤسٍ، وَلَحظَةٌ مِن عَذَابِ النَّارِ كَافِيَةٌ بِأَن تُنسِيَ المُعَذَّبِينَ مَا انغَمَسُوا فِيهِ مِن شَهَوَاتٍ، وَمَا كَانُوا فِيهِ من ترَف.

قَالَ -صلى الله عليه وسلم-: "يُؤْتَى بِأَنْعَمِ أَهْلِ الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُصْبَغُ فِي النَّارِ صَبْغَةً ثُمَّ يُقَالُ: يَا ابْنَ آدَمَ، هَلْ رَأَيْتَ خَيْرًا قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ نَعِيمٌ قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لاَ وَاللَّهِ يَا رَبِّ! وَيُؤْتَى بِأَشَدِّ النَّاسِ بُؤْسًا فِي الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيُصْبَغُ صَبْغَةً فِي الْجَنَّةِ فَيُقَالُ لَهُ: يَا ابْنَ آدَمَ، هَلْ رَأَيْتَ بُؤْسًا قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ شِدَّةٌ قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لاَ وَاللَّهِ يَا رَبِّ! مَا مَرَّ بِي بُؤُسٌ قَطُّ وَلاَ رَأَيْتُ شِدَّةً قَطُّ".

نسألك اللهم أن تبارك في أعمارنا وفي أعمالنا، واجعل الحياة زيادة لنا من كل خير، والموت راحةً لنا من كل شر، اللهم إنا نعوذ بك من الفتن ما ظهر منها وما بطن، وإن أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير خزايا ولا مفتونين يا أرحم الراحمين.

عباد الله: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56]....

اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد...