الحسيب
(الحَسِيب) اسمٌ من أسماء الله الحسنى، يدل على أن اللهَ يكفي...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | النكاح - نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
عَلَى رَبِّ الْأُسْرَةِ بَذْلُ مَا يَسْتَطِيعُ مِنْ وَسَائِلِ الْهِدَايَةِ، وَالِاسْتِمْرَارُ فِي التَّرْبِيَةِ وَالتَّقْوِيمِ، وَأَمَّا النَّتِيجَةُ الْمَرْجُوَّةُ فَإِلَى اللهِ -تَعَالَى- الْهَادِي مَنْ يَشَاءُ...
الْخُطْبَةُ الْأُولَى:
إِنَّ الْحَمْدَ للهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَتُوبُ إِلَيْهِ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71]، أَمَّا بَعْدُ:
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: مَا أَجْمَلَ أَنْ نَعُودَ إِلَى الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ نَتْلُوهُ مُتَدَبِّرِينَ، وَنَمُرُّ بِمَا احْتَوَاهُ مُتَفَكِّرِينَ، نَسْتَقِي مِنْ سُوَرِهِ وَآيَاتِهِ عِبَرًا وَعِظَاتٍ، وَنَقْتَبِسُ مِنْ أَنْوَارِهِ ضِيَاءً نُصْلِحُ بِهِ شُؤُونَ الْحَيَاةِ.
وَالْأُسْرَةُ الْمُسْلِمَةُ الْيَوْمَ بِحَاجَةٍ إِلَى نَمَاذِجَ مُشْرِقَةٍ تُضِيءُ لَهَا طَرِيقَ السَّعَادَةِ، تَتَرَسَّمُ خُطَاهَا لِتَبْلُغَ تِلْكَ الْغَايَةَ الْحَمِيدَةَ.
إِنَّ مِنَ الْمُشْكِلَاتِ الْأُسَرِيَّةِ الَّتِي يُعَانِي مِنْهَا بَعْضُ الصَّالِحِينَ الْيَوْمَ: أَنَّهُ يَزْرَعُ أَسْبَابَ الصَّلَاحِ دَاخِلَ أُسْرَتِهِ، وَيُعْنَى بِمُتَابَعَةِ زَرْعِهِ، وَيَبْذُلُ مَا بِوُسْعِهِ لِتَهْتَدِيَ زَوْجَتُهُ وَأَوْلَادُهُ، وَيَكُونُ الصَّلَاحُ سِمَةَ أَفْرَادِ الْبَيْتِ كُلِّهِ، وَلَكِنَّهُ قَدْ يَخْرُجُ عَنْ هَدَفِهِ الْمَنْشُودِ بَعْضُ أَهْلِ الْبَيْتِ مِنْ زَوْجَةٍ أَوْ بَعْضِ الْأَوْلَادِ.
وَفِي هَذِهِ الْحَالِ قَدْ يُصَابُ الْمَرْءُ بِالْيَأْسِ وَالْإِحْبَاطِ عِنْدَ تِلْكَ النَّتِيجَةِ الَّتِي كَانَ لَا يُحِبُّ أَنْ يَرَاهَا.
كَمَا أَنَّ أَلْسِنَةَ النَّاسِ لَا تَرْحَمُ ذَلِكَ الْإِنْسَانَ الصَّالِحَ الَّذِي لَمْ يُفْلِحْ فِي هِدَايَةِ جَمِيعِ أَفْرَادِ أُسْرَتِهِ؛ فَتَغْدُو تَطْعَنُ فِيهِ وَفِي صَلَاحِهِ، وَتَلْمَزُهُ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ صَالِحًا حَقًّا لَاسْتَطَاعَ أَنْ يُصْلِحَ أَهْلَهُ أَجْمَعِينَ!
فَإِلَى هَؤُلَاءِ جَاءَتْ قِصَّةُ نُوحٍ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- لِتُبَيِّنَ أَنَّ الْهِدَايَةَ بِيَدِ اللهِ -تَعَالَى- وَحْدَهُ، وَأَنَّ عَلَى رَبِّ الْأُسْرَةِ بَذْلَ مَا يَسْتَطِيعُ مِنْ وَسَائِلِ الْهِدَايَةِ، وَالِاسْتِمْرَارَ فِي التَّرْبِيَةِ وَالتَّقْوِيمِ، وَأَمَّا النَّتِيجَةُ الْمَرْجُوَّةُ فَإِلَى اللهِ -تَعَالَى- الْهَادِي مَنْ يَشَاءُ، قَالَ –تَعَالَى-: (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)[القصص:56].
قَالَ الشَّاعِرُ:
عَلَى الْمَرْءِ أَنْ يْسَعَى إِلَى الْخَيْرِ جُهْدَه | وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ تَتِمَّ الْمَقَاصِدُ |
عِبَادَ اللهِ: لَقَدْ ذَكَرَ اللهُ –تَعَالَى- نَبِيَّهُ نُوحًا -عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَأَشَارَ إِلَى أَفْرَادِ أُسْرَتِهِ، وَهُمْ: وَالِدَاهُ، وَزَوْجَتُهُ، وَابْنُهُ الْكَافِرُ، وَأَمَّا أَبْنَاؤُهُ الْمُسْلِمُونَ وَهُمْ: سَامُ، وَحَامُ، وَيَافِثُ، فَالْإِشَارَةُ إِلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ -تَعَالَى-: (وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ * وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ)[الصافات:76-77]. قَالَ الْإِمَامُ الطَّبَرِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: "ذَلِكَ أَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ مِنْ بَعْدِ مَهْلِكِ نُوحٍ إِلَى الْيَوْمِ إِنَّمَا هُمْ ذُرِّيَّةُ نُوحٍ؛ فَالْعَجَمُ وَالْعَرَبُ أَوْلَادُ سَامَ بْنِ نُوحٍ، وَالتُّرْكُ وَالصَّقَالِبَةُ وَالْخَزَرُ أوْلَادُ يَافِثَ بْنِ نُوحٍ، وَالسُّودَانُ أَوْلَادُ حَامَ بْنِ نُوحٍ، وَبِذَلِكَ جَاءَتِ الْآثَارُ، وَقَالَتِ الْعُلَمَاءُ".
إِنَّ نُوحًا -عَلَيْهِ السَّلَامُ- كَانَ بَارًّا بِوَالِدَيْهِ، مُحْسِنًا إِلَيْهِمَا، رَحِيمًا بِهِمَا؛ فَلِذَلِكَ دَعَا لَهُمَا بِغُفْرَانِ الذُّنُوبِ، وَهَذِهِ دَعْوَةٌ مِنْ أَعْظَمِ الدَّعَوَاتِ، قَالَ -تَعَالَى- عَنْ ذَلِكَ: (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا)[نوح:28].
وَدَعْوَةُ الْوَلَدِ الصَّالِحِ لِوَالِدِهِ عَمَلُ بِرٍّ عَظِيمٌ، خَاصَّةً بَعْدَ مَمَاتِهِمَا، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ"(رَوَاهُ مُسْلِمٌ).
وَهَذَا الْفِعْلُ الْكَرِيمُ مِنْ نُوحٍ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- مَعَ وَالِدَيْهِ يُعَلِّمُ الْأُسْرَةَ الْمُسْلِمَةَ دَرْسًا أُسَرِيًّا بَلِيغًا، أَلَا وَهُوَ: اتِّصَالُ عَلَاقَةِ الْأَبْنَاءِ بِالْآبَاءِ بِصِلَةِ الدُّعَاءِ بَعْدَ أَنْ يَمُوتُوا؛ فَيَبْقَى ذِكْرُ الْوَالِدَيْنِ حَاضِرًا عَلَى أَلْسِنَةِ أَوْلَادِهِ بِدُعَائِهِمْ لَهُ، وَهُوَ بِذَلِكَ تَعْلِيمٌ لِأَوْلَادِ الدَّاعِي أَنْ يَكُونُوا مِثْلَهُ مَعَ وَالِدَيْهِ؛ فَحِينَمَا يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْلَمُونَ أَنَّ وَالِدَهُمْ أَوْ وَالِدَتَهُمْ مِنْ أَهْلِ الدُّعَاءِ لِلْوَالِدَيْنِ فَإِنَّهُمْ سَيَحْذَوْنَ حَذْوَهُمَا، وَيَقْتَدُونَ بِطَرِيقَتِهِمَا فِي هَذَا الْعَمَلِ الْجَلِيلِ، وَالْجَزَاءُ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ.
فَيَا مَعْشَرَ الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ: ادْعُوا لِآبَائِكُمْ وَأُمَّهَاتِكُمْ أَمَامَ أَوْلَادِكُمْ، وَعَلِّمُوهُمْ هَذَا الْأَدَبَ الْيَوْمَ؛ لِيَصْنَعُوهُ مَعَكُمْ غَدًا، وَكَمَا قِيلَ:
ويَنْشَأُ نَاشِئُ الْفِتْيَانِ مِنَّا | عَلَى مَا كَانَ عَوَّدَهُ أَبُوهُ |
وَمَا دَانَ الْفَتَى بِحِجًا وَلَكِنْ | يُعَلِّمُهُ التَّدَيُّنَ أَقْرَبُوهُ |
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ الزَّوْجَةَ هِيَ اللَّبِنَةُ الثَّانِيَةُ الَّتِي يَكْتَمِلُ بِهَا صَرْحُ الْأُسْرَةِ، وَلَهَا أَثَرٌ كَبِيرٌ فِي اسْتِقَامَةِ الْأُسْرَةِ أَوِ اعْوِجَاجِهَا، وَلَا شَكَّ أَنَّ الزَّوْجَ الصَّالِحَ يُحِبُّ أَنْ تَكُونَ زَوْجَتُهُ صَالِحَةً مِثْلَهُ؛ حَتَّى تَتِمَّ سَعَادَتُهُ بِهَا، وَتَنْشَأَ بَيْنَ يَدَيْهَا الذُّرِّيَّةُ الصَّالِحَةُ؛ فَلِذَلِكَ هُوَ يَسْعَى فِي تَقْوِيمِهَا وَتَعْلِيمِهَا وَإِصْلَاحِ مَا اعْوَجَّ مِنْ أَخْلَاقِهَا وَسُلُوكِهَا، غَيْرَ أَنَّ الرَّوَاسِبَ السَّابِقَةَ، أَوِ الْمُؤَثِّرَاتِ الْخَارِجِيَّةَ مِنْ بِيئَةٍ وَجَلِيسَاتِ سُوءٍ قَدْ يَغْلِبُ ذَلِكَ كُلُّهُ جُهْدَهُ التَّرْبَوِيَّ، وَإِصْلَاحَهُ الدِّينِيَّ لِأُمِّ أَوْلَادِهِ، وَلَا لَوْمَ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ إِنْ لَمْ يُثْمِرْ تَقْوِيمُهُ اسْتِقَامَةً فِيهَا؛ فَإِنَّ نُوحًا -عَلَيْهِ السَّلَامُ- نَبِيٌّ مِنْ أَنْبِيَاءِ اللهِ -تَعَالَى-، يَتَنَزَّلُ الْوَحْيُ فِي بَيْتِهِ، وَلَهُ خِبْرَةٌ طَوِيلَةٌ فِي دَعْوَةِ النَّاسِ، وَمَعَ ذَلِكَ كُلِّهِ لَمْ تُؤْمِنْ زَوْجَتُهُ، بَلْ بَقِيَتْ عَلَى دِينِ قَوْمِهَا، وَفِي صَفِّ أَعْدَاءِ زَوْجِهَا! فَسُبْحَانَ اللهِ الَّذِي يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَيُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ!
قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: "وَمَنْ بَذَل النُّصْحَ لِزَوْجَتِهِ فَمَا ارْعَوَتْ أَوِ اهْتَدَتْ؛ فَلَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يَقْلِبَ دَفَّتَيْ كِتَابِ رَبِّهِ فَيَقْرَأَ فِيهِ قَوْلَهُ –سُبْحَانَهُ-: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ)[التحريم:10]، فَيَا لَهَا مِنْ سَلْوَىَ وَإِنْ عَظُمَتِ الْبَلْوَى!"
وَقَالَ بَعْضُ الْمُخْتَصِّينَ عِنْدَ هَذِهِ الْآيَةِ: "لَقَدْ كَانَتْ هَاتَانِ الْمَرْأَتَانِ زَوْجَتَيْنِ لِنَبِيِّيْنِ مِنْ أَنْبِيَاءِ اللهِ، وَلَا بُدَّ أَنَّ نُوحًا وَلُوطًا -عَلَيْهِمَا السَّلَامُ- بَذَلَا مَعَهُمَا جُهْدًا فِي دَعْوَتِهِمَا إِلَى الدُّخُولِ فِي دِينِ اللهِ -تَعَالَى-، وَلَكِنْ حِينَ لَمْ يَكُنْ مِنْهُمَا مُبَادَرَةٌ ذَاتِيَّةٌ لَمْ يَنْتَفِعَا بِذَلِكَ الْجُهْدِ وَتِلْكَ الدَّعْوَةِ".
وَفِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ عِظَةٌ لِكُلِّ زَوْجَةِ رَجُلٍ صَالِحٍ، لَمْ تُشَارِكْهُ فِي صَلَاحِهِ، بَلْ كَانَتْ فِي صَفِّ مَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ؛ أَنَّ صَلَاحَ زَوْجِهَا لَا يُنْجِيهَا مِنْ عَذَابِ اللهِ، كَمَا لَمْ يُنْجِ صَلَاحُ نُوحٍ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- زَوْجَتَهُ الْكَافِرَةَ؛ فَعَلَيْهَا أَنْ تَرْجِعَ إِلَى رَبِّهَا الْيَوْمَ، وَتَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْهِدَايَةِ مَعَ زَوْجِهَا، حَتَّى تَجْتَمِعَ بِهِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ.
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ: "قَوْلُهُ -تَعَالَى-: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِلَّذِينَ كَفَرُوا) أَيْ: فِي مُخَالَطَتِهِمُ الْمُسْلِمِينَ وَمُعَاشَرَتِهِمْ لَهُمْ، أَنَّ ذَلِكَ لَا يُجْدِي عَنْهُمْ شَيْئًا وَلَا يَنْفَعُهُمْ عِنْدَ اللهِ، إِنْ لَمْ يَكُنِ الْإِيمَانُ حَاصِلاً فِي قُلُوبِهِمْ، ثُمَّ ذَكَرَ الْمَثَلَ فَقَالَ: (اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ) أَيْ: نَبِيَّيْنِ رَسُولَيْنِ عِنْدَهُمَا فِي صُحْبَتِهَا لَيْلاً وَنَهَارًا يُؤَاكِلَانِهِمَا وَيُضَاجِعَانِهِمَا وَيُعَاشِرَانِهِمَا أَشَدَّ الْعِشْرَةِ وَالِاخْتِلَاطِ، فَخَانَتَاهُمَا فِي الْإِيمَانِ، وَلَمْ يُوَافِقَاهُمَا عَلَيْهِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ: (فَخَانَتَاهُمَا) فِي فَاحِشَةٍ، بَلْ فِي الدِّينِ؛ فَإِنَّ نِسَاءَ الْأَنْبِيَاءِ مَعْصُومَاتٌ عَنِ الْوُقُوعِ فِي الْفَاحِشَةِ؛ لِحُرْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَا بَغَتِ امْرَأَةُ نَبِيٍّ قَطُّ، إِنَّمَا كَانَتْ خِيَانَتُهُمَا فِي الدِّينِ" .
نَسْأَلُ اللهَ -تَعَالَى- أَنْ يُصْلِحَنَا، وَيُصْلِحَ زَوْجَاتِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا، وَأَنْ يَغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدِينَا، وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ.
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ، فَاسْتَغْفِرُوهُ؛ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى النَّبِيِّ الْأَمِينِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ، أَمَّا بَعْدُ:
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ الْأَوْلَادَ ثَمَرَةُ الْفُؤَادِ، وَبَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْإِسْعَادِ؛ فَلِذَلِكَ يَحْرِصُ الْأَبُ الصَّالِحُ وَالْأُمُّ الصَّالِحَةُ عَلَى تَنْشِئَتِهِمْ تَنْشِئَةً قَوِيمَةً، وَيُذَلِّلَانِ لَهُمْ طَرِيقَ الِاهْتِدَاءِ مَا اسْتَطَاعَا إِلَى ذَلِكَ سَبِيلًا.
وَقَدْ يُثْمِرُ هَذَا الْحِرْصُ عَلَى الْهِدَايَةِ فِي جَمِيعِ الْأَوْلَادِ، وَقَدْ لَا يُثْمِرُ إِلَّا فِي بَعْضِهِمْ، وَفِي أَحْيَانٍ أُخْرَى لَا يُثْمِرُ مُطْلَقًا؛ لِحِكَمٍ يَعْلَمُهَا اللهُ تَعَالَى؛ فَنَبِيُّ اللهِ نُوحٌ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- اهْتَدَى بِدَعْوَتِهِ ثَلَاثَةٌ مِنْ أَبْنَائِهِ، وَأَمَّا ابْنُهُ الرَّابِعُ فَكَانَ عَلَى دِينِ أُمِّهِ وَقَوْمِهِ، وَأَبَى الِاسْتِجَابَةَ لِدَعْوَةِ أَبِيهِ النَّبِيِّ، وَالِانْضِمَامَ إِلَى الْأُسْرَةِ الْمُسْلِمَةِ.
وَكَمْ قَدْ بَذَلَ أَبُوهُ فِي هِدَايَتِهِ، وَلَكِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَصِلَ إِلَى قَلْبِهِ؛ لِأَنَّ الْقُلُوبَ بِيَدِ عَلَّامِ الْغُيُوبِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: "وَمَنْ بَذَلَ وُسْعَهُ وَعَمِلَ طَاقَتَهُ مَعَ أَبْنَائِهِ فَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِصْرَارًا وَإِعْرَاضًا، فَلْيَسْمَعْ -فِي أَسًى وَأَسَفٍ- إِلَى صَرْخَةِ نُوحٍ النَّبِيِّ الْمُبْتَلَى الصَّابِرِ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي ابْنِهِ الْكَافِرِ الْفَاجِرِ: (وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ)، إِلَى قَوْلِهِ: (...إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْجَاهِلِينَ) فَأَيُّ تَسْرِيَةٍ عَنِ الْقَلْبِ وَتَسْلِيَةٍ لِلْعَقْلِ أَعْظَمُ مِنْ هَذِهِ؟!"
وَمَعَ ذَلِكَ فَهَا هُوَ نُوحٌ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- يَجْتَهِدُ فِي دَعْوَةِ ابْنِهِ دُونَ يَأْسٍ مِنِ اسْتِجَابَتِهِ حَتَّى آخِرِ لَحْظَةٍ.
وَتَأَمَّلُوا -مَعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ- هَذَا الْمَشْهَدَ الْأَبَوِيَّ فِي كَمَالِ شَفَقَةِ الْأَبِ الْمُؤْمِنِ وَتَلَطُّفِهِ وَهُوَ يَدْعُو ابْنَهُ الضَّالَّ وَهُوَ فِي كَامِلِ نُفُورِهِ وَعَدَمِ اسْتِجَابَتِهِ، وَكَيْفَ أَنَّ قَرَابَتَهُ مِنْ أَبِيهِ الْمُؤْمِنِ لَمْ تُنْجِهِ مِنْ عَذَابِ اللهِ، قَالَ -تَعَالَى-: (وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ * وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[هود:42-47].
فَيَا أَيُّهَا الْآبَاءُ الْفُضَلَاءُ، احْرِصُوا عَلَى تَرْبِيَةِ أُسَرِكُمْ تَرْبِيَةً صَالِحَةً، ابْتِدَاءً مِنْ بِرِّكُمْ لِوَالِدِيكُمْ، وَدَعْوَتِكُمْ لَهُمْ، ثُمَّ بِالسَّعْيِ الْحَثِيثِ فِي إِصْلَاحِ الزَّوْجَاتِ، وَبَذْلِ الْوُسْعِ فِي هِدَايَتِهِنَّ، ثُمَّ فِي تَنْشِئَةِ الْبَنِينَ وَالْبَنَاتِ عَلَى الصَّلَاحِ وَالتُّقَى؛ فَإِنْ قَدَّمْتُمْ مَا تَسْتَطِيعُونَ مِنْ أَسْبَابِ الْهِدَايَةِ مِنْ غَيْرِ كَلَلٍ وَلَا يَأْسٍ فَاعْوَجَّ سَيْرُ بَعْضِ أَفْرَادِ الْأُسْرَةِ فَلَا مَلَامَةَ عَلَيْكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ؛ (فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ)[فاطر:8].
أَسْأَلُ اللهَ -تَعَالَى- أَنْ يُصْلِحَنَا، وَيُصْلِحَ أُسَرَنَا صَلَاحًا لَا فَسَادَ فِيهِ.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى مَنْ أُمِرْتُمْ بِالصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَيْهِ، كَمَا أَمَرَكُمُ اللهُ فِي كِتَابِهِ فَقَالَ: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب:56].