الغفار
كلمة (غفّار) في اللغة صيغة مبالغة من الفعل (غَفَرَ يغْفِرُ)،...
العربية
المؤلف | عبد الله بن علي الطريف |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
ومن أعظمِ هذه النعم نعمة لا يدرك مكانتها إلا الموفّقون، وإذا أراد الله بعبد خيرًا أنزلها عليه؛ إنها "البركة"، فمتى نزلت على العبدٍ في رزقِه وقوتِه ووقتِه وعلمِه، سَعُدَ وصَلُحَ حالُه. البركة التي يصيرُ بها القليلُ كثيرًا، والصعبُ سهلاً والصغيرُ كبيراً. ومن هُيِّئت له أسبابها، وفُتِحَت في وجهِهِ أبوابها، فقد أُوتِيَ جماع الخير.
الخطبة الأولى:
أيها الإخوة: لقد أنعم الله علينا نعماً لا تُعدُ ولا تُحصَى، ومن أعظمِ هذه النعم نعمة لا يدرك مكانتها إلا الموفّقون، وإذا أراد الله بعبد خيرًا أنزلها عليه؛ إنها "البركة"، فمتى نزلت على العبدٍ في رزقِه وقوتِه ووقتِه وعلمِه، سَعُدَ وصَلُحَ حالُه.
نعم أحبتي: البركة التي يصيرُ بها القليلُ كثيرًا، والصعبُ سهلاً والصغيرُ كبيراً. ومن هُيِّئت له أسبابها، وفُتِحَت في وجهِهِ أبوابها، فقد أُوتِيَ جماع الخير. والبركةُ تكون في الأموالِ، وفي العيال، وفي جميع الأحوال، وما فتح الله من أبوابها لا يغلقُه أحدٌ سواه، وما أغلق لا يستطيع أحدٌ أن يفتحه غيره سبحانه وبحمده.
وللبركة أسباب كثيرة نذكر بعضها:
فمن أعظم الأسباب التي تفتح بها أبواب البركات والرحمات تقوى الله -جل جلاله-، تقوى الله التي يجزلُ الله بها العطايا والخيرات قال -سبحانه-: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ)[الأعراف:66]. قال السعدي -رحمه الله-: "أي: لو آمنوا بقلوبهم إيماناً صادقاً صدقته الأعمال، واستعملوا تقوى الله -تعالى- ظاهراً وباطناً بترك جميع ما حرم الله، لفتح عليهم بركات السماء والأرض، فأرسل السماء عليهم مدرارًا، وأنبت لهم من الأرض ما به يعيشون وتعيش بهائمهم، في أخصب عيش وأغزر رزق، من غير عناء ولا تعب، ولا كدّ ولا نَصَب. وقال -تعالى-: (وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا)[الجن:16].
إذا البركة والخير كل الخير في تقوى الله -جل وعلا-، ومن اتقى الله جعل له من كلّ هَمّ فرجًا، ومن كل ضيق مخرجًا، ورزقه من حيث لا يحتسب، فلن تضيق أرض الله على عبد يتقي الله، ولن يضيق العيش والرزق على من خاف الله واتقاه.
ومن أسباب البركة: التبكير في قضاء الأعمال والتجارات وطلب العلم وغير ذلك، وقد دعا بالبركة في البكور النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-؛ فَعَنْ صَخْرِ بْنِ وَدَاعَةَ الْغَامِدِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "اللَّهُمَّ بَارِكْ لِأُمَّتِي فِي بُكُورِهَا". وَكَانَ إِذَا بَعَثَ سَرِيَّةً أَوْ جَيْشًا بَعَثَهُمْ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ "وَكَانَ صَخْرٌ رَجُلًا تَاجِرًا، وَكَانَ يَبْعَثُ تِجَارَتَهُ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ فَأَثْرَى وَكَثُرَ مَالُهُ"(رواه أبو داود وصححه الألباني).
ومن أعظم البكور وأشرفه، أن تصلي الفجر في وقتها مع جماعة المسلمين، ولا تؤخرها إلى ما بعد طلوع الشمس، فليس ذلك ببكور، بل تأخير وفتور.
ومن المجرب أن الإنسان إذا وفَّقه الله لاستثمار هذا الوقت فإنه يحس ببركة يومه كله، وإذا فاته وقت التبكير فإنه يحسّ بفقدان ذلك اليوم، ولذلك كان السلف يعدّون عدم البكور عيباً. فَعَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ: غَدَوْنَا عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- يَوْمًا بَعْدَمَا صَلَّيْنَا الْغَدَاةَ، فَسَلَّمْنَا بِالْبَابِ، فَأَذِنَ لَنَا، قَالَ: فَمَكَثْنَا بِالْبَابِ هُنَيَّةً، قَالَ: فَخَرَجَتْ الْجَارِيَةُ فَقَالَتْ: أَلا تَدْخُلُونَ؟ فَدَخَلْنَا. فَإِذَا هُوَ جَالِسٌ يُسَبِّحُ فَقَالَ: مَا مَنَعَكُمْ أَنْ تَدْخُلُوا وَقَدْ أُذِنَ لَكُمْ؟ فَقُلْنَا: لا، إلا أَنَّا ظَنَنَّا أَنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْبَيْتِ نَائِمٌ. قَالَ: ظَنَنْتُمْ بِآلِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ غَفْلَةً؟!(رواه مسلم).
وقال ابن القيم -رحمه الله-: "وَمِنَ الْمَكْرُوهِ عِنْدَهُمُ أي السلف الصالح النَّوْمُ بَيْنَ صَلَاةِ الصُّبْحِ وَطُلُوعِ الشَّمْسِ، فَإِنَّهُ وَقْتُ غَنِيمَةٍ، وَلِلسَّيْرِ ذَلِكَ الْوَقْتَ عِنْدَ السَّالِكِينَ مَزِيَّةٌ عَظِيمَةٌ، حَتَّى لَوْ سَارُوا طُولَ لَيْلِهِمْ لَمْ يَسْمَحُوا بِالْقُعُودِ عَنِ السَّيْرِ ذَلِكَ الْوَقْتَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، فَإِنَّهُ أَوَّلُ النَّهَارِ وَمِفْتَاحُهُ، وَوَقْتُ نُزُولِ الْأَرْزَاقِ، وَحُصُولِ الْقَسْمِ، وَحُلُولِ الْبَرَكَةِ، وَمِنْهُ يَنْشَأُ النَّهَارُ، وَيَنْسَحِبُ حُكْمُ جَمِيعِهِ عَلَى حُكْمِ تِلْكَ الْحِصَّةِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ نَوْمُهَا كَنَوْمِ الْمُضْطَرِّ".
وقال العجلوني -رحمه الله-: "العقل بكرة النهار يكون أكمل منه وأحسن تصرفاً منه في آخره، ومن ثم ينبغي التبكير لطلب العلم ونحوه من المهمات".
ومن أسباب البركة: كثرة الدعاء بطلبها، والمتأمل لهدي المصطفى -صلى الله عليه وسلم- يجده يدعو بالبركة في كثير من أدعيته، ويدعو بها لأصحابه، من ذلك في التحية وعند الطعام والشراب واللباس والسكن والشراء والبيع والزواج وفي كل شئون الحياة، فينبغي للمسلم أن يُكثر من الدعاء بالبركة في ماله ووقته وزوجه وأولاده ومن يلقى من المسلمين وفي سائر شؤونه، وكتب السنة والأدعية مليئة منها.
ومن أسبابها: أخذ المال من طرق حلال: فعن أبي سعيد الخدري رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ذكر للصحابة ما يفتح لهم من زهرة الدنيا، ثم قال في آخر الحديث: "فَمَنْ يَأْخُذْ مَاَلاً بِحَقْهِ يُبَارَكْ لَهُ فِيهَ، ومَنْ يَأْخُذُ مالاً بِغَيْرِ حَقِّهِ فمثلُهُ كَمثلِ الَّذِي يَأْكُلُ وَلاَ يَشْبَعُ"(رواه البخاري ومسلم).
ومن أسباب البركة: بر الوالدين وصلة الرحم: فهما من أعظم أسباب استجلاب البركة، بركة العمر والمال والوقت والذرية وغيرها. فعن أَنَس بْن مَالِكٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، وَيُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ"(متفق عليه)، ومن وصل رحمه وصله الله، ومن قطع رحمه قطعه الله -تعالى-.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "تَعَلَّمُوا مِنْ أَنْسَابِكُمْ مَا تَصِلُونَ بِهِ أَرْحَامَكُمْ، فَإِنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ مَحَبَّةٌ فِي الأَهْلِ، مَثْرَاةٌ فِي المَالِ، مَنْسَأَةٌ فِي الأَثَرِ"(رواه الترمذي وصححه الألباني)، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: "مَنْسَأَةٌ فِي الأَثَرِ" يَعْنِي زِيَادَةً فِي الْعُمُرِ.
وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِنَّ أَعْجَلَ الطَّاعَةِ ثَوَابًا صِلَةُ الرَّحِمِ، حَتَّى إِنَّ أَهْلَ الْبَيْتِ لِيَكُونُوا فَجَرَةً، فَتَنْمُو أَمْوَالُهُمْ، وَيَكْثُرُ عَدَدُهُمْ إِذَا تَوَاصَلُوا، وَمَا مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ يَتَوَاصَلَونَ فَيَحْتَاجُونَ"(رواه ابن حبان وصححه الأرناؤوط).
ومن أسباب البركة: الصدق في البيع والشراء؛ قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، فَإنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا، وَإنْ كَذَبَا وَكَتَمَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا"(متفق عليه)؛ فمن كذب في بيعه وشرائه، فهذا محقت منه البركة.
ومن أعظم البركة ما وعد به النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- التاجر من المكانة قَالَ: "التَّاجِرُ الصَّدُوقُ الأَمِينُ مَعَ النَّبِيِّـينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ"(رواه الترمذي، وقال الألباني صحيح لغيره). فمن أراد أن يستجلب البركة في بيعه وشرائه في الدنيا والمكانة العالية في الآخرة، فليصدق في بيعه.
ومن أسباب البركة: الصدق بين الشركاء؛ فعَن أبي هُرَيْرَة -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- رَفَعَهُ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: أَنا ثَالِث الشَّرِيكَيْنِ مَا لم يخن صَاحِبَهُ فَإِذَا خَانَهُ خَرَجْتُ مِنْ بَيْنِهِمَا"(رَوَاهُ أَبُو دَاوُد) وَزَاد رزين: "وَجَاء الشَّيْطَان"(رواه أبو داود والحاكم، وقال صحيح الإسناد. وصححه بعض أهل العلم).
قال المناوي: "بالمعونة وحصول البركة والنماء "مَا لم يخن صَاحِبَهُ" بترك أداء الأمانة وعدم التحرز من الخيانة "فَإِذَا خَانَهُ" بذلك "خَرَجْتُ مِنْ بَيْنِهِمَا" يعني نزعت البركة من مالهما". وقال الطيبي: "فشركة اللّه لهما استعارة، كأنه جعل البركة بمنزلة المال المخلوط، فسمى ذاته ثالثاً لهما، وفيه ندب الشركة، وأن فيها البركة بشرط الأمانة، وذلك لأن كلاً منهما يسعى في نفع صاحبه، واللّه في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه، كما في خبر آخر".
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
الخطبة الثانية:
أيها الإخوة: ومن أسباب البركات التي تجلب الرحمات، التيسير على معسر، ومَن يسر على معسر يسر الله له في الدنيا والآخرة، ومن فرَّج كربة المكروب فرَّج الله كربته في الدنيا والآخرة.
ومن أساب البركة: الصدقة؛ قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ"(رواه مسلم). وقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ إِلاَّ مَلَكَانِ يَنْزِلاَنِ فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَيَقُولُ الآخَرُ: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفاً"(رواه البخاري ومسلم)، وقد ذكر بعض الإخوان أنهم إذا قبضوا الراتب الشهري وتصدقوا منه ولو بجزء يسير فيجدون البركة فيه إلى آخر الشهر، وهذا شيء مجرب يعرفه كثير من الناس.
ومن أسباب البركة: السلام على الأهل عند دخول البيوت: قال الله -تعالى-: (فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً)[النور:61]، قال السعدي -رحمه الله-: (فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا) يشمل بيت الإنسان وبيت غيره، سواء كان في البيت ساكن أم لا؛ فإذا دخلها الإنسان (فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ) أي: فليسلم بعضكم على بعض؛ لأن المسلمين كأنهم شخص واحد، من توادّهم، وتراحمهم، وتعاطفهم، فالسلام مشروع لدخول سائر البيوت، من غير فرق بين بيت وبيت.
ثم مدح هذا السلام فقال: (تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً) أي: سلامكم بقولكم: "السلام عليكم ورحمة الله وبركاته"، أو "السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين"؛ إذ تدخلون البيوت، (تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) أي: قد شرعها لكم، وجعلها تحيتكم، (مُبَارَكَةً)؛ لاشتمالها على السلامة من النقص، وحصول الرحمة والبركة والنماء والزيادة، (طَيِّبَةً)؛ لأنها من الكلم الطيب المحبوب عند الله، الذي فيه طيب نفس للمحيا، ومحبة وجلب مودة. وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "يَا بُنَيَّ إِذَا دَخَلْتَ عَلَى أَهْلِكَ فَسَلِّمْ يَكُونُ بَرَكَةً عَلَيْكَ وَعَلَى أَهْلِ بَيْتِكَ"(رواه الترمذي، وقال الألباني: حسن لغيره).
ومن أسباب البركة: اتخاذ الغنم فعَنْ أُمِّ هَانِئٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْها- قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "اتَّخِذُوا الْغَنَمَ، فَإِنَّ فِيهَا بَرَكَةً"، وفي رواية: "فَإِنَّهَا تَرُوحُ بِخَيْرٍ، وَتَغْدُو بِخَيْرٍ"(رواه أحمد وصححه الألباني). وعَنْ عُرْوَةَ الْبَارِقِيِّ، يَرْفَعُهُ، قَالَ: "الْإِبِلُ عِزٌّ لِأَهْلِهَا، وَالْغَنَمُ بَرَكَةٌ، وَالْخَيْرُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِي الْخَيْلِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ"(رواه ابن ماجة وصححه الألباني).
وصلوا وسلموا..