القدوس
كلمة (قُدُّوس) في اللغة صيغة مبالغة من القداسة، ومعناها في...
العربية
المؤلف | محمود بن أحمد الدوسري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المهلكات - نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
عَجَبًا لِلْبَخِيلِ؛ الْمُتَعَجِّلِ لِلْفَقْرِ الَّذِي مِنْهُ هَرَبَ، وَالْمُؤَخِّرِ لِلسَّعَةِ الَّتِي إيَّاهَا طَلَبَ، وَلَعَلَّهُ يَمُوتُ بَيْنَ هَرَبِهِ وَطَلَبِهِ، فَيَكُونُ عَيْشُهُ فِي الدُّنْيَا عَيْشَ الْفُقَرَاءِ، وَحِسَابُهُ فِي الآخِرَةِ حِسَابَ الأغْنِيَاءِ، مَعَ أَنَّك لَمْ تَرَ بَخِيلاً إلاَّ غَيْرُهُ أَسْعَدُ بِمَالِهِ مِنْهُ؛ لأنَّهُ فِي الدُّنْيَا مُهْتَمٌّ بِجَمْعِهِ، وَفِي الآخِرَةِ آثِمٌ بِمَنْعِهِ، وَغَيْرُهُ آمِنٌ فِي الدُّنْيَا مِنْ هَمِّهِ، وَنَاجٍ فِي الآخِرَةِ مِنْ إثْمِهِ...
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الكريم، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: البُخل من أشد الأدواء، وهو من الصفات المذمومة، قال الله -تعالى-: (وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)[آل عمران:180]؛ "أي: ولا يَظُنُّ الذين يبخلون، أي: يمنعون ما عندهم مما آتاهم الله من فضله؛ من المال والجاه والعلم، وغير ذلك مما مَنَحَهم الله -تعالى-، وأحسن إليهم به، وأمَرَهم ببذل ما لا يضرهم منه لعباده، فبَخِلوا بذلك، وأمسكوه، وضَنُّوا به على عبادِ الله، وظنُّوا أنه خيرٌ لهم، بل هو شرّ لهم، في دينهم ودنياهم، وعاجلهم وآجلهم، (سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)؛ أي: يُجعَلُ ما بَخِلوا به طوقاً في أعناقهم، يُعذَّبون به".
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ آتَاهُ اللَّهُ مَالاً فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ؛ مُثِّلَ لَهُ مَالُهُ شُجَاعًا أَقْرَعَ، لَهُ زَبِيبَتَانِ يُطَوَّقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَأْخُذُ بِلِهْزِمَتَيْهِ -يَعْنِي: بِشِدْقَيْهِ- يَقُولُ: أَنَا مَالُكَ، أَنَا كَنْزُكَ"؛ ثُمَّ تَلاَ هَذِهِ الآيَةَ: (وَلاَ يَحْسِبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) إِلَى آخِرِ الآيَةِ.(رواه البخاري).
والشح هو أشد البخل، قال الرازي: "الشُّحُّ: البخل مع حرص". وقد بيَّن الله -تعالى- في كتابه العزيز بأنَّ الفلاح في الدنيا والآخرة مرهون بترك الشح: (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ)[الحشر:9]؛ "أي: مَنْ سَلِمَ من الشحِّ فقد أفلح وأنجح"( تفسير ابن كثير 8/71).
والإيمان والشحّ لا يجتمعان، قال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ يَجْتَمِعُ شُحٌّ وَإِيمَانٌ فِي قَلْبِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ"(رواه النسائي).
ولخطورة البخل؛ فقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يستعيذ بالله منه في كلِّ صلاة - قبل أن يُسلِّم؛ فعن سعد بن أبي وقاصٍ -رضي الله عنه-؛ أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَتَعَوَّذُ بِهِنَّ دُبُرَ كُلِّ صَّلاَةٍ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْبُخْلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْجُبْنِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ أَرْذَلِ الْعُمُرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا، وَعَذَابِ الْقَبْرِ"(رواه البخاري).
عباد الله: إنَّ البخل دركات: فأشده: البخل بالفرائض والواجبات؛ كالبخل بالزكاة، أو النفقة على الأهل، أو الضيافة الواجبة، ومن أنواع البخل: البخل بما يُستحب؛ كالبخل بالصدقات، أو إقراض الآخرين، أو الضيافة المستحبة. وحقيقة البخل: هو الضنُّ بما يجب أو يُستحبُّ بذلُه.
وربما تطرأ على الإنسان أمور تجعله بخيلاً؛ بسبب كثرة عياله أو قلةِ ماله، أو خشية الفقر، فينبغي له أن يكون مقتصداً بين الإسراف والتقتير؛ كما قال -سبحانه-: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا)[الفرقان:67]. وحدّ الوسط في ذلك: ألاَّ يمتنع عن حقٍّ شرعي يتعلق بالمال؛ فإذا كان يؤدي حقوقَ الله -تعالى- في ماله؛ من زكاةٍ، أو مساعدةِ ضعفاء، أو إحسانٍ إلى الجار، أو صلةِ ذي رحم؛ فلا يقال: إنه بخيل. ولكن إذا كان يُمسك عن الواجب الذي أوجبه الله عليه شُحًّا بماله؛ فهذا هو البخيل. كما أنَّ الإسراف هو: أن يُبَذِّر المال في غير وجهه، كأنْ يُنفقه في لهوٍ أو لعب، أو ما لا يجوز له شرعاً، أو يُعطيه السفهاءَ يُبذِّرونه ويُضيِّعونه، فهذا تبذير ولا يجوز. (شرح بلوغ المرام، عطية محمد سالم 3/69).
ومن أعظم أنواع البخل: البخل بالعلم، قال الله -تعالى-: (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ)[النساء:37]. فهؤلاء بَخِلوا بالعلم وبالمال، وحالهم تشبه حال أهل الكتاب، الذين توعَّدهم الله -تعالى-؛ بسبب بُخلِهم وكتمانهم للعلم: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمْ اللاَّعِنُونَ)[البقرة: 159]. وقال -سبحانه-: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلاَ يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)[البقرة: 174]؛ فكلُّ مَنْ بَخِلَ بعلمه فهو مُتوعَّد بِمِثل هذه الآيات الكريمات.(اقتضاء الصراط المستقيم 3/12).
أيها المسلمون: إنَّ من أعظم البخل: ترك الثناء على الله -تعالى-، وهو -سبحانه- أهلٌ للثناء والمجد، لا نُحصي ثناءً عليه، وكان من دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم-: "اللَّهُمَّ أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ، لاَ أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ، أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ"(رواه مسلم).
ومن البخل أيضاً: ترك الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لقوله -عليه الصلاة والسلام-: "الْبَخِيلُ الَّذِي مَنْ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ"(رواه الترمذي). وقال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "رَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ"(رواه الترمذي).
قال ابن القيم -رحمه الله-: "الأمر بالصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- في مُقابَلَةِ إحسانه إلى الأُمَّة، وتعليمهم وإرشادهم وهدايتهم، وما حصل لهم ببركته من سعادة الدنيا والآخرة، ومعلوم أنَّ مُقابَلَةَ مِثْلِ هذا النفع العظيم لا يَحصل بالصلاة عليه مرَّة واحدة في العمر، بل لو صلَّى العبدُ عليه بعدد أنفاسه لم يكن مُوَفِّياً لِحَقِّه، ولا مؤدِّياً لِنِعمَتِه، فجعل ضابِطَ شُكرِ هذه النعمة بالصلاة عليه عند ذِكْرِ اسمِه.
ولهذا أشار النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- إلى ذلك بتسمية مَنْ لم يُصَلِّ عليه عند ذِكْرِه بخيلاً؛ لأنَّ مَنْ أحسنَ إلى العبد الإحسانَ العظيم، وحصل له به هذا الخير الجسيم، ثم يُذكَر عنده ولا يُثني عليه، ولا يُبالِغُ في مدحه؛ عَدَّهُ الناسُ بخيلاً لئيماً كفوراً، فكيف بِمَنْ أدنى إحسانه إلى العبد يزيد على أعظم إحسان المخلوقين بعضهم لبعض، فلا أقلَّ من أنْ يصَلَّى عليه مرة إذا ذُكِرَ اسمُه -صلى الله عليه وسلم-.
ولهذا دعا عليه النبيُّ بِرَغِمَ أنْفُه، وهو أنْ يُلْصَقَ أنفُه بالرَّغام وهو التراب؛ لأنه لَمَّا ذُكِرَ عنده فلم يُصَلِّ عليه، استحقَّ أنْ يُذِلَّه الله -تعالى-، ويُلْصِقَ أنفَه بالتراب"(جلاء الأفهام ص 389 باختصار).
ومن البخل أيضاً: البخل بالسلام؛ لقول النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-: "أَبْخَلُ النَّاسِ مَنْ بَخِلَ بِالسَّلاَمِ"(رواه الطبراني في "الأوسط"، والبيهقي في "شعب الإيمان").
الخطبة الثانية":
الحمد لله..
أيها المسلمون: من أعظم الأمور التي تُنفِّر الناسَ من البُخل: أنَّ البخيل يعيش في الدنيا عيشَ الفقراء، ويُحاسب في الآخرة حِسابَ الأغنياء، وفي ذلك يقول ابن مفلح -رحمه الله-: "عَجَبًا لِلْبَخِيلِ؛ الْمُتَعَجِّلِ لِلْفَقْرِ الَّذِي مِنْهُ هَرَبَ، وَالْمُؤَخِّرِ لِلسَّعَةِ الَّتِي إيَّاهَا طَلَبَ، وَلَعَلَّهُ يَمُوتُ بَيْنَ هَرَبِهِ وَطَلَبِهِ، فَيَكُونُ عَيْشُهُ فِي الدُّنْيَا عَيْشَ الْفُقَرَاءِ، وَحِسَابُهُ فِي الآخِرَةِ حِسَابَ الأغْنِيَاءِ، مَعَ أَنَّك لَمْ تَرَ بَخِيلاً إلاَّ غَيْرُهُ أَسْعَدُ بِمَالِهِ مِنْهُ؛ لأنَّهُ فِي الدُّنْيَا مُهْتَمٌّ بِجَمْعِهِ، وَفِي الآخِرَةِ آثِمٌ بِمَنْعِهِ، وَغَيْرُهُ آمِنٌ فِي الدُّنْيَا مِنْ هَمِّهِ، وَنَاجٍ فِي الآخِرَةِ مِنْ إثْمِهِ"(الآداب الشرعية 3/483).
ولا تَجِدُ رجلاً صالحاً بخيلاً البتة، قال حبيش الثقفي: "قعدتُ مع أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، والناس متوافرون، فاجمعوا: أنهم لا يعرفون رجلاً صالحاً بخيلاً"(طبقات الحنابلة 1/145).
قال ابن قدامة -رحمه الله- في الفرق بين السَّخاء والبخل: "السخاء والبخل درجات: فأرفع درجات السخاء: الإيثار، وهو أنْ تجود بالمال مع الحاجة إليه. وأشد درجات البخل: أنْ يبخل الإنسانُ على نفسِه مع الحاجة، فكم من بخيلٍ يُمسك المالَ، ويَمرض فلا يتداوى، ويشتهي الشهوةَ فيمنعه منها البُخل. فكم بَيْنَ مَنْ يبخل على نفسه مع الحاجة، وبين مَنْ يُؤثر على نفسه مع الحاجة، فالأخلاق عطايا يضعها الله -عز وجل- حيثُ يشاء"(مختصر منهاج القاصدين 3/72).
وتحدَّث ابن القيم -رحمه الله- عن الحد الفاصل بين السَّخاء والبخل فقال: "حَدُّ السَّخاء: بذلُ ما يُحتاج إليه عند الحاجة، وأنْ يُوصِلَ ذلك إلى مُستحِقِّه بقدر الطاقة.. وإذا كان السَّخاءُ محموداً؛ فمَنْ وقَفَ على حَدِّه سُمِّيَ كريماً، وكان للحمد مُستوجِباً، ومَنْ قَصَرَ عنه كان بخيلاً، وكان للذم مُستوجِباً"(الوابل الصيب ص 49).
وضابط البخل بالمال: يرجع إلى تعلُّق النفس به، فمَنْ كانت نفسُه غير شَرِهَةٍ بالمال؛ فهذا غني، ولو لم تمتلئ خزائنه بالدراهم؛ لقول النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرٌ حُلْوٌ، فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ، وَكَانَ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلاَ يَشْبَعُ"(رواه البخاري ومسلم).
قال ابن تيمية -رحمه الله-: "ينبغي أنْ يأخذ المالَ بسخاوةِ نَفْسٍ لِيُبارَكَ له فيه، ولا يأخُذَه بإشرافٍ وهلع؛ بل يكون المال عنده بمنزلة الخلاء الذي يحتاج إليه من غير أن يكون له في القلب مكانة، والسعي فيه إذا سعى كإصلاح الخلاء"(الزهد والورع والعبادة ص 95).
ومصداقه أيضاً؛ قول النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-: "لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ، وَلَكِنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ"(رواه البخاري ومسلم).
ومن أعظم أسباب البخل: سوء الظن بالله -تعالى-، وأمَّا مَنْ أحسن ظنَّه بربه؛ فإنه يُوقِنُ بأنَّ الله -تعالى- يُخلِفُه خيراً في نفقاته، وفي هذا أعظم علاجٍ للبخل والشح.
وصلوا وسلموا...