الحفيظ
الحفظُ في اللغة هو مراعاةُ الشيء، والاعتناءُ به، و(الحفيظ) اسمٌ...
العربية
المؤلف | محمود بن أحمد الدوسري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الحديث الشريف وعلومه - الصلاة |
هذا دعاءٌ عظيم, جامِعٌ لأبواب الخير كلِّها, وأصولِ السعادة في الدنيا والآخرة, اشتمل على مطالِبَ جليلة, ومقاصِدَ عظيمة؛ ففيه سؤالُ اللهِ الهدايةَ والعافيةَ, والتَّوَلِّي والبركةَ والوِقاية, مع الإقرار بأنَّ الأُمورَ كلَّها بيده, وتحت تدبيره...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ, نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ, وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا, وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا, مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ, وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ, وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ, وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
أمَّا بعد: عن الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ رضي الله عنهما, قال: عَلَّمَنِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَلِمَاتٍ أَقُولُهُنَّ فِي الْوِتْرِ -أي: فِي قُنُوتِ الْوِتْرِ-: "اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ, وَعَافِنِي فِيمَنْ عَافَيْتَ, وَتَوَلَّنِي فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ, وَبَارِكْ لِي فِيمَا أَعْطَيْتَ, وَقِنِي شَرَّ مَا قَضَيْتَ؛ إِنَّكَ تَقْضِي وَلاَ يُقْضَى عَلَيْكَ, وَإِنَّهُ لاَ يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ, وَلاَ يَعِزُّ مَنْ عَادَيْتَ, تَبَارَكْتَ رَبَّنَا وَتَعَالَيْتَ"(صحيح, رواه أبو داود والترمذي).
هذا دعاءٌ عظيم, جامِعٌ لأبواب الخير كلِّها, وأصولِ السعادة في الدنيا والآخرة, اشتمل على مطالِبَ جليلة, ومقاصِدَ عظيمة؛ ففيه سؤالُ اللهِ الهدايةَ والعافيةَ, والتَّوَلِّي والبركةَ والوِقاية, مع الإقرار بأنَّ الأُمورَ كلَّها بيده, وتحت تدبيره, فما شاء كان, وما لَمْ يشأْ لَم يكن.
وتفصيلُه فيما يلي:
قوله: "اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ"؛ أي: اجعلني من جُملة مَنْ هديتَ من عبادك المَهدِيِّين, وحَسُنَ أولئك رفيقاً, فأنتَ تتوسَّلُ إلى الله بإحسانه وإنعامِه الذي هَدى غيرَك أنْ يهديَكَ في جُملتِهم, وأنَّ ما حصل لأولئك من الهُدى لَمْ يَكُنْ منهم ولا بأنفسهم, وإنما كان مِنكَ فأنتَ الذي هديتَهم.
والهدايةُ النافعةُ هي التوفيقُ للعلم النافع, والعمل الصالح, فليست الهدايةُ أنْ يعلمَ المرءُ الحقَّ بِلا عَملٍ به, وليست كذلك أنْ يعمل بلا عِلمٍ نافعٍ يهتدي به.
وقوله: "وَعَافِنِي فِيمَنْ عَافَيْتَ"؛ أي: اجعلني من جُملة مَنْ عافيتَ من أهل طاعتك, ففيه سؤالُ اللهِ العافيةَ المُطلَقة, وهي العافيةُ من الكفر والفُسوقِ والعِصيان, والغَفلةِ والأمراضِ والأسقامِ والفِتن.
عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ -رضي الله عنه- قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ! عَلِّمْنِي شَيْئًا أَسْأَلُهُ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ-, قَالَ: "سَلِ اللَّهَ الْعَافِيَةَ", فَمَكَثْتُ أَيَّامًا, ثُمَّ جِئْتُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! عَلِّمْنِي شَيْئًا أَسْأَلُهُ اللَّهَ, فَقَالَ لِي: "يَا عَبَّاسُ, يَا عَمَّ رَسُولِ اللَّهِ! سَلِ اللَّهَ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ"(صحيح, رواه أحمد والترمذي)؛ قال النووي -رحمه الله-: "وَقَدْ كَثُرَتِ الْأَحَادِيثُ فِي الْأَمْرِ بِسُؤَالِ الْعَافِيَةِ, وَهِيَ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْعَامَّةِ الْمُتَنَاوِلَةِ لِدَفْعِ جَمِيعِ الْمَكْرُوهَاتِ فِي الْبَدَنِ وَالْبَاطِنِ, فِي الدِّينِ, وَالدُّنْيَا, وَالْآخِرَةِ", فالعافيةٌ كلمةٌ جامِعةٌ لِلتَّخَلُّص من الشرِّ كلِّه وأسبابِه.
وقوله: "وَتَوَلَّنِي فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ"؛ أي: كُنْ لِي ولِيًّا ومُعِيناً وناصِراً, ففيه سؤالُ اللهِ التَّوَلِّي الكامِل, الذي يقتضي التَّوفيقَ والإعانةَ, والنَّصرَ والتَّسديدَ, والإبعادَ عن كلِّ ما يُغضِبُ الله, ومنه قوله -تعالى-: (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا)[البقرة: 257], وقوله: (وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ)[الجاثية: 19], وهي ولايةٌ خاصَّةٌ بهم, تقتضي حِفظَهم ونَصرَهم, وتأييدَهم ومعونتَهم, ووقايتَهم من الشرور.
ويدل على هذا, قولُه في هذا الدعاء: "إِنَّهُ لاَ يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ"؛ أي: إنه منصورٌ عزيزٌ غالِبٌ بسبب تولِّيكَ له, وفي هذا تنبيهٌ على أنَّ مَنْ حَصَل له ذُلٌّ في الناس, فهو بِنُقصان ما فاته من تولِّي الله, وإلاَّ فمَعَ الوَلايةِ الكاملة ينتفي الذُّلُّ كلُّه, ولو سُلِّطَ عليه مَن في أقطار الأرض فهو العزيز, غير الذَّليل.
قوله: "وَبَارِكْ لِي فِيمَا أَعْطَيْتَ"؛ أي: ارزقني البَرَكةَ في كلِّ ما أنعمتَ عَليَّ, قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-: "أي: أنْزِل البركةَ لِي فيما أعطيتني مِنَ المال، والعِلْمِ، والجاه، والولد، ومِنْ كُلِّ ما أعطيتني (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ)[النحل: 53], إذاً, بارِكْ لِي في جميع ما أنعمتَ به عليَّ، وإذا أنْزَلَ اللهُ البركةَ لشخصٍ فِيما أعطاه صار القليلُ منه كثيراً، وإذا نُزِعَتِ البَرَكَةُ صار الكثيرُ قليلاً، وكم مِن إنسانٍ يَجعلُ اللهُ على يديه مِنَ الخير في أيامٍ قليلة, ما لا يجعلُ على يدِ غيرِه في أيَّام كثيرةٍ، وكم مِن إنسانٍ يكون المالُ عنده قليلاً, لكنه مُتَنَعِّمٌ في بيته قد بارَكَ اللهُ له في مالِهِ، ولا تكونُ البركةُ عند شخصٍ آخرَ أكثرَ منه مالاً, وأحياناً تُحِسُّ بأنَّ اللهَ باركَ لَكَ في هذا الشيءِ, بحيث يبقى عندك مُدَّةً طويلةً".
"وَقِنِي شَرَّ مَا قَضَيْتَ"؛ أي: شَرَّ الذي قضيتَه؛ فإنَّ الله -تعالى- قد يقضي بالشَّرِّ لِحِكمةٍ بالِغة, والشَّرُّ واقعٌ في بعض مخلوقاته, لا في خَلْقِه وفِعْلِه, وفي الحديث: "وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْكَ, وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ"(رواه مسلم), فإنَّ فِعْلَه وخَلْقَه خيرٌ كلُّه, وهذا الدعاء يتضمَّن سُؤالَ اللهِ الوقايةَ من الشُّرور, والسلامةَ من الآفات, والحِفظَ عن البلايا والفِتن.
"إِنَّكَ تَقْضِيَ"؛ أي: تَحْكُمُ ما تشاء, وتفعل ما تُريد, ولا تُسأل عن ذلك؛ (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ)[الأنبياء: 23], ففيه التَّوسُّل إلى الله -سبحانه- بأنه يقضي على كلِّ شيءٍ؛ لأنَّ له الحُكْمَ التَّام, والمَشِيئةَ النَّافذة, والقُدرةَ الشَّاملة, فهو -سبحانه- يقضي في عبادِه بما شاء, ويَحكم فيهم بما يُرِيد, لا رادَّ لِحُكمه, ولا مُعقِّب لِقضائه.
"وَلاَ يُقْضَى عَلَيْكَ"؛ أي: لا يُوجِبُ عليك أحدٌ من خَلْقِكَ شيء؛ فَهُمْ مربوبون لك مقهورون بِعِزَّتِكَ, والعَجْزُ لازِمٌ لهم, فأنتَ تُوجِبُ على نفسِك ما شئتَ, قال اللهُ -تعالى-: (كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ)[الأنعام: 12], وفي الحديث القدسي: "يَا عِبَادِي! إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي, وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا"(رواه مسلم), فلا أحدَ من العِباد يقضي على اللهِ -تعالى-, واللهُ -تعالى- هو الذي يحكم عليهم بما يشاء, ويقضي فيهم بما يُريد.
"إِنَّهُ لاَ يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ"؛ لأنَّ مَنْ كان ولِيًّا لله فقد تكفَّل اللهُ بِنَصْرِه, كقوله -تعالى-: (وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُم الْغَالِبُونَ)[الصافات: 173], والذُّلُّ: هو الضَّعْفُ والهَوان, فمَنْ كان اللهُ -عز وجل- وَلِيَّه, لا يحصل له ذِلَّةٌ في نفسِه, ولا يُذِلُّهُ أحدٌ, وهذا كأنه تعليلٌ لسؤال الولاية: "وَتَوَلَّنِي فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ", فإنَّ الله -سبحانه- إذا تولَّى العبدَ فإنه لا يَذِلُّ ولا يُذَلُّ.
"وَلاَ يَعِزُّ مَنْ عَادَيْتَ": أي: لا يَغلِبُ مَنْ عاديتَه، بل هو ذليلٌ؛ لأَنَّ مَنْ والاه الله فهو منصورٌ، كما قال الله -تعالى-: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ)[غافر: 51], قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-: "فإنْ قال قائلٌ: هل هذا على عُمُومِهِ، لا يَذِلُّ مَنْ وَالاه الله، ولا يَعِزُّ مَنْ عاداه؟ فالجواب: ليس هذا على عُمُومه؛ فإنَّ الذُّلَّ قد يَعْرِضُ لبعض المؤمنين، والعِزَّ قد يَعْرِضُ لبعض المشركين، ولكنَّه ليس على سبيل الإِدالة المُطلقة, الدَّائمةِ المستمرَّة، فالذي وقع في أُحُدٍ للنَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- وأصحابِهِ لا شَكَّ أنَّ فيه عِزًّا للمشركين؛ ولهذا افتخروا به فقالوا: "يَوْمٌ بِيَوْمِ بَدْرٍ, وَالْحَرْبُ سِجَالٌ"(رواه البخاري), ولكن هذا شيءٌ عارِضٌ ليس عِزًّا دائماً مُطَّرِداً للمشركين، وليس ذُلًّا للمؤمنين على وجه الدَّوام والاستمرار، وفيه مصالحُ عظيمةٌ كثيرةٌ حصَلتْ للنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- وأصحابِه -رضي الله عنهم-" بتصرف يسير.
الخطبة الثانية:
الحمد لله...
أيها المسلمون: ثم خَتَمَ الدعاءَ بالثناءِ على الله -تبارك وتعالى-, فقال: "تَبَارَكْتَ رَبَّنَا"؛ أي: تعاظَمْتَ يا الله, وعمَّت بركتُك جميعَ خلقك من أهل السموات والأرض, وما بينهما, فَلَكَ العظمةُ الكاملة, والكِبرياءُ التَّام, وعظُمَتْ أوصافُك, وكَثُرتْ خيراتُك, وعمَّ إحسانُك.
"وَتَعَالَيْتَ"؛ أي: لك العُلوُّ المُطلقُ ذاتاً وقَدْراً وقَهْراً, فهو -سبحانه- العَليُّ بذاته, قد استوى على عرشِه استِواءً يَلِيقُ بجلاله وكماله, والعلِيُّ بِقَدْره, وهو علوُّ صِفاتِه وعظَمَتُها, والعَلِيُّ بِقَهْرِه حيث قَهَرَ كلَّ شيءٍ, ودانتْ له الكائناتُ بأسْرِها؛ فجميعُ الخَلْقِ نواصيهم بيده, فلا يتحرَّك منهم مُتحرِّكٌ, ولا يسكن ساكِنٌ إلاَّ بإذنه.
عباد الله: إنَّ السُّنَّةَ في قُنوتِ الوِتر أنْ يفعله أحياناً ويتركه أحياناً, وهو مذهب جمهور العلماء, ويُشرع القنوتُ قبل الركوع وبعده, قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "وَأَمَّا فُقَهَاءُ أَهْلِ الْحَدِيثِ كأحمد وَغَيْرِهِ, فَيُجَوِّزُونَ كِلَا الْأَمْرَيْنِ -أي القنوت قبل الركوع وبعده-؛ لِمَجِيءِ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ بِهِمَا، وَإِنِ اخْتَارُوا الْقُنُوتَ بَعْدَ الرُّكُوعِ؛ لِأَنَّهُ أَكْثَرُ وَأَقْيَسُ, فَإِنَّ سَمَاعَ الدُّعَاءِ مُنَاسِبٌ لِقَوْلِ الْعَبْدِ: "سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ", فَإِنَّهُ يُشْرَعُ الثَّنَاءُ عَلَى اللَّهِ قَبْلَ دُعَائِهِ".
فعلى المُسلم أنْ يعتني بهذا الدعاء في قُنوت الوتر, ولا بأس لو زاد على ذلك الدعاء؛ لعموم المسلمين بما استطاع من خيرٍ, والاستغفار لهم.