العفو
كلمة (عفو) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعول) وتعني الاتصاف بصفة...
العربية
المؤلف | حسين بن عبدالعزيز آل الشيخ |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الحديث الشريف وعلومه - المنجيات |
فاحرص -أخي المسلم- على هذا الأصل، احرص عليه في حياتكَ؛ أن تكون من ذوي الأخلاق الحسنة، والمسالك المرضِيَّة، فذلكم عملٌ جليلٌ عندَ اللهِ -جلَّ وعلا-، عدَّه النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- من البِرِّ الْمُوصِلِ إلى جنَّات الخُلْد...
الخطبة الأولى:
(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ)[سَبَأٍ: 1]، وأشهد ألَّا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له العلي الكبير، وأشهد أنَّ نبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه البشير النذير، اللهم صلِّ وسلِّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، صلاةً وسلامًا ندَّخِرها ليوم عسير.
أيها المسلمون: عن معاذ بن جبل -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "اتقِ اللهَ حيثما كنتَ، وأتبِعِ السيئةَ الحسنةَ تمحُها، وخَالِقِ الناسَ بخُلُق حَسَن"(رواه أحمد والترمذي وقال: "حديث حسن"، وصححه جمعٌ من أهل العلم).
إنه حديث عظيم، يتضمَّن وصيةً جليلةً ذات جُمَل عظيمة وقواعد مهمة، قال ابن حجر الهيتمي: "هذا حديثٌ جامعٌ لسائر أحكام الشريعة"، وسمَّاه بعضُهم: "أُمَّ السُّنَّةِ"، فالعمل به يكفل سعادةَ الدارينِ وفَلاحَهُما.
الأصل الأول من هذا الحديث: تحقيقُ تقوى الله -جل وعلا-؛ بلزوم الأوامر والطاعات، ومجانَبة المعاصي والسيئات، في الجهر والخلوات، إنها وصية تَلزَم العبدَ المؤمنَ أينما كان وحيثما حلَّ، أن يحفظ حدودَ الله -جلَّ وعلا-، وأن يبتعدَ عن المآثم والمحارم، مستقيمًا على الصراط المستقيم، مراقِبًا لربِّه في كلِّ شأنٍ، قال جلَّ وعلا: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ: 1]؛ أي: مُراقِب لجميع أحوالكم وأعمالكم، وقال جلَّ وعلا: (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)[الْبَقَرَةِ: 281]، قال ابن عباس وسعيد بن جبير: "هذه وصيةُ الله لعباده في آخِر آية نزلت من القرآن العظيم"، ويقول صلى الله عليه وسلم مُوصِيًا بذلك: "احفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ"، إن العمل بهذا الأصل يترتَّب عليه الفوز العظيم، والأجر الكريم، ففي الصحيحين أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "سبعةٌ يُظِلُّهم اللهُ في ظِلِّه يومَ لا ظلَّ إلا ظلُّه... -وذكَر منهم-: رجلًا دعته امرأةٌ ذات منصب وجَمال، فقال: إني أخاف اللهَ ربَّ العالمينَ".
الأصل الثاني: إتباعُ السيئةِ بالحسنة، والحسنةُ اسمٌ جامعٌ لكل ما يقرِّب إلى الله -جلَّ وعلا-، وأعظمُ الحسناتِ الدافعةِ للسيئات التوبةُ النصوحُ، والاستغفارُ الصادقُ، والإنابةُ الحقَّةُ، روى الإمام أحمد عن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: قال: يا رسول الله، أوصِني: قال: "إذا عملتَ سيئةً فأَتْبِعْها بحسنة تمحها. قال: قلتُ: يا رسولَ اللهِ، أَمِنَ الحسناتِ لا إلهَ إلا اللهُ؟ قال: هي أفضلُ الحسناتِ"(وهو حديث حسَن عند أهل العلم، كما ذكر ذلك ابن حجر).
وفعلُ الخيرات يكفِّر الذنوبَ السالفاتِ، ويمحو السيئاتِ الماضياتِ، قال جلَّ وعلا: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ)[هُودٍ: 114]، وقال جلَّ وعلا: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ)[النِّسَاءِ: 31]، وفي (صحيح مسلم) أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفِّرات لما بينهما إذا اجتُنبت الكبائرُ".
الأصل الثالث: معامَلة الخَلْق بالأخلاق الحسنة، والأفعال الطيبة والمسالك الجميلة؛ وذلك بملاطَفة الخَلْق وطلاقة الوجه لهم، وبَذْل المعروف معهم، وكفِّ الأذى عنهم، والأصل فيه أن تَرضى لغيرِكَ ما ترضاه لنفسِكَ، من الأقوال الحسنة والأفعال الطيبة، والمعامَلة الكريمة، وتُعامِلُهم حينئذ بمقتضى ذلك، قال جلَّ وعلا مُثنيًا على نبيِّه -صلى الله عليه وسلم-: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ)[الْقَلَمِ: 4]، ويقول صلى الله عليه وسلم: "أكملُ المؤمنينَ إيمانًا أحسنُهم خُلُقًا"(رواه الترمذي وقال: حسن صحيح، وصححه ابن حبان والحاكم).
ويقول عليه الصلاة والسلام أيضًا: "إن المؤمن لَيُدرِكُ بحُسنِ خُلُقِه درجةَ الصائمِ القائمِ"(رواه الترمذي، وصححه ابن حبان).
فاحرص -أخي المسلم- على هذا الأصل، احرص عليه في حياتكَ؛ أن تكون من ذوي الأخلاق الحسنة، والمسالك المرضِيَّة، فذلكم عملٌ جليلٌ عندَ اللهِ -جلَّ وعلا-، عدَّه النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- من البِرِّ الْمُوصِلِ إلى جنَّات الخُلْد، سُئِلَ عن البِرِّ والإثم، فقال: "البِرُّ حُسْنُ الخُلُقِ، والإثمُ ما حاكَ في نفسك وكرهتَ أن يطَّلع عليه الناسُ"(رواه مسلم).
وقد سئل عليه الصلاة والسلام عن أكثر ما يدخل المسلم الجنة فقال: "تقوى الله وحُسْن الخُلُق"(رواه الترمذي، وقال: "حسن صحيح"، وصحَّحه ابنُ حِبَّان).
فحقِّقوا -رحمكم الله- هذه الوصيةَ بأصولها العظمى الثلاثة التي سمعتُم، والتزِموا هذه القواعد الكبرى، تنالوا الفَلاح وتسعَدوا بالنجاح، دنيا وأخرى.
وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين وأشهد ألَّا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، إلهُ الأولينَ والآخِرينَ، وأشهد أن نبينا محمدًا عبد الله ورسوله، أفضل الأنبياء والمرسلينَ، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِكْ عليه وعلى آله وأصحابه أجمعينَ.
أما بعدُ فيا أيها المسلمون: أوصيكم ونفسي بتقوى الله -جلَّ وعلا-، فبها السعادة والفَلَاح والفوز دنيا وأخرى.
أيها المسلمون: من الحسنات الماحية للسيئات الإكثارُ من الإحسان للناس، بشتى أنواع الإحسان، ومختلف صُوَره، قال جلَّ وعلا: (وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)[الْبَقَرَةِ: 195]، وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رجلٌ: "يا رسولَ اللهِ، إن فلانةَ تُكثِر من صلاتها وصدقاتها وصيامها غيرَ أنها تؤذي جيرانَها بلسانها، قال عليه الصلاة والسلام: هي في النار، قال: يا رسولَ اللهِ، فإنَّ فلانةَ يُذكَر من قلة صيامِها وصلاتِها وأنَّها تتصدَّق بالأسوار من الأَقِط ولا تؤذي جيرانَها، قال: هي في الجنة"(وهو حديث صحيح عند المحدِّثين).
ثم إن الله -جل وعلا- أمَرَنا بأمر عظيم؛ ألَا وهو الصلاة والسلام على النبي الكريم، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِكْ على حبيبنا ونبينا محمد، وارضَ اللهم عن الخلفاء الراشدين، وعن الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا كلَّها، دقَّها وجلَّها، سرَّها وعلانيتَها، أوَّلَها وآخِرَها، ظاهِرَها وباطنَها، اللهم اغفر للمسلمينَ والمسلمات، الأحياء منهم والأموات.
اللهم (آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[الْبَقَرَةِ: 201]، اللهم فرِّج هموم المسلمينَ، اللهم اكشف كروبهم يا حي يا قيوم، اللهم مُنَّ عليهم بالأمن والأمان، والسلامة والإسلام، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لما تحبه وترضاه، اللهم احفظه بحفظك، اللهم وفِّقْه ووليَّ عهده لما تحبه وترضاه، يا ذا الجلال والإكرام، اللهم اجعل عملَهما في رضاكَ، اللهم وفِّقْهما لِمَا فيه خير الدنيا والدين، اللهم وفِّق جميعَ ولاة أمور المسلمين، اللهم إنكَ غنيٌّ حميدٌ، اللهم اسقِنا، اللهم اسقِنا، اللهم اسقِنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.
عبادَ اللهِ: (اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا)[الْأَحْزَابِ: 41-42].