القادر
كلمة (القادر) في اللغة اسم فاعل من القدرة، أو من التقدير، واسم...
العربية
المؤلف | حسين بن حسن أحمد الفيفي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - المنجيات |
لقد كان السلف -رحمهم الله- يحرصون على أن لا يدخل في عملهم شيء من الرياء قلَّ أو كثر، وكانوا يحرصون على إخفاء العبادة، وعلى أن يكون للواحد منهم خبيئة بينه وبين ربه لا يعلم بها أحد غير الله؛ لأن التصنع للناس ومراءاتهم قد تحبط العمل على صاحبه، يقول ابن القيم عند قول الله سبحانه: (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا)...
عباد الله: الإخلاص شرط لقبول الأعمال، فإن الله سبحانه لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصًا أريد به وجهه سبحانه، وبالإخلاص يتنوّر القلب ويتّقد الفكر وتستقيم الجوارح، وإن معرفة أسماء الله وصفاته تولّد في النفس استحضار عظمة الله ودوام مراقبته ومعيته والإخلاص له؛ ولذلك قال الله -جل وعلا-: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) [محمد: 19]، فبدأ بالعلم قبل القول والعمل؛ وذلك بأن توقن أن الله سبحانه هو المحيي المميت النافع الضار الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) [الشورى: 11].
فالعلم اليقين بـ"لا إله إلا الله" يثمر في القلب طاعة الله وتوقيره والذل والانكسار له في كل اللحظات، وهذا يجعل المؤمن يستحيي من الله ويراقبه؛ لإيقانه بوجوده ومعيته وقربه وسمعه وبصره، قال تعالى: (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [الحديد: 4].
فهو الحي القيوم قام بنفسه وقام به كل شيء، فهو قائم على كل نفس بخيرها وشرها، قد استوى على عرشه وتفرَّد بتدبير ملكه، فالتدبير كله بيديه، ومصير الأمور كلها إليه، فمراسيم التدبير نازلة من عنده على أيدي ملائكته بالعطاء والمنع والخفض والرفع والإحياء والإماتة والتوبة والعزل والقبض والبسط وكشف الكروب وإغاثة الملهوفين وإجابة المضطرين: (يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) [الرحمن: 29].
فلا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، ولا معقِّب لحكمه، ولا راد لأمره، ولا مبدل لكلماته، تعرج الملائكة والروح إليه، وتعرض الأعمال أول النهار وآخره عليه، فيقدر المقادير ويوقت المواقيت، ثم يسوق المقادير إلى مواقيتها، قائمًا بتدبير ذلك كله وحفظه ومصالحه -جل جلاله- ربًّا محسنًا إلى خلقه بأنواع الإحسان، متحببًا إليهم بصنوف النعم، وسع كل شيء رحمة وعلمًا، وأوسع كل مخلوق نعمة وفضلاً، فوسعت رحمته كل شيء، ووسعت نعمته كل حي، فبلغت رحمته وعلمه، واستوى على عرشه برحمته، وخلق خلقه برحمته، وأنزل كتبه برحمته، وأرسل رسله برحمته، وشرع شرائعه برحمته، فهو الذي أحاط بصره بجميع المبصرات في أقطار الأرض والسماوات حتى أخفى ما يكون فيها، فيرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء، وجميع أعضائها الباطنة والظاهرة، وسريان القوت في أعضائها الدقيقة، ويرى سريان المياه في أغصان الأشجار وعروقها وجميع النباتات على اختلاف أنواعها وصغرها ودقتها، ويرى نياط عروق النملة والنحلة والبعوضة وأصغر من ذلك.
فسبحان من تحيرت العقول في عظمته وكمال صفاته ولطفه وعلمه بالغيب والشهادة والحاضر والغائب، ويرى خيانات الأعين وتقلبات الأجفان وحركات الجنان.
قال تعالى: (الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ * إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [الشعراء: 218-220]، وقال: (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) [غافر: 19]، وقال سبحانه: (وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [البروج: 9]، أي: مطلع ومحيط علمه وبصره وسمعه بجميع الكائنات، وقال سبحانه: (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلا حَيَاةً وَلا نُشُورًا) [الفرقان: 3].
فإذا علمت بأن من دونه سبحانه هم خلق من خلقه وهم في تصرفه وفي قبضته أخلصت العبادة له وحده وتركت ما سواه، فهو الذي يملك الضر والنفع والعطاء والمنع، يقول الله تعالى: (وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) [البينة: 5]، ويقول سبحانه: (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) [الأنعام: 162، 163]، ويقول سبحانه: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) [الكهف: 110]، وقال -عز وجل-: (إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدْ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ) [الزمر: 2، 3].
وعن أمير المؤمنين أبي حفص عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يقول: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه". متفق عليه.
قال بعض أهل العلم: "هذا الحديث هو ثلث الدين، وقيل: نصف الدين؛ لأن العبادات إما قلبية وإما بدنية، وهذا اشتمل على العبادات القلبية". ويرحم الله الفضيل بن عياض إذ يقول: "أدركنا الناس وهم يراؤون بما يعملون، فصاروا الآن يراؤون بما لا يعملون". ويقول أيضًا: "إذا كان يسأل الصادقين عن صدقهم مثل إسماعيل وعيسى -عليهما الصلاة والسلام- فكيف بالكذابين أمثالنا؟!".
ويقول الرسول –صلى الله عليه وسلم- فيما رواه مسلم: "يقول الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه أحدًا غيري تركته وشركه". ويقول –صلى الله عليه وسلم-: "إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، الرياء، يقوم الرجل فيصلي، فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل". صححه الألباني في السلسة الصحيحة.
يقول الحارث المحاسبي: "الإخلاص إخراج الخلق عن معاملة الرب".
وهو إفراد الله بالقصد في الطاعة وتصفية الفعل عن ملاحظة المخلوقين.
وقال القاضي عياض: "ترك العمل من أجل الناس رياء، والعمل من أجل الناس شرك، والإخلاص أن يعافيك الله منهما".
إن الإخلاص هو السر الذي بين العبد وربه، وهو أن لا تطلب على عملك أجرًا من عند غير الله، ولا شاهدًا عليه إلا الله، فما كان لله فهو لله، وما كان لسواه فهو لسواه.
والإخلاص شرط من شروط قبول الأعمال عند الله، لهذا قال الرسول –صلى الله عليه وسلم-: "إن الله لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصًا وابتغي به وجهه". رواه النسائي. وقال سبحانه: (وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ) [النساء: 125].
قال ابن القيم: "فإسلام الوجه هو إخلاص القصد والعمل لله، والإحسان فيه متابعة الرسول –صلى الله عليه وسلم- وسنته".
يقول عمر بن الخطاب -رضي الله عنه وأرضاه-: "من خلصت نيته كفاه الله ما بينه وبين الناس".
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه ثم توبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
عباد الله: لقد كان السلف -رحمهم الله- يحرصون على أن لا يدخل في عملهم شيء من الرياء قلَّ أو كثر، وكانوا يحرصون على إخفاء العبادة، وعلى أن يكون للواحد منهم خبيئة بينه وبين ربه لا يعلم بها أحد غير الله؛ لأن التصنع للناس ومراءاتهم قد تحبط العمل على صاحبه، يقول ابن القيم عند قول الله سبحانه: (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا) [الفرقان: 23]: "هي الأعمال التي كانت على غير السنة وأريد بها غير وجه الله". ويقول أيضًا: "أعمال القلوب هي الأصل، وأعمال الجوارح تبع مكملة، وإن النية بمنزلة الروح، والعمل بمنزلة الجسد".
فالإخلاص هو القاعدة الأولى التي تبنى عليها العبادة وتتم بها بجانب المتابعة، وتجعلها موجهة إلى الله وحَرِيَّة بقبوله ومثوبته، فالعبادة -أيًّا كانت فعلية أو قوليه- لا تسمى عبادة ولا تكون نافعة إلا إذا صدرت من مؤمن وتوفر فيها الإخلاص لله والمتابعة لرسوله –صلى الله عليه وسلم-.
والإخلاص الذي يريده الله ويتوقف عليه قبول العمل هو إفراد الحق تعالى بالطاعات، وقصده بها دون غيره، وتجريدها وتصفيتها من قصد المحمدة أو الثناء أو معنى آخر سوى التقرب بها إلى الله وحده، وأن يكون باطن العامل كظاهره أو أحسن، وسره كعلنه أو أفضل، وأن يخشى الله ويراقبه في الظاهر والباطن. يقول ابن القيم -رحمه الله-: "لا يجتمع الإخلاص في القلب ومحبة المدح والثناء والطمع فيما في أيدي الناس إلا كما يجتمع الماء والنار والضب والحوت".
وبالإخلاص يثاب العبد ويؤجر على العمل، حتى ولو كان ذلك العمل دنيويًا، يقول –صلى الله عليه وسلم-: "إنك لا تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها، حتى ما تجعل في في امرأتك". رواه البخاري.
وقال أيضًا: "وفي بضع أحدكم صدقة"، قالوا: يا رسول الله: أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟! قال: "أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟! فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر". رواه مسلم.
وبالإخلاص تجاب الدعوات، وتكشف الكربات والشدائد، وينجو العبد من الفتن، ويدل على ذلك حديث الثلاثة الذين آواهم المبيت في الغار، فانطبقت عليهم الصخرة، فنجاهم الله بإخلاصهم وبأعمالهم الصالحة.
والإخلاص مصدره نية القلب، والنية هي معيار العمل ومقياسه العادل الذي تتميز به الأعمال طيبها من خبيثها، وصحيحها من فاسدها، ومقبولها من مردودها، ونافعها من ضارها. فالطاعات تتفاوت ويتفاوت أجرها بتفاوت النية فيها، وبما قام بالقلب منها.
فالإخلاص مسك القلب وماء حياته، ومدار الفلاح كله عليه، فاعلم أنك متى ما عودت نفسك مراقبة الله في أحوالك كلها أورثك الله خشيته ووهبك محبته؛ وذلك لأنك حينما تستحضر معية الله في أقوالك وأفعالك فإنما تعبد الله بالإحسان، والإحسان كما قال –صلى الله عليه وسلم- هو: "أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك". رواه مسلم.
ألا وصلوا وسلموا على خير الخلق محمد بن عبد الله، عليه من ربه أفضل الصلاة وأتم التسليم، (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء، الأئمة الحنفاء: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن بقية أصحاب محمد أجمعين، وعن التابعين وتابع التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وكرمك وإحسانك يا أرحم الراحمين...