العربية
المؤلف | عبدالله ابراهيم الكيلاني |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الحج |
ها هي أفئدة الناس تهوي لزيارة ورؤية البيت العتيق؛ يأتون من كل فجٍّ عميقٍ ليطَّوفوا به ويستلموا ركنه، ويقبلوا حَجَره، ويدخلوا حِجْره، ويشربوا من زمزمه المبارك، ويعظموا شعائره المقدسة. وكم في تلك الشعائر من مثيرات...
الخطبة الأولى:
الحمدُ للهِ الذي أنزلَ برحمته آياتِ الكتابِ، وأجرى بعظمته شتاتَ السحابِ، وهزمَ بقوته جموعُ الأحزابِ: (وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ)[الرعد: 41] تبارك وتعالى (إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ)[الرعد: 36]، وسبحانهُ وبحمده: (يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ)[الرعد: 27]، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ، الكريمُ التواب، العظيم الوهّاب: (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ)[البقرة: 269].
وأشهد أن محمدًّا عبدهُ ورسولُه الْمُنيبُ الأواهُ الأوّاب.
سلامٌ على ذاكَ النبيِّ فإنَّهُ | إليهِ العُلا والفضلُ والفخرُ يُنسبُ |
وأحسنُ خلقِ اللهِ خُلُقاً وخِلْقةُ | وأطولهمْ في الجودِ باعاً وأرحبُ |
صفوهُ بما شئتمْ فواللهِ ما انطوى | على مثلهِ في الكونِ أمٌّ ولا أبُ |
صلَّى اللهُ وسلّمَ وبارك عليهِ، وعـلى جميـعِ الآلِ والأهـلِ والأصـحـابِ، وعلى التابعين وتابِعيهم بإحسانٍ إلى يوم المآبِ، وسلَّم تسليماً كثيراً.
أمَّا بعدُ: فاتقوا اللهَ -تعالى- عبادَ اللهِ وأطيعوهُ؛ فلنِعمَ زادُ المؤمنِ تقوى اللهِ -تعالى- وطاعتهِ: (وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ)[البقرة: 197].
ثم اعلموا أن الأجلَ دونَ الأملِ، فبادروا الأجلَ بالعمل، فإنه لا عملَ بعد الأجلِ، والآخرةُ باقيةٌ، والدنيا فانيةٌ، فقدموا أمرَ الآخرةِ على أمر الدنيا.
ألا إن سِلعةَ اللهِ غاليةٌ، ألا إنّ سِلعةَ اللهِ الجنّةَ، فحاسِبوا أنفسَكم قبل أن تحاسَبوا، وتأهَّبوا للعَرض الأكبرِ على الله: (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ)[الحاقة: 18]، (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ)[الزمر: 9].
إخوة الإسلام: الحجُّ تلبيةٌ لذلك النداء الخالد: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ)[الحج: 27].
واستجابةٌ لتلك الدعوة الجميلة الجليلة: (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ)[إبراهيم: 37].
وها هي أفئدة الناس تهوي لزيارة ورؤية البيت العتيق؛ يأتون من كل فجٍّ عميقٍ ليطَّوفوا به ويستلموا ركنه، ويقبلوا حَجَره، ويدخلوا حِجْره، ويشربوا من زمزمه المبارك، ويعظموا شعائره المقدسة.
وكم في تلك الشعائر من مثيرات للمشاعر؟ وكم سكبت على صعيد عرفات من الدمعات؟ وكم صعدت من الدعوات؟ وكم في مزدلفة ومنى من الأماني والمنى؟ وكم في وادي مُحسِّر من متأوه ومتحسِر؟ وكم في تلك الحُصيات من عبرٍ وذكريات؟
الحج ومناسكه -يا عباد الله- هو في أصله شعائرٌ ومشاعرٌ عجيبةٌ عاشها إمام الحنفاءِ وخليلُ الرحمن إبراهيم -عليه السلام- وزوجته وولده! فالحجاج من بعدهم يعيشون ويعايشون تلك الذكريات الخالدة! وذلك الامتحان الرهيب! والابتلاء المبين الذي امتحن الخليل به خليله!
وتبدأ قصةُ الذكريات العجيبة بقوله: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ)[إبراهيم: 37].
ولك أن تتعجب من هذا الرجل العملاق الفذ! وكم هو راسخ الإيمان قوي اليقين! حين يترك ابنه الرضيع الذي جاءه على كبر! يتركه مع أمه وحيدين بين تلك الجبال القاحلة المقفرة! وفي ذلك الوادي الموحش اللاهب! قادماً من أرض الشام البعيدة ليتركهما في هذا الوادي المقفر بلا مأوى ولا معين! وليس معهما إلا سِقاءٌ فيه ماءٌ قليل! وجرابٌ فيه شيءٌ من طعام! ثم يمضي الخليل عائداً لا يلوي على شيء!
وتلحقه هاجر -عليها السلام- فلا يتوقف! تسأله فلا يجيب! تناديه فلا يلتفت! تناشده فلا يرد! فتتعلق بثيابِه قائلة: يَا إبراهيمُ أينَ تذهبُ؟ ولمن تدعُنَا؟ وحين آيست أن يردَّ عليها، قالت: "آلله أمرك بهذا؟"، فأشار إليها: أن نعم، فقالت في ثبات ويقين: "إذن لا يضيعنا".
لا إله إلا الله ما أقوى الإيمان! وما أعظم التسليم!
امرأةٌ وطفلٌ رضيعٌ فِي مكانٍ موحش ليسَ بهِ أنيسٌ ولَا حسيسٌ! ولا طعامٌ ولَا ماءٌ! ومعَ ذلكَ تُذعنُ لأمرِ الله -تبارك وتعالى- وتستسلم لحكمه.
فيا له من إيمانٌ عميقٌ! وثقةٌ باللهِ عجيبةٌ !
وسرعان ما ينفذَ الماءُ والطعام! ويبدأ الرضيع بالصياح! يتلوَّى منَ الجوع ويتلمظ من العطشِ! فتتركه أمه مكانه لتسير هائمةً على وجهها! تعدو تهرول تبحث عن مغيث! قد هاجها التياع طفلها! واشتدادُ بكاؤه ونحيبه! ولمْ يكنْ أمامَها سوَى أنْ تستطلع المكانِ من حولها! فصعدت لأقربَ مرتفعٍ إليها وهو جبلُ الصفَا تنظرُ هلْ فِي الأفقِ منْ أحدٍ فلم تر أحداً، فنزلت منَ الصفَا إلَى الوادِي الذِي بينهُ وبينَ المروةِ حتَّى إذَا بلغتْ بطنَ الوادِي رفعتْ درعهَا، ثمَّ سعتْ سعيَ الإنسانِ المجهودِ، وكأنهَا تريدُ أنْ تسابقَ الزمنَ لترقَى إلَى المروةِ علها ترى أحداً، فلمَّا وصلتْ لأعلَى ذلكَ الجبلِ، نظرتْ من الجهة الأخرى فلم ترَ أحدًا، فعادة أدراجها تنزلُ مرةً أخرَى إلَى جهة الصفَا، فعلتْ ذلكَ سبعَ مراتٍ تصعدُ الصفَا وتنظرُ، ثم تنزلُ ثمَّ تصعدُ المروةَ وتنظر، ثمَّ تنزلُ، قالَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "فلذلكَ سعَى الناسُ بينهمَا".
والطفل لا يزال يصيح ويصخب يقطع ببكائه نياط قلبها، والأم ترى وحيدها يجود بنفسه وهي لا تجد له ولها معينًا، ثم أخذ الطفل يفحص الأرض برجليه من شدة العطش، فرفعت هاجرُ يديها نحو السماء تناجي ربها العظيم الرحيم، وتدعوه دعاء المضطر أن يغيثها وأبنها؛ فإذَا بهَا تسمعُ صوتًا، فقالتْ لنفسها: صهٍ، وأخذت تتسمع، فتأكد لها أن سمعت صوتاً، فقالت: "قدْ أسمعتَ، إنْ كانَ عندكَ غوثٌ فأغث"، فالتفتت إلى جهة وليدها فإذَا هيَ بالملكِ واقفٌ عندَ قدمِيه، قدْ بحثَ بعقبهِ حتَّى ظهرَ الماءُ المباركُ، فجاءت مسرعة تحوط الماء بحوضٍ منَ الرملِ تمنعه من الجريان، وتملأُ سقاءهَا، قال صلى الله عليه وسلم: "رحمَ اللهُ هاجرَ لوْ تركتهَا كانتْ عينًا معينًا".
هذهِ -يا عباد الله- هيَ عاقبةُ الصبرِ واليقينِ.
ورحم الله أُمنا هاجر وابنها إسماعيل! وسلامٌ على خليل الرحمن إبراهيم! فمَا إنْ انتهِى هذا الابتلاءُ العظيم بتلك الصورة العجيبة! حتَّى بدأَ امتحانٌ آخر أقوَى وأعجب منَ الأولِ! فحين كبرَ إسماعيلُ قليلاً، وبلغَ مع أبيهُ مبلغ السعي، وصارَ يرافقهُ فِي شؤونهِ، ويعينهُ علَى مصالحِةِ، وازداد تعلُّق الوالدِ بولدهِ، وأخذ يؤمِّلُ فيهِ ما يؤمل الوالد في ولده البار، إذا بالوالدُ يرى في منامهِ تلكَ الرؤَيا الرهيبة! يرَى أنهُ يذبحُ ولدهُ! ورؤيَا الأنبياءِ حقٌّ.
فيا له من امتحانُ رهيب! ويا له من ابتلاءُ شديد! قال الله -تعالى-: (إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ)[الصافات: 106].
نعم، لقد ابتلي الخليلُ ابتلاءً عظيماً، فهوَ لم يُطلَبْ منهُ أنْ يرسلَ ولده الوحيدِ إلَى ساحاتِ القتالِ، ولم يؤمر بتوكيلَ أمرِ الذبح إلَى شخصٍ آخرَ، إنمَا طُلِب منهُ هو أنْ يتولَّى عملية الذبح بيدهِ! ومعَ ذلكَ فلم يترددْ ولمْ يتلكأُ، بلْ تلقى الأمر بكلِّ رضا وتسليمٍ، ولبَّى منْ غيرِ ترددٍ، واستسلمَ منْ غيرِ جزعٍ، قالَ تعالى: (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى)[الصافات: 102].
ويزداد العجب لا من الأب الواله يحمل سكينهُ ليذبح فلذة كبده وثمرة فؤاده فحسب! ولكن من الغلام اليافع يُصبِّر أباه ويدعوه لتنفيذ أمر ربه بلا تردد: (يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ)[الصافات: 102].
وتالله إنها بيوت الإيمان! فكلٌّ من الزوج والزوجة والابن كلهم منقادون مستسلمون، بلا اعتراض ولا تردد، بل انقياد تام، واستسلام مطلق: (فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ)[الصافات: 103-105].
تأمل كيف يقتادُ الخليل ابنهُ -عليهما السلام- لتنفذَ حكمَ اللهِ -تعالى-، ويُضجِعه على بطنه لكي لا يرى وجههُ فيرقَ قلبه! ويمسك السكين ويمرَّها فوق عنقه بقوة! ولكنها لم تقطع.
لقد أتَى لطفُ اللهِ -عزَّ وجلَّ- ورحمتهُ، فلمْ تذبحِ السكينُ ومنْ عادةِ السكينِ أنهَا تذبحُ، ولكنَّ رحمة اللهِ -عزَّ وجلَّ- منتعهَا منَ الذبحِ، فالبحرُ يُغرقُ ولكنَّ قدرةَ اللهِ منعتهُ أنْ يُغرقَ الرضيع موسَى -عليهِ السلامُ-، والنارُ تحرقُ ولكنَّ قدرةَ اللهِ منعتهَا أنْ تحرقَ إبراهيمَ -عليهِ السلامُ- وقد أُلقي فيها، والسكينُ تقطعُ وتذبحُ ولكنَّ قدرةَ اللهِ منعتهَا أنْ تذبحَ إسماعيلَ -عليهِ السلامُ-.
ويفدِي اللهُ هذهِ النفسَ التِي أسلمتْ واستسلمت، وأطاعتْ وأذعنت يفديهَا الله -تعالى- بذبحٍ عظيمٍ لتكون سنةُ الأضاحِي منسكاً من مناسك الملَّةِ الإبراهيميةِ والمُحمَّديةِ، وسنَّةً باقيةً فِي العالمينَ إلَى يومِ الدينِ، تُذكِّرُ بالتضحيةِ والفداءِ، والصبرِ والثباتِ عندَ المِحنةِ والبلاءِ، وحُسنِ الاستجابةِ للهِ فِي السرَّاءِ والضرَّاءِ، ولتتعرفَ الأمة فيهِا على حقيقةَ أبيهَا إبراهيمَ، والذِي أُمرت أن تتبعُ ملتهُ، وأن تنعمَ ببركةِ دعوتهِ إلَى يومِ القيامةِ، ولتدركْ هذهِ الأمةُ أنَّ الإسلامَ هوَ أنْ تستسلمَ لأمرِ اللهِ طائعاً راضياً واثقاً ملبياً.
فيَا للهِ مَا أعظمَ هذهِ التضحيةَ منَ الأبِ! ويَا للهِ مَا أعظمَ هذَا البرِّ منَ الابنِ! وهلْ هناكَ تضحيةٌ أعظمُ منْ أنْ يقدمَ الإنسان ولدهُ وفلذةَ كبدهِ قربانًا لربهِ؟ وهلْ هناكَ برٌّ أعظمُ منْ أنْ يقدمَ الإنسان رقبتهُ لأبيهِ ليذبحهُ؟
قالَ عبدُ اللهِ بنُ عباسٍ -رضيَ اللهُ عنهُ-: "مَا قامَ بدينِ اللهِ كُلهِ إلَّا إبراهيمُ -عليهِ السلامُ-، قدَّمَ جسمهُ للنيرانِ، وقدّم مالهُ للضيفانِ، وقدمَ ولدهُ للقربانِ"، قالَ تعالى: (وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى)[النجم: 37]، أي قامَ بأمرِ اللهِ كلهِ، فكانَ صلى الله عليه وسلم أمَّةً وحدهُ.
فسلامٌ علَى أبِي الأنبياءِ! سلامٌ علَى إمامِ الحُنفاءِ! سلامٌ على خليل الرحمن إِبْرَاهِيمَ! سلامٌ عليه في الخالدين! وسلامٌ عليه إلى يوم الدين!
وبارك الله...
الخطبة الثانية:
الحمد لله كما ينبغي لجلاله وجماله وكماله وعظيم سلطانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه وأتباعه وإخوانه، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- حق التقوى، واعلموا أن الإسلام بني على خمسة أركان معلومة.
وإذا أمعنت النظر -أُخيَّ المسلم- وجدت أن الحج هو آخرُ هذه الأركان، أما أولها فشهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وهما مفتاح الإسلام، وبابه الحصين، والأصل الذي يقوم عليه كامل البناء، وهما علامةُ الاقتناع والتسليم والانقياد، ومن أقرَّ وأيقنَ بهما سمت نفسه ليتصل بربه عبر الركن الثاني وهو الصلاة، فالصلاة صلةٌ بين العبد وربه، ومتى توثقت تلك الصلة بين العبد وربه فستسمو نفسه للبذل والإنفاق في سبيل الله، وهذا هو الركن الثالث وهو الزكاة، فتأمل هذا التلاحم الجميل بين أركان الدين كتلاحم أصابع اليد الخمسة، ثم إنك ترى الصوم جُنَّة وتقوى يأتي في كل عام مرَّة، فيأتي مزكياً مربياً للنفس على التقوى والصبر و(إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ)[الزمر: 10].
ومن تأمل مناسك الحج وجدها تبدأ وتعود إلى التسليم والانقياد لله ربِّ العالمين فمنذ أن ينزع الحاج ملابسه المعتادة قائلاً: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك" معلناً لربه تمام التسليم، متابعاً لمن قال: "خذوا عني مناسككم" صلى الله عليه وسلم.
وتراه في كل مشعرٍ ومنسكٍ ملبياً موحداً ذاكراً، فإذا أنهى مناسكه ذكر الله -تبارك وتعالى- أبلغ ما يكون الذكر على ما هداه ربه وأولاه، مستشعرا أنه يقتدي بخليل الرحمن إبراهيم -عليه السلام-، حنيفاً ولم يك من المشركين.
نعم -أيها الكرام- إننا نسير مسير الخليل -عليه السلام-، ونتبع ملته، ونقتفي أثره في كل مشعرٍ ومع كل منسك، محققين التوحيد لله، متبرئين من الشرك وأهله، مسلِّمين أمرنا لله، راضين بأمره وحكمه، مستسلمين له تسليماً، بعقولنا وقلوبنا ومشاعرنا وأحاسيسنا، ودون أن يكون في صدورنا أدنى حرجٍ مما أمر رينا وقضى.
أو ليس من أشدِّ العجب -يا عباد الله- أن يأتيَ الناسُ من أقطار الدنيا المثمرة اليانعة، المزدهرة بالمياه والخضرة، والجو العليل، باذلين الغالي والنفيس، تتقطع نفوسهم شوقاً ورغبة إلى بلدٍ قاحلٍ مقفرٍ غير ذي زرع، فإذا وصلوا مكة، وبدأوا في أداء المناسك، صعودا إلى عرفات الله، ومبيتاً بمزدلفة، ثم يمكثون بمنى ثلاثة أو أربعة أيام، ولهم في كل حركة ومقام شعائرٌ ومناسكٌ معينة، يقتدون فيها برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، شعائر ومناسك لا تخلو من التعب والنصب والمشقة، والسفر قطعةٌ من العذاب.
والأعجب من كل هذا: أنهم يأتون بكل ذلك مستعذبين للعذاب، منشرحين للمشقة والتعب، سُعداء بأداء النسك ولو كان فيه ما فيه من الجهد والنصب، يترقبون الانتقال من مشعرٍ إلى آخر، ومن شعيرة إلى أخرى، بقلوب يغمرها الفرح والسرور، والغبطة والحبور، مغتبطين أن الله اختارهم ليكونوا من حجاج بيته وضيوف رحمته، وكل ذلك -والله أعلم- لأنهم اتبعوا ملة إبراهيم حنيفاً، وحققوا التوحيد بإذن الله تحقيقاً، قال الإمام ابن القيم -رحمه الله تعالى-: "وأما الحج فشأن آخر لا يدركه إلا الحنفاء الذين ضربوا في المحبة بسهم، وشأنه أجُل وأعظم من أن تحيط به العبارة، وهو خاصةٌ الدين الحنيف حتى قيل في قوله تعالى: (حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ)[الحج: 31] أي حجاجاً، فالحج هو خاصة الحنيفية، ومعونة الصلاةِ، وسرُّ قول العبد: لا إله إلا الله، فهو مؤَسَسٌ على التوحيد المحض، والمحبةِ الخالصة، وهو استزارة المحبوب لأحبابه، ودعوتهم إلي بيته ومحلِّ كرامته، وإذا دخلوا في هذه العبادة فشِعارهم: "لبيك اللهم لبيك" إجابةُ محبٍ لدعوة حبيبه، ولهذا كان للتلبية موضعٌ خاصٌ عند الله -تبارك وتعالى-.
ويقول العلامة ولي الله الدهلوي: "وربما يشتاقُ الإنسانُ إلى ربه أشدَّ الشوقِ فيحتاجُ إلى شيءٍ يقضي به شوقه فلا يجد إلا الحج".
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله -تبارك وتعالى-، ومن استطاع إلى الحج سبيلا فلا يتردد ولا يتوانى: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ)[آل عمران: 97]، وقال صلى الله عليه وسلم: "تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة"، وليس للحجة المبرورة ثواب إلا الجنة.
فاتقوا الله -عباد الله- وبادروا بالأعمال الصالحة في هذه الأيام الفاضلات، واستبقوا الخيرات، وتعرضوا للنفحات، فلعل نظرة من المولى الكريم توجب لكم الرحمة والرضوان وترفع منزلتكم إلى جنة سقفها عرش الرحمن.
ويا ابن آدم: عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به. البر لا يبلى، والذنب لا ينسى، والديان لا يموت، وكما تدين تدان.
اللهم صلِّ على محمد...