الحسيب
(الحَسِيب) اسمٌ من أسماء الله الحسنى، يدل على أن اللهَ يكفي...
العربية
المؤلف | راشد البداح |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب |
هذا الحرم الآمن ومَن حولَه لم يَسلَمْ من اثنينِ متطرفَينِ: من خارجيٍّ خرجَ على ولاةِ الأمرِ فيهِ، ومتحررٍ من القيمِ والثوابتِ. وإنّ مسالكَ الفريقينِ؛ فريقِ التغريبِ، وفريقِ التخريبِ لا تعدو أن تكونَ جمرةَ الفتنةِ التي لا يطفؤُها إلا العقلاءُ المتسلحونَ بسلاحِ العلمِ الشرعيِ. فلنواصِلِ التوجيهَ والتربيةَ...
الخطبة الأولى:
الحمدُ للهِ الذي منَّ علينا بخيرِ الشرائعِ وأوفاها، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، عزَّ ربًّا وجلَّ إلهًا، وأشهدُ أن محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه، بعثهُ اللهُ بأكملِ المللِ وأزكاها، صلى اللهُ عليهِ وعلى آلهِ وأصحابِه، أعلمِ الأمةِ وأتقاها وأهداها.
أما بعدُ: فاتّقوا اللهَ حقَّ التقوَى، فهيَ الذّخرُ الأبقَى والطّريقُ الأنقَى.
ألا إنَّ مِن جليلِ نعمِ اللهِ علينا أننا نعيشُ في وطنِ الإخاءِ والرخاءِ والسخاءِ، وإذا رأينا هذه الانقلاباتِ، والهرجَ والقتلَ والتخطفاتِ، فلنذْكرْ ولنَتذاكرْ قولَ ربِنا -سبحانَه-: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ)[العنكبوت:67].
بيدَ أنَ هذا الحرمَ الآمنَ ومَن حولَه لم يَسلَمْ من اثنينِ متطرفَينِ: من خارجيٍّ خرجَ على ولاةِ الأمرِ فيهِ، ومتحررٍ من القيمِ والثوابتِ.
وإنّ مسالكَ الفريقينِ؛ فريقِ التغريبِ، وفريقِ التخريبِ لا تعدو أن تكونَ جمرةَ الفتنةِ التي لا يطفؤُها إلا العقلاءُ المتسلحونَ بسلاحِ العلمِ الشرعيِ.
فلنواصِلِ التوجيهَ والتربيةَ؛ بأن نقيَ أنفسَنا وأبناءَنا وطلابَنا نارَ الآخرةِ؛ بتنشئتِهِم التنشئةَ الصحيحةَ، ليتسلحُوا بسلاحَينِ: الأولِ: سلاحِ العلمِ الشرعيِ المستمَدِ من الوحيينِ. الثاني: سلاحِ العقلِ؛ ليعلوَ على صوتِ العاطفةِ والحماسِ.
وخذوا هاتينِ القصتينِ الدالّتينِ على أهميةِ اجتماعِ خطابَيِ العلمِ والعقلِ:
قالَ التابعيُ قبيصةُ بنُ جابرٍ -رحمهُ اللهُ-: "خَرجنا حُجَّاجًا، فبينما نحنُ محْرِموَن إذ سَنَح لنا ظبيٌ، فرماهُ رجلٌ منا بحجَرٍ، فقتَلهُ، فأُسْقِطَ في أيدينا، فدخلتُ أنا وصاحبُ الظبيٍ على عمرَ بنِ الخطابِ -رضي اللهُ عنه-، فقصَّ عليه القصةَ، فالتفتَ عمرُ إلى رجلٍ بجانبه، كأنه يشاورُه، ثم أقبَلَ على صاحبي فقال له: خُذْ شاةً من الغنمِ، فأَهْرِقْ دَمَها، وتصدَّقْ بلَحْمِها. فأقبلَ قبيصةُ على صاحبهِ قائلاً له بخطابٍ شبابيٍّ متحمسٍ جاهلٍ فيه سوءُ أدبٍ: "أيها المستفتي عمرَ بنَ الخطابِ؛ إن فُتْياهُ لن تُغْنيَ عنكَ منَ اللهِ شيئًا، واللهِ ما عَلِمَ عمرُ حتى سألَ الذي إلى جنبهِ، فانْحَرْ راحلتَكَ، فتصدَّقْ بها، وعظِّمْ شعائرَ اللهِ".
فسمعهُ عمرُ، فغضبَ. قالَ قبيصةُ: فواللهِ ما شَعُرْتُ بعمرَ إلا يضرِبُ بالدِّرَّة عليَّ. ثم قالَ: قاتَلَكَ اللهُ! تعدَّى الفُتيا، وتَقتلُ في الحَرَم؟! وتقولُ: واللهِ ما عَلِمَ عمرُ حتى سألَ الذي إلى جنبِه؟! أمَا تقرأُ كتاب الله؟! فإن اللهَ يقولُ عمنْ قَتلَ صيدًا وهو محْرِمٌ: (يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ)[المائدة:95].
فأخذَ عمرُ بمَجَامعِ ردائهِ، فقالَ قبيصةُ بجرأةِ الشبابِ وحماسِهم: يا أميرَ المؤمنين! إني لا أُحِلُّ لك منِّي أمرًا حرَّمهُ اللهُ عليكَ، فتركَهُ عمرُ ثم أزجَى له هذهِ النصيحةَ الجليلةَ البليغةَ فقالَ: "إني أراكَ شابًّا فَصِيحَ اللسانِ، فَسِيحَ الصدرِ، وقد يكونُ في الرَّجلِ عشَرةُ أخلاقٍ، تِسْعٌ حَسنةٌ، وواحدةٌ سيئةٌ، فيُفْسِدُ الخلقُ السيِّئُ التِّسعَ الصالحةَ، فاتَّق طَيْراتِ الشبابِ، وإيَّاكَ وعَثْرةَ الشبابِ"(رواه بمعناه عبد الرزاق في المصنف8240، والبيهقي في الكبرى 10146).
فانظروا للمحدَّثِ المُلهَمِ عمرَ؛ كيفَ احتوَى الشابَ وأقنَعَه بالحجةِ والحكمةِ، وأزالَ عنه الشبهةَ، حتى صارَ ذلك الشابُ بعد ذلكَ تلميذاً لعمرَ وابنِ مسعودٍ، ثم إماماً من التابعينَ؛ لأن حماسَ الشبابِ بحاجةٍ إلى حكمةِ الشيوخِ.
فاللهم اهدِ شبابَنا وشبابَ المسلمينَ. اللهم اهدِ من ضَلَ فاغترَ من شبابِنا بفكرٍ تكفيريٍّ أو تحرريٍّ إلحاديٍّ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ وكفَى، وصلاةً وسلامًا على النبيِ المصطَفَى، وعلى آلِهِ وصحبِهِ ومَنِ اقتفَى.
أما بعدُ: فالقصةُ السالِفةُ عن عمرَ والثانيةُ عَنِ ابنِهِ؛ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- يقصُّها على تلميذهِ حبيبِ بنِ مَسلمةَ، والعلماءُ ليكونُوا قريبينَ من الشبابِ قَالَ: لَمَّا تَفَرَّقَ النَّاسُ -أي حين وقع بين علي ومعاوية رضي الله عنهما من القتال- خَطَبَ مُعَاوِيَةُ -رضي الله عنهما- قَالَ: "مَنْ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي هَذَا الأَمْرِ فَلْيُطْلِعْ لَنَا قَرْنَهُ. -أي: رأسه-. فَلَنَحْنُ أَحَقُّ بِهِ مِنْهُ وَمِنْ أَبِيه".
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَحَلَلْتُ حُبْوَتِي، وَهَمَمْتُ أَنْ أَقُولَ: أَحَقُّ بِهَذَا الأَمْرِ مِنْكَ مَنْ قَاتَلَكَ وَأَبَاكَ عَلَى الإِسْلاَمِ -يريد أن معاوية وأباه -رضي الله عنهما- قبل يوم الفتح كانا كافرين وهو يومئذ مسلم-. فَخَشِيتُ أَنْ أَقُولَ كَلِمَةً تُفَرِّقُ بَيْنَ الْجَمْعِ، وَتَسْفِكُ الدَّمَ، وَيُحْمَلُ عَنِّي غَيْرُ ذَلِكَ -أي: على خلاف ما أردت-. فَذَكَرْتُ مَا أَعَدَّ اللَّهُ فِي الْجِنَانِ. قَالَ حَبِيبٌ: "حُفِظْتَ وَعُصِمْتَ"(صحيح البخاري:4108)؛ أي: حفظك الله وحماك من الفتنة وإثارتها.
فالعلمُ خيرٌ كلُه، لكنهُ في زمنِ الفتنِ أحرَى، ففيها تطيشُ العقولُ، وتضطربُ القلوبُ، وتختلُ المواقفُ؛ (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ)[المجادلة:11].
اللهم احفظْ لنا دينَنا وأمنَنا وتعليمَنا وصحتَنا. واحفَظْ ثرواتِنا وثمراتِنا، وحدودَنا واقتصادَنا وعتادَنا. اللَّهُمَّ صُبَّ عَليْنا الخَيْر صَبّاً صَبّاً، ولا تَجْعَل عَيْشَنَا كَدّاً كَدّاً. اللَّهُمَّ لا تَحْرِمْنَا خَيْرَ ما عِنْدَكَ بِشَرِّ ما عِنْدَنَا.
اللَّهُمَّ امننْ علينا بتوبةٍ نصوحٍ قبل الموتِ، وبشهادةٍ عند الموتِ، وبرحمةٍ بعد الموتِ. اللهم يا مجيبَ الدعوات احفظ لنا ملكَنا وأمدَّه بالصحةِ في طاعتِكَ، ومصلحةِ الإسلامِ والمسلمينَ. اللهم أعنهُ على إدارةِ مملكتهِ بوليِ عهدِهِ وسددهُم بأمرائهِم، وبوزرائهِم.
اللهم احفظْ أبطالَ الأمنِ واكلأهُم واحفظهُم من كلِ محاربٍ ومتربصٍ. اللهم اهدِ شبابَنا وشبابَ المسلمين. اللهم قِهم فتنَ الشبهاتِ والشهواتِ.
اللهم صلِّ وسلِّمْ على عبدِكَ ورسولِكَ محمدٍ. وأقمِ الصلاةَ إنَّ الصلاةَ تَنهَى عنِ الفحشاءِ والمنكرِ، ولَذِكرُ اللهِ أكبرُ واللهُ يعلمُ ما تصنعونَ.