الآخر
(الآخِر) كلمة تدل على الترتيب، وهو اسمٌ من أسماء الله الحسنى،...
العربية
المؤلف | أحمد بن عبد العزيز الشاوي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | أركان الإيمان - أهل السنة والجماعة |
عَلَمٌ يتردّد في عالم القِمَم، واسم ينبضّ في كل الأمم، وشخصية تتمثّل فيها كل الشِّيَم والقِيَم. محمد بن عبدالله -صلى الله عليه وسلم- أُمَّة في إنسان، وعالم من الرحمة والشفقة، وأفق واسع في الشمائل والكرم والجود والإحسان...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الملك القدوس السلام، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ يعلم السر والنجوى، وهو الخالق العلام، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله نبيّ الهدى ورسول المرحمة ومعلم الأنام؛ عليه وعلى آله وأصحابه من ربهم الصلاة والسلام وسلم تسليمًا.
أما بعد: فيا عباد الله اتقوا ربكم، واتقوا يومًا تُرجعون فيه إلى الله، واتقوا النار التي أُعِدَّت للكافرين.
أبو القاسم محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب: عَلَمٌ يتردّد في عالم القِمَم، واسم ينبضّ في كل الأمم، وشخصية تتمثّل فيها كل الشِّيَم والقِيَم.
محمد بن عبدالله -صلى الله عليه وسلم- أُمَّة في إنسان، وعالم من الرحمة والشفقة، وأفق واسع في الشمائل والكرم والجود والإحسان.
محمد بن عبدالله -صلى الله عليه وسلم-، نبينا، قدوتنا، أُسوتنا، إمامنا، ومن فداه آباؤنا وأمهاتنا وأنفسنا.
محمد بن عبدالله -صلى الله عليه وسلم-، ذاك الذي تعرف البطحاء وطأته والبيت يعرفه، والحِلّ والحَرَم، هذا هو خير عباد الله كلهم، هذا التقي النقي الطاهر العلم.
محمد بن عبدالله -صلى الله عليه وسلم-، لم يعرف العالم من أزله إلى أبده بشرًا مصفَّى المعدن، زكيّ السيرة، بهيّ الخلائق، صلب الجهاد، صبارًا على الشدائد، فانيًا في ربّه، شديد التعلق به، دائم الذِّكْر له مثل ما عرف هذه الشمائل فيه -صلى الله عليه وسلم-.
ولم يعرف العالم إنسانًا شقَّ طريق الكمال شقًّا ومهَّده للناس تمهيدًا، ودعاهم إليه أحرّ دعوة، وشرح معالمه لهم أرقّ شرح وتحمَّل في ذات الله ما لم يتحمّل أحد مثل ما عرف هذه الشمائل في النبي محمد بن عبدالله -صلى الله عليه وسلم-.
إنه -صلى الله عليه وسلم- لم يكن همّه صحابته الذين عايشوه، ولكن اهتمامه كان بجميع الأمة على تعاقب أجيالها، فكانت شفقته تدفعه دائمًا للبيان والتحذير لصحابته ولمن أتى بعدهم.
إن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- كان رحمة للأمة ونورًا، بذل لها وضحّى من أجلها، وقدم نفسه وماله وراحته من أجل صلاحها، فبماذا تكافئ الأمة نبيها وما حقه عليها.
إنه مهما سردنا من موجبات محبته وعظمته -صلى الله عليه وسلم- فلن نوفّيه حقّه وإن الثناء عليه ينبجس من ينبوع الثناء على ربه؛ فهو تقرير حقيقة وشكر جميل، فليس مدحه من قبيل افتعال الشعراء لفنون القول في أشخاص من يمدحون، وليس شكره ألفاظاً تمر بالشفاه مجازاة لنعمة محدودة، كلا، فالأيادي التي أسداها تجعل كل مؤمن مدينًا له بنور الإيمان الذي أضاء نفسه وزكاها (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)[الشورى:52].
وفي هذه الأيام وكما يتذكر المسلمون رحيل نبيهم ولحاقه بالرفيق الأعلى؛ فمن قبل ذلك يتذكرون مولد النور وبزوغ شمس الهدية.
وإننا نحن المسلمين نتذكر ولادة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- وخروجه إلى هذا الكون فنتذكر بمولده مولد رجل أحيا الله به أمة فأخرجها من الظلمات إلى النور ومن الضلالة إلى الهدى.
رجل أخرج الله به العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها.
نحن المسلمين نتذكر بمولد المصطفى -صلى الله عليه وسلم- رجلاًَ ليس كالرجال وعظيمًا لا كالعظماء. لم تعرف الإنسانية في ماضيها الطويل، ولن تعرف رجلاً وقَّره الأبطال وكرَّمه العظماء، وانطبعت محبته في شغاف القلوب كما عُرِفَ ذلك في النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم-.
نحن نتذكر بمولد المصطفى -صلى الله عليه وسلم- رجلاً عاش في عمر الدعوة ثلاثًا وعشرين سنة، كان فيها مثال الداعية الصابر الذي يُشجّ رأسه وتُكسر رباعيته، ويدمى عقباه، ويُلقى سلا الجزور على رأسه وهو ساجد، ويُخنق حتى تكاد تخرج روحه وهو لا يزيد أن يقول: "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون".
نتذكر رجلاً يحمل همّ الأمة فيفرح لهداية إنسان، ويضيق صدره ويحزن قلبه عندما يعرض المعرضون (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آَثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا)[الكهف:6].
نتذكر رجلاً يحمل همّ أمته حتى في يوم يفرّ فيه المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه.. يوم نداء الأنبياء فيه: اللهم سَلِّمْ سَلِّمْ، والرسول الهادي يقول: "أُمِّتِي أُمَّتِي"، وحتى في شأن العبادات يبحث عما فيه يَسُرّ الأمة وتخفيف عنها.
حين نتذكر مولد الهادي -صلى الله عليه وسلم- فلسنا ممن يقيم لمولده احتفالاً حوى كل منكر من القول وزورًا، أو يبتدع له عيدًا؛ فذلك مما لم يأذن به الله، وذلك مسلك من ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا.
إنَّ محبة رسول الله واجبة على كل مسلم، وهي دليل صدق الإيمان وقبوله، وكلما زادت المحبة في القلوب تنامى الإيمان واكتمل، وعلامات محبته تتجلّى بكثرة ذِكْره، فمن أحب شيئًا أكثر من ذِكْره وكثرة الشوق إلى لقائه ومحبة ما أحبّه، ومن أحبه من أهل بيته وصحابته، وعداوة من عاداهم، وبغض من أبغضهم وسبّهم ومحبة سُنته، والوقوف عند حدودها، ومحبة أُمّته وشفقة المؤمن على إخوانه المؤمنين ونصحه لهم وسعيه في مصالحهم.
وتتجلى محبته في طاعته والاقتداء به ومحبة ما جاء به، ودعا إليه ونصرة دينه وتوقيره وتعظيمه عند ذِكْره وذكر شمائله والإكثار من الصلاة والسلام عليه، ومن هنا فإن الواجب على الآباء والمربين أن يغرسوا في نفوس الأجيال حبّه وتعظيمه، وذلك بأن يعرّفوهم بسيرته ومسيرته، ويذكروهم بمواقفه ورحمته للأمة، وحبه لها وحرصه عليها ويعلموهم صورًا من شجاعته وكرمه وأخلاقه، ويحثوهم على الإكثار من الصلاة والسلام عليه، وبهذا نوقع في نفوسهم شعورًا خاصًّا به فيتعودون الأدب مع سنته، ويظهرون تعظيمهم لها واتباعها؛ (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)[آل عمران:31]، وما أجمل اتّباع السنة والحياة في ظلالها.
أقول هذا القول ..
الخطبة الثانية:
أما بعد: يا مسلمون؛ فإننا إذ نمقت الغلو في نبينا -صلى الله عليه وسلم-، ونستنكر كل بدعة تقام لمولده؛ فإننا أيضًا ننكر هذا الجفاء في محبته والتقصير في القيام بواجباتها، فالغلو مردود والجفاء مرفوض بكلّ صوره وأشكاله.
إننا نحن المنتسبين للسنة ونتيجة للحساسية المفرطة حيال كل ما يتصل بتعظيم النبي -صلى الله عليه وسلم- وتقديره وتعظيم أهل بيته خشية التشبه ببعض الطوائف وقعنا في المحذور الآخر المذموم، وهو الجفاء.
وقعنا في جفاء حبيبنا محمد حينما ابتعدنا عن سُنته ظاهرًا وباطنًا، وحينما رد البعض أحاديثه الصحيحة؛ لأنها في نظرهم تخالف العقل ولا تساير الواقع ولا يمكن العمل بها.
وقعنا في الجفاء حينما عدلنا عن سيرته وسنته إلى رموز معاصرة أبرزتها وسائل الإعلام فكانت هي القدوات.
وقعنا في الجفاء حينما أهملنا دراسة سيرته، فلم نجعل لها من علومنا ودراساتنا ومسابقاتنا نصيبًا.
وقعنا في الجفاء حينما نزعت هيبة الكلام عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وكأنها حديث عابر أو سيرة شاعر أو قصة سائر؛ فلا أدب في الكلام، ولا توقير للحديث، ولا استشعار لهيبة الجلال النبوي.
كان عبدالرحمن بن مهدي إذا قرأ حديث رسول الله أمر الحاضرين بالسكوت؛ فلا يتحدث أحد، ولا يبرى قلم، ولا يبتسم أحد، ولا يقوم أحد قائمًا؛ كأن على رؤوسهم الطير، أو كأنهم في صلاة؛ فإذا رأى أحدًا منهم تبسَّم أو تحدَّث لبس نعليه وخرج، فأين هذه الصورة المثلى من واقع مجالسنا ومنتدياتنا وفصولنا وحلقاتنا؟
وقعنا في الحفاء حينما هجرنا مدينة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلا تُزَار إلا نزرًا، وعلى عجل، وبدون اهتمام بالسنة والشعائر.
نقع في الجفاء حينما نترك الصلاة عليه لفظًا أو خطأ، وأبخل الناس من بخل بالصلاة على الحبيب -صلى الله عليه وسلم-.
وقعنا في الجفاء حينما قل الحديث عن آل بيته ومديحهم وذكر فضائلهم، فما أجمل الاعتدال فلا غلو ولا جفاء!، وما أجمل الاتباع والسير على هدي من سلف (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ)[الأنعام:90].
اللهم صلِّ وسَلِّم..