الكبير
كلمة (كبير) في اللغة صفة مشبهة باسم الفاعل، وهي من الكِبَر الذي...
العربية
المؤلف | عبدالمحسن بن محمد القاسم |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | القرآن الكريم وعلومه |
وقد افتتح اللهُ خمسَ عشرةَ سورةً بالأيمان، كلها مكية، وأقسَم في مواضع كثيرة من كتابه تنبيهًا لعباده على عظمة المقسِم والمقسَم به، والمقسَم عليه، والله أقسَم في كتابه أعظمَ قسَم بأعظم مقسَم به؛ وهو...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد فاتقوا الله -عباد الله- حق التقوى، وراقِبوه في السر والنجوى.
أيها المسلمون: جعَل اللهُ القرآنَ العظيمَ آيةً خالدةً، وموعظةً بالغةً، نوَّع فيه أساليب الهداية وثنَّاها، والأيمانُ الإلهيةُ بابٌ عظيمٌ من أبواب الإيمان والهداية، وقد افتتح اللهُ خمسَ عشرةَ سورةً بالأيمان، كلها مكية، وأقسَم في مواضع كثيرة من كتابه تنبيهًا لعباده على عظمة المقسِم والمقسَم به، والمقسَم عليه، والله أقسَم في كتابه أعظمَ قسَم بأعظم مقسَم به؛ وهو نفسه المقدَّسة الموصوفة بصفات الكمال على أجلِّ مقسَم به؛ وهو أصول الإيمان، وركائز الدين، فقال: (فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) [الذَّارِيَاتِ: 23]، وأقسَم بربوبيته على حشر العباد يوم الدين: (فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ) [مَرْيَمَ: 68]، وأن العبد مسؤول عن عمله في الآخرة، وأن المرجع إليه لا مفر منه، قال -تعالى-: (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الْحِجْرِ: 92-93]، وأقسَم بألوهيته على محاسبة المشركين، قال -تعالى-: (تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ) [النَّحْلِ: 56]، وأقسم بربوبيته لكل ما طلعت عليه الشمس والنجوم، أو غربت على عموم قدرته وكمالها، وأنه سيُعيد العبادَ للجزاء والحساب، قال -تعالى-: (فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ * عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ) [الْمَعَارِجِ: 40-41]، وأقسم بربوبيته الخاصة للنبي -صلى الله عليه وسلم- على نفي الإيمان عمَّن لم يتحاكم إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، ويتلقَّى حُكْمَه بالرضا والتسليم: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [النِّسَاءِ: 65].
والله -سبحانه- يتكلم متى شاء إذا شاء بما شاء، والقرآن أشرفُ كلامه وأجلُّه، فأقسَم به على إنزال القرآن فقال: (وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ) [الدُّخَانِ: 2-3]، وعلى صدق رسوله -عليه الصلاة والسلام- وصحة نبوته ورسالته: (وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) [يس: 2-3]، وعلى إثبات المعاد وتقرير وقوعه؛ (وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ * بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ) [ق: 1-3].
وأقسم سبحانه بكتابه المسطور؛ أي المكتوب في رق، وهو ما يُكتَب فيه من جِلْد رقيق منشور؛ أي غير مهجور، وهو بأيدي سفرة؛ وهم الملائكة، كرام بررة، وفيه إيذان بالاعتناء به ونبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- أفضل الأنبياء والرسل، وحياته هداية ورحمة وبركة على الثقلين، وبفضل الله أرسله إليهم؛ لينال مَنْ يُطِيعه جناتِ النعيم، وعمره في دعوة أمته من أعظم النعم والآيات، أفنى -عليه الصلاة والسلام- حياته في الدعوة إلى ربه، مع كمال الإخلاص والتقوى، فأنزله الله أعلى المنازل في الجنة، وحفظ دينَه وشريعتَه ووعَدَه بكفايته ممَّن سخر منه، بقوله: (إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) [الْحِجْرِ: 95]، وتوعَّد مَنْ أبغَضَه أو استهزأ به بقطع دابره فقال: (إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) [الْكَوْثَرِ: 3].
ولمزية عمره على كل أعمار بني آدم أقسَم الله بحياته فقال: (لَعَمْرُكَ) [الْحِجْرِ: 72]؛ -أي: وحياتِكَ- (إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) [الْحِجْرِ: 72]؛ أي: في ضلالهم يترددون، قال ابن كثير -رحمه الله-: "وفي هذا -أَيْ: في قسَمِ اللهِ بحياة النبي -صلى الله عليه وسلم- تشريفٌ عظيمٌ، ومقامٌ رفيعٌ، وجاهٌ عظيمٌ"، والملائكة خلقٌ عظيمٌ دائبون في عبودية الله، لا يَفْتُرُون، والإيمان بهم من أركان الإيمان، وتعظيمًا لهم أقسَم اللهُ بحال قيامهم بحق عبوديته صفوفًا بين يديه قال -سبحانه-: (وَالصَّافَّاتِ صَفًّا) [الصَّافَّاتِ: 1]، وهم أصناف في قيامهم بأعمالهم الموكَلة إليهم من الله في تدبير العالَم؛ فأقسم بالملائكة التي تزجر السحاب وغيره بأمر الله: (فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا) [الصَّافَّاتِ: 2]، وبالملائكة التي تتلو كلام الله: (فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا) [الصَّافَّاتِ: 3]، وبالملائكة المقسمات أمر الله، التي أُمرت به بين خلقه من الرزق والتأييد والعذاب وغير ذلك، فقال: (فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا) [الذَّارِيَاتِ: 4]، والموت مشهد مهيب ملائكة تنزع الأرواح من الأجساد نزعًا، بقوة وتغرق في نزعها، فأقسم اللهُ بها: (وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا) [النَّازِعَاتِ: 1]، وملائكة تأخذ أرواحًا بسرعة وخفة، فأقسم بها وقال: (وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا) [النَّازِعَاتِ: 2]، وبملائكة نزلت على الرسل فرَّقَت بين الحق والباطل، وألقت إلى الرسل -عليهم السلام- وحيًا فيه إعذارٌ وإنذارٌ، فقال: (فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا * فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا * عُذْرًا أَوْ نُذْرًا) [الْمُرْسَلَاتِ: 4-6]، والكون من عجائب الخَلْق، وما فيه من دقيق الصنعة يعرِّف الخلقَ بعظمة خالقه، وقوة بارئه؛ فالسماء من أعظم آياته قَدْرًا وارتفاعًا وسعةً ولونًا وإشراقًا، وربنا -سبحانه- فوق السماء وهي محل الملائكة، ومنها تتنزَّل الأرزاقُ، وإليها تصعد الأرواحُ والأعمالُ؛ فأقسَم اللهُ بالسماء وبانيها، وما بناه فيها، (وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا) [الشَّمْسِ: 5]، وبصفاتها من ارتفاعها؛ (وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ) [الطُّورِ: 5]، وبما فيها من الزينة والجمال والإتقان؛ (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ) [الذَّارِيَاتِ: 7]، وبما يحدث فيها من النجم الذي يثقب ضوؤه؛ (وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ * النَّجْمُ الثَّاقِبُ) [الطَّارِقِ: 1-3]، وبما فيها من البروج التي تَنزِلُها الشمسُ والقمرُ والنجومُ السَّيَّارة؛ (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ) [الْبُرُوجِ: 1]، وبما فيها من الرزق؛ من إرجاع المطر إلى العباد مرةً بعد أخرى؛ (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ) [الطَّارِقِ: 11].
وأقسم سبحانه بمواقع النجوم، التي بها قوام الليل والنهار والسنين والشهور والأيام؛ (فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ) [الْوَاقِعَةِ: 75]، وللنجوم أحوال ركَّبَها اللهُ -سبحانه- عليها، فلها مطالع تطلع منها ثم تجري -بإذن الله- مسخرةً منقادةً إلى مغربها؛ فأقسم بها فقال: (فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا) [الذَّارِيَاتِ: 3]، وأقسم بها في أحوالها الثلاثة في غروبها وجريانها وطلوعها؛ (فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * الْجَوَارِي الْكُنَّسِ) [التَّكْويرِ: 16]، وأقسَم بالنجم حال هُوِيِّه على الشياطين المسترِقِينَ للسمع، على تنزيه رسوله -عليه الصلاة والسلام- من الضلال والغواية، وهو الصادق المكلَّم بالوحي المحفوظ بالنجوم من استراق الشياطين له؛ (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) [النَّجْمِ: 1-4].
والشمس والقمر أعظم المخلوقات المشاهَدة في السماء الدنيا، وبحركتها تتمُّ مصالح الناس، ولا غنى للخلق في معاشهم عن وجودهما، والله أقسَم بهما تعظيمًا لأمرهما فقال: (وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا) [الشَّمْسِ: 1-2]، والأرضُ مهادٌ وفراشٌ هيأها اللهُ للخلق، ووطأها وبسَطَها وبارَك فيها، وذرأ عليها الأنعام والحيوان، وأجرى فيها العيون والأنهار، وأقسم بها وبسعتها، وبمن وسعها ومدها، فقال: (وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا) [الشَّمْسِ: 6]، وبما تنشق عنه من النبات الذي به حياة الأرض، ومن عليها: (وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ) [الطَّارِقِ: 12]، والرياح خلق عجيب لا تُرى، يدبر اللهُ مسيرَها وأعمالَها للنصر، أو للعذاب، أو للمعاش، فأقسم الله بتتابُعِها لامتثال أمر الله بما أمرت به؛ (وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا) [الْمُرْسَلَاتِ: 1]، وبعصفها من شاء الله أن تعصف به، وبما تنسفه وتغرقه من الماء والتراب إذا تهشم، فقال: (وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا) [الذَّارِيَاتِ: 1]، وبما تحمله من السحب المثقلَة من الماء: (فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا) [الذَّارِيَاتِ: 2].
والبحر آية عظيمة من آيات الله، مملوء ماءً، ومحبوس بقدرة الله أن يطغى على الأرض فيغرق من عليها، والفلك المشحون تجري فيه مثقلةً بأرزاق الله، وفي البحر من المخلوقات أضعاف أضعاف ما في البر، ولعجائبه وما فيه أقسم الله به فقال: (وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ) [الطُّورِ: 6]، والله فضَّل بني آدم على كثير ممَّن خلَق تفضيلًا، فأقسَم بأصل مسكنه، ومرجع أم البلاد؛ وهي مكة أم القرى، فقال: (لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ) [الْبَلَدِ: 1-2]، وأقسم بأصله؛ وهو أبو البشر آدم -عليه السلام-، فقال: (وَوَالِدٍ) [الْبَلَدِ: 3]، وبما تفرَّع منه من الذرية؛ (وَمَا وَلَدَ) [الْبَلَدِ: 3].
والكتابة وقلمها من أكبر النعم على الإنسان؛ فهي من سائل حفظ الدين، ومعرفة الإسلام، وبهما قضاء مصالح الناس، والله أقسَم بهما على أن نبيَّه منزَّه عن مطاعن أعدائه، وأنه نبيٌّ كريمٌ جعَلَه ربُّه على خُلُق عظيم، لا يدانيه فيه أحدٌ؛ (ن * وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ * وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ * وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [الْقَلَمِ: 1-4]، والخيل مركوب وزينة، والمنفعة ملازِمةٌ لها، قال عليه الصلاة والسلام: "الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة"(متفق عليه)، وأقسم الله بها في الحال التي لا يشركها فيه غيرُها من الحيوانات، فأقسم بعَدْوِها البليغ القوي، الذي يصدر عنه صوتُ نَفَسِها في صدرها، فقال: (وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا) [الْعَادِيَاتِ: 1]، وباصطكاك حوافرها فتقدح منه النارَ؛ لصلابة حوافرها؛ (فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا) [الْعَادِيَاتِ: 2]، وبإغارتها وقتَ الصباح؛ (فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا) [الْعَادِيَاتِ: 3].
وسيدُ البيوتِ البيتُ المعمورُ في السماء، وسيدُ الجبالِ الطورُ، الذي كلَّم اللهُ عليه نبيَّه موسى -عليه السلام- وسيدُ الكتبِ القرآنُ العظيمُ، والله جمَع بينَها في القَسَم فقال: (وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ * فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ * وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ) [الطُّورِ: 1-4]، وخصَّ مكةَ بمنزلة عالية على غيرها من المواطن، فأقسم بها ووصفها بالبلد الأمين، فقال: (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ) [التِّينِ: 1-3].
والليل سَكَنٌ وعبادةٌ، وربُّنا -سبحانه- يَنزِل إلى السماء الدنيا في الثلث الأخير منه، يعرض نفحاتِه على العباد؛ كَرَمًا منه وفضلًا، والليلُ أكثرُ ما أقسَم اللهُ به من الآيات الكونية، ونوَّع الأيمانَ به في جميع أحواله؛ فأقسم به إذا أقبل؛ (وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ) [التَّكْويرِ: 17]، وبسَرَيانه وجريانه: (وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ) [الْفَجْرِ: 4]، وإذا غطَّى الخليقةَ بظلامه وإذا سكن وادلهمت ظلمتُه: (وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى) [الضُّحَى: 2]، وبإدباره: (وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ) [الْمُدَّثِّرِ: 33]، وبما فيه من الخَلْق والآيات: (وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ) [الِانْشِقَاقِ: 17]؛ أي: وما ضمَّ وحوى وجمَع، فالليلُ آيةٌ وما ضمَّه وحواه آيةٌ أخرى.
والنهارُ زمنُ عبادةٍ ومعاشٍ، والله أقسَم به في مراحله من الفجر، والضحى، والعصر، والليل والنهار هما زمن الحياة، وبالأعمال فيهما سبب السعادة الدائمة والشقاء، وفي كل واحد منهما من الآيات العظيمة، وفي إقبالهما وإدبارهما ما يدلُّ على عظمة مقدِّرها، فأقسَم بها: (وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ * وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ) [الْمُدَّثِّرِ: 33-34]، وبالشفق الذي في السماء الذي هو أمارةٌ على إقبال الليل وإدبار النهار؛ (فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ) [الِانْشِقَاقِ: 16]، وبالليل إذا أقبل، وبالصبح إذا تنفَّس، وتنفُّسُه إيذانٌ بمحو ظلمته؛ (وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ * وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ) [التَّكْويرِ: 18] وأشرفُ ليالي العام عشر ذي الحجة؛ ولفضلها أقسَم الله بها فقال: (وَلَيَالٍ عَشْرٍ) [الْفَجْرِ: 2]، وآخِرُ الأيامِ يومُ القيامةِ؛ وهو الموعد في رجوعنا إلى الله جميعًا، فنحاسَب فيه على أعمالنا كلِّها، ونُجازى عليها، وكما أقسَم اللهُ على وقوعه في مواضع كثيرة أقسَم به فقال: (وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ) [الْبُرُوجِ: 2].
وكما أقسم سبحانه بأعيان من مخلوقاته أقسَم بكل ما نراه من مخلوقاته، وما لا نراه ممَّا لم يخصَّه بقَسَم فقال: (فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لَا تُبْصِرُونَ) [الْحَاقَّةِ: 38-39]، وهذا أعمُّ قَسَمٍ في كتاب الله.
وبعدُ -أيها المسلمون- فالله خلَق الخَلْقَ وأتقَنَه وتحدَّى جميعَ الخلق أن يخلقوا ذرةً أو حبةً أو شعيرةً، قال -عليه الصلاة والسلام-: "قال الله -عز وجل-: ومن أظلم ممَّن ذهَب يخلق كخلقي، فليخلقوا ذرةً، أو ليخلقوا حبةً أو شعيرةً"(متفق عليه)، ولخلقه البديع أقسَم الله به جميعًا، وخصَّ بعضَ مخلوقاته العظيمة بقَسَم خاص بها، وجعلَها آيةً على وحدانيته وقوته وقدرته؛ ليعبده الناسُ وحدَه ويعظِّمُوه ويمتثلوا أوامرَه، ويجتنبوا نواهِيَه، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) [الزُّمَرِ: 67].
بارَك اللهُ لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني اللهُ وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفِر اللهَ لي ولكم ولجميع المسلمين، من كل ذنب، فاستغفِروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، تعظيمًا لشانه، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا مزيدًا.
أيها المسلمون: الله خلَق الخلقَ ويُقسِم بما شاء من مخلوقاته، وأمَر العبادَ أن يحلفوا بالله وحدَه؛ تعظيمًا له، ونُهُوا عن الحَلِف بغيره، قال -عليه الصلاة والسلام-: "من كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت"(متفق عليه)، والحَلِف بغير الله نوعٌ من أنواع الشرك، قال عليه الصلاة والسلام: "مَنْ حلَف بغير الله فقد كفَر أو أشرَك"(رواه الترمذي)، وأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- مَنْ حلَف بغير الله أن يُعلِن توحيدَ الله، قال عليه الصلاة والسلام: "مَنْ حلَف فقال: واللاتِ والعُزَّى فليقل: لا إله إلا الله"(متفق عليه)، ومَنْ لم يحلف إلا به -سبحانه- وحدَه مُجِلًّا له صادقًا في حلفه حين الحاجة لذلك غير مُكثِر من الحلف به في كل حين؛ ممتثلًا أمرَ الله في قوله: (وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ) [الْمَائِدَةِ: 89]، فهو المعظِّم لله وحدَه.
ثم اعلموا أن الله أمركم بالصلاة والسلام على نبيه فقال في محكم التنزيل: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الْأَحْزَابِ: 56]، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِكْ على نبينا محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين، الذين قَضَوْا بالحق وبه كانوا يعدلون؛ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعنَّا معهم بجودِكَ وكرمِكَ يا أكرمَ الأكرمينَ.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمِّر أعداءَ الدينِ، واجعل اللهم هذا البلد آمِنًا مطمئنًّا وسائرَ بلاد المسلمين، يا رب العالمين.
اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم ردَّهم إليكَ ردًّا جميلًا، (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [الْبَقَرَةِ: 201]، اللهم وِّفق إمامَنا ووليَّ عهده لما تحب وترضى، وخذ بناصيتهما للبِرِّ والتقوى، وانفع اللهم بهما الإسلام والمسلمين، (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [الْأَعْرَافِ: 23].
عباد الله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النَّحْلِ: 90]، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على آلائه ونعمه يزدكم، (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ * وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ) [الْعَنْكَبُوتِ: 44-45].