الباسط
كلمة (الباسط) في اللغة اسم فاعل من البسط، وهو النشر والمدّ، وهو...
العربية
المؤلف | عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
أيها المؤمنون: العبادة أساس السعادة، وسبيل الفلاح، وعنوان سعادة العبد في دنياه وأخراه؛ فلا حياة هنيئة ولا سعادة في هذه الدار وفي دار القرار إلا بتحقيق العبودية لله التي هي حق الله على العباد. وحياة الإنسان إذا أحسن المعاملة مع الله وحقق تمام الإقبال على الله تمضي كلها عبودية لله. وليست العبادة منحصرة في...
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الرزاق ذو القوة المتين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المبعوث رحمة للعالمين بلسان عربي مبين، فبلَّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: أيها المؤمنون: اتقوا الله -تعالى-؛ فإن من اتقى الله وقاه، وأرشده إلى خير أمور دينه ودنياه.
أيها المؤمنون: إن العبادة هي الغايةُ المحبوبة لله، المرضيةُ له سبحانه التي لأجلها خلق الجن والإنس؛ كما قال الله -تعالى-: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)[الذاريات: 56]، وبها أرسل رسله الكرام، وأنزل كتبَه العظام، قال الله -تبارك وتعالى-: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ)[النحل: 36]، وقال الله -تعالى-: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ)[الأنبياء: 25]، والآيات في هذا المعنى كثيرة.
أيها المؤمنون: والعبادة أساس السعادة، وسبيل الفلاح، وعنوان سعادة العبد في دنياه وأخراه؛ فلا حياة هنيئة ولا سعادة في هذه الدار وفي دار القرار إلا بتحقيق العبودية لله التي هي حق الله على العباد.
أيها المؤمنون: وحياة الإنسان إذا أحسن المعاملة مع الله وحقق تمام الإقبال على الله تمضي كلها عبودية لله؛ كما قال الله -جل شأنه-: (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ)[الأنعام: 162-163].
أيها المؤمنون: ليست العبادةُ منحصرةً في عمل معيّن أو في طاعةٍ تؤدى في المسجد فقط؛ بل العبادة أشمل من ذلك وأعم، فالعبادة -أيها المؤمنون- تكون بالقلب وباللسان والجوارح.
أما عبودية القلب لله، فبإيمانه بالله وبكل ما أمر الله -جل شأنه- بالإيمان به، قال الله تعالى: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ)[البقرة: 177] فالإيمان بالله وبكل ما أمر جل شأنه بالإيمان به هو أس العبادة الذي عليه تقوم وركنها الذي عليه تُبنى، والله يقول: (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[المائدة: 5].
ويدخل في العبادة جميع عبوديات القلب من الأعمال الصالحات والأفعال الزاكيات التي يقوم بها قلب المؤمن طاعةً لله وتعبداً له وطلباً لرضاه؛ كمحبته وخشيته، والصبر لحكمه، والتوكل عليه، والرضا عنه وبه، وخوفه ورجائه والإنابة إليه، والحياء منه جل وعلا، ونحو ذلكم من العبادات القلبية، فكل ذلكم داخل في مفهوم العبادة ويشمله مسماها؟
ويدخل في العبادة -أيها المؤمنون-: عبادات اللسان؛ وأعظم ذلكم: النطق بالشهادتين؛ فهي أساس الإسلام وعموده الذي عليه يبنى، ثم كذلكم سائر الأقوال الزاكيات، والكلمات الطيبات، والأقوال المسددات التي يقولها المرء بلسانه تقرباً لرب البريات كل ذلكم داخلٌ في العبادة؛ كذكر الله، وتلاوة كتابه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله، وتعليم العلم، ونحوِ ذلكم فكله من العبادة.
ويدخل -أيها المؤمنون- في العبادة: جميعُ أعمال البدن التي يتقرب بها العامل إلى الله -عز وجل- من صلاة وصيام وحجٍ وبرٍ وإحسان، وغير ذلكم من الطاعات التي يحبها الرحمن -جل شأنه-، فكل ذلكم داخل في مفهوم العبادة.
ويدخل في مفهومها -أيها المؤمنون-: العبادات المالية فيما ينفقه العبد من نفقات ويخرجه من زكوات، ويتقرب إلى الله به من نفقات؛ فذلكم كله من العبادة، فالزكاة المفروضة عبادة، والصدقة المُتنَفلُ بها إلى الله عبادة، وإعانة المحتاجين، ومساعدة الناس من فقيرٍ أو أرملةٍ أو نحوِ ذلك بقصد التقرب إلى الله؛ كل ذلكمُ داخل في العبادة، ففي الصحيح عن سعد -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "وَلَسْتَ تُنْفِقُ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللهِ إِلاَّ أُجِرْتَ بِهَا حَتَّى اللُّقْمَةَ تَجْعَلُهَا فِي فِيّ امْرَأَتِكَ".
نعم -أيها المؤمنون- إذا أنفقت على أهلك وولدك وحرصتَ على إطعام الطعام، والإحسان، متقرباً بذلك إلى الله، راجياً به ثواب الله، فإنه داخل في العبادة، وهو مما يأجرك الله عليه، ويثيبك عليه عظيم الثواب.
ويدخل -أيها المؤمنون- في مفهوم العبادة: الحقوق التي أوجبها الله على العباد أو ندبَهم إليها من أنواع البر والإحسان تجاه المخلوقين كبِرِّ الوالدين، وصلة الأرحام، ورعاية حقوق الجار، والإحسان إلى الناس عموما بإغاثة ملهوف أو جبر كسيرٍ أو مساعدة محتاج، أو نحو ذلك؛ فكل ذلكم من العبادة التي يُتقرب إلى الله -جل وعلا- بها.
أيها المؤمنون: بل إن المباحات التي أباح الله -عز وجل- لعباده فعلها فإنها تدخل في مفهوم العبادة إذا حسُنت النية، وطاب القصد؛ فإذا أكلت طعامك وشرِبتَ شرابك ونِمْتَ نومتك الهنيئة ترجو بها أجر الله محتسبا فإنك تؤجر على طعامِك وشرابِك.
نعم -أيها المؤمنون- عندما تطعم الطعام وتشربُ الشراب وتنام لتتقوى بذلك على طاعة الله -جل وعلا- فإنك تؤجر على هذه النية في طعامِك وشرابِك ونومَتِك، جاء في صحيح البخاري أن أبا ذرٍ -رضي الله عنه- سأل معاذاً -رضي الله عنه- عن قراءته للقرآن؛ قال رضي الله عنه: "أَنَامُ أَوَّلَ اللَّيْلِ فَأَقُومُ وَقَدْ قَضَيْتُ جُزْئِي مِنْ النَّوْمِ فَأَقْرَأُ مَا كَتَبَ اللَّهُ لِي فَأَحْتَسِبُ نَوْمَتِي كَمَا أَحْتَسِبُ قَوْمَتِي" فالنومة تُحتسب، والأكلةُ تحتسب، والشربةُ تحتسب بالنية الصالحة، وقد قال عليه الصلاة والسلام: "إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى".
أيها المؤمنون: وبُعْد العبد عن الحرام، وتجنّبه الآثام، وابتعاده عن كل ما يسخط الملكُ العلَّام -جل شأنه- لأجل الله، وطلباً لرضاه؛ كل ذلكم داخل في مفهوم العبادة؛ فإذا تجنب المؤمن الزنا والسرقة والغِشَ والكذبَ والخيانة، وغير ذلِكم من المحرمات خوفاً من الله، ورجاءً لثواب الله كتبت له تلك في حسناته، جاء في الصحيح من حديث أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أن الله -تعالى- قال: "إِذَا أَرَادَ عَبْدِي أَنْ يَعْمَلَ سَيِّئَةً فَلاَ تَكْتُبُوهَا عَلَيْهِ حَتَّى يَعْمَلَهَا فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا بِمِثْلِهَا وَإِنْ تَرَكَهَا مِنْ أَجْلِي"(وهذا موضع الشاهد) "فَاكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَةً".
فمن ترك -أيها المؤمنون- الحرام، وابتعد عن الآثام خوفاً من الله ورجاءً لثوابِ الله، ولأجل الله -سبحانه وتعالى- كان ذلِكم من جملة حسناته، ومعدوداً في طاعاته، وهو مما يأجره الله عليه ويثيبه عليه عظيم الثواب.
وبهذا -أيها المؤمنون- نتبيّن أن المؤمن بنيةٍ صالحة، وحسن اتباع للرسول -صلى الله عليه وسلم- تمضي حياتُه كلُها عبادةً لله، محققاً بذلكم قول الله -جل شأنه-: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ)[الحجر: 99].
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله عظيمِ الإحسان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: أيها المؤمنون: اتقوا الله -تعالى-.
عباد الله: والعبادة لا يقبلها الله -جل وعلا- من العامل إلا بشرطين عظيمين وأصلين متينين ألا وهما: الإخلاص للمعبود، والمتابعة للرسول -صلى الله عليه وسلم-، وقد جمع الله بينهما في قوله: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا)[الكهف: 110]
وللعبودية -أيها المؤمنون- أركان مكانها القلب لابد من توافرها في كل عبادة، وهي: حب الله، ورجاء ثوابه، وخوف عقابه جل شأنه.
وقد جمع سبحانه بين هذه الأركان في قوله سبحانه: (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورً)[الإسراء: 57].
عباد الله: لِنسأل الله -جل وعلا-، ولْنطلب مده وعونه دائماً وأبدا أن يعيننا جميعاً على ذكره وشكره وحسن عبادته.
وصَلُّوا وسلِّموا -رعاكم الله- على محمّد بن عبد الله كما أمركم الله بذلك في كتابه، فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)[الأحزاب: 56]، وقال صلى الله عليه وسلم: "مَنْ صَلَّى عَلَيَّ وَاحِدَةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرًا".
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد. وارضَ اللَّهم عن الخلفاء الراشدين الأئمة المهديين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنـِّك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واحمِ حوزة الدين يا رب العالمين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفق ولي أمرنا لهداك، وأعِنه على طاعتك ورضاك، اللهم وردّه إلينا معافى يا رب العالمين، اللهم رب الناس مُذهب البأس اشفه أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك شفاءً لا يغادره سقما.
اللهم آتِ نفوسنا تقواها زكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها.
اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفة والغنى.
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير والموت راحة لنا من كل شر.
اللهم أعنا ولا تعن علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا، وامكر لنا ولا تمكر علينا، واهدنا ويسّر الهدى لنا، وانصرنا على من بغى علينا.
اللهم اجعلنا لك شاكرين، لك ذاكرين، إليك أوّاهين منيبين، لك مخبتين، لك مطيعين.
اللهم تقبل توبتنا، واغسل حوبتنا، وثبِّت حجتنا، واهد قلوبنا، وسدد ألسنتنا، واسلل سخيمة صدورنا.
اللهم واغفر لنا ذنبنا كله؛ دقه وجله، أوله وآخره، سره وعلنه.
اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا، وما أسررنا وما أعلنا، وما أنت أعلم به منا، أنت المقدِّم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت.
اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفارا فأرسل السماء علينا مدرارا.
اللهم إنا نسألك بأنك أنت الله لا إله إلا أنت؛ أنت الغني ونحن الفقراء أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من اليائسين.
اللهم أغث قلوبنا بالإيمان وديارنا بالمطر، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم إنا نسألك غيثاً مغيثا، هنيئاً مريئا، سَحًا طبقاً، نافعاً غير ضار، عاجلاً غير آجل.
اللهم سقيا رحمة لا سقيا هدم ولا عذاب ولا غرق.
اللهم لا تؤاخذنا بما فعله السفهاء منا.
اللهم أعطنا ولا تحرمنا، وزدنا ولا تنقصنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا.
(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[البقرة: 201].
عباد الله: اذكروا الله يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم: (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ)[العنكبوت: 45].