الرحيم
كلمة (الرحيم) في اللغة صيغة مبالغة من الرحمة على وزن (فعيل) وهي...
العربية
المؤلف | عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
أيها المؤمنون: إنَّ هذه الحياة الدنيا دارُ امتحان، ومَيْدانُ ابتلاء، وما من عبد في هذه الحياة إلا وهو مبتلى ثم إلى الله -جل شأنه- المرجع والمآب. والابتلاء في هذه الحياةِ الدنيا تارة يكون بالنعمة والرخاء، وتارة يكون بالشدة والبلاء، تارة يكون بالصحة، وتارة يكون بالمرض، تارة يكون بالغنى، وتارة يكون بالفقر، والمؤمن عرضة للبلاء في هذين البابين: باب الشدة، وباب الرخاء. والمؤمن من خيرٍ إلى خير في كل ابتلاءاته، ولهذا...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: أيها المؤمنون -عباد الله-: اتقوا الله ربكم وأطيعوه، فإن في تقوى الله -عز وجل- وطاعته سعادةَ العبد وفلاحَه في دنياه وأخراه.
أيها المؤمنون -عباد الله-: إنَّ هذه الحياة الدنيا دارُ امتحان، ومَيْدانُ ابتلاء، وما من عبد في هذه الحياة إلا وهو مبتلى، ثم إلى الله -جل شأنه- المرجع والمآب: (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى)[النجم: 31]، يقول الله -تبارك وتعالى-: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ)[الأنبياء: 35].
والابتلاء -أيها المؤمنون- في هذه الحياةِ الدنيا تارة يكون بالنعمة والرخاء، وتارة يكون بالشدة والبلاء، تارة يكون بالصحة، وتارة يكون بالمرض، تارة يكون بالغنى، وتارة يكون بالفقر، والمؤمن عرضة للبلاء في هذين البابين: باب الشدة، وباب الرخاء.
والمؤمن -عباد الله- من خيرٍ إلى خير في كل ابتلاءاته، ولهذا ثبت في المسند من حديث أنس -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "عَجَبًا لِلْمُؤْمِنِ! لَا يَقْضِي اللَّهُ لَهُ شَيْئًا إِلَّا كَانَ خَيْرًا لَهُ".
وتأمل -رعاك الله- قوله عليه الصلاة والسلام في هذا التعميم "شَيْئًا إِلَّا كَانَ خَيْرًا لَهُ"؛ فقوله: "شَيْئًا" يتناول كل ابتلاء سواء كان شدة أو كان رخاء، فالمؤمن في كل ابتلاءاته من خير إلى خير.
وذلكم -عباد الله- أن المؤمن الموفق إذا ابتلاه الله -جل وعلا- بالشدة والعسر، والمرض والفقر، ونحو ذلكم من الابتلاءات تلقى ذلكم بالصبر؛ فيفوز في هذا النوع من الابتلاء بثواب الصابرين، وإذا ابتلاه الله -جل وعلا- بالرخاء واليسر، والصحة والعافية، والغنى والسعة؛ فإنه في هذا النوع من الابتلاء يكون شاكرا لله -جل شأنه- فيفوز بثواب الشاكرين، يوضح ذلكم ما ثبت في صحيح مسلم من حديث صهيب بن سنان -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ! إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ؛ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ".
فالمؤمن -عباد الله- في مقام الضراء يفوز بثواب الصابرين، وفي مقام السَّعَة والرخاء يفوز بثواب الشاكرين؛ فهو يتقلب في هذه الابتلاءات بين صبر وشكر، وقد قال الله -تعالى- في أربعة مواضع من القرآن الكريم: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ)؛ فذكر جل شأنه المقامين العظيمين مقام الصبر على البلاء، ومقام الشكر على النعماء.
أيها المؤمنون: وينبغي على عبد الله المؤمن أن يعلم أن توسيع الله جل شأنه على بعض الناس في مالٍ أو صحةٍ أو تجارةٍ أو ولدٍ، أو غير ذلك من أنواع الإنعام ليس دليلاً ولا بد على رضا الله عنه وإكرامه له.
وكذلكم -عباد الله- ليس التضييق على العبد والتقتير عليه في ماله أو في صحته أو في سائر أحواله دليلا على عدم رضا الله عنه أو إهانته له؛ فهذا ظن يظنه بعض الناس نفاه الله -جل وعلا- في القرآن.
وتأمل ذلك -رعاك الله- في قول الله -سبحانه وتعالى-: (فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ)[الفجر: 15-16]، قال الله -تعالى- نافياً لهذا الظن (كَلَّا) أي ليس الأمر كما يظنون، وليس الشأن كما يزعمون ؛ فليس من وسّع الله عليه في المال والصحة والولد، وغير ذلك، ليس ذلك دليلا على رضا الله عنه وإكرامه له، وكذلكم ليس التضييق على العبد والتقتير عليه دليلا على إهانة الله -جل وعلا- له؛ بل كل منهما مبتلى، هذا ابتلاه الله -سبحانه وتعالى- بالمال والصحة والعافية وأنواع الخيرات، وذاك ابتلاه الله -سبحانه وتعالى- بفقر أو مرض أو نحو ذلك من الشدائد.
ولهذا اختلف أهل العلم في أي الشخصين أفضل عند الله -جل وعلا-: الغني الشاكر أو الفقير الصابر؟
والتحقيق في ذلكم: أن الأفضل منهما الأتقى لله -جل وعلا-، وإذا كانوا في التقوى سواء فهم في الأجر سواء؛ لأن الأول: امتحنه الله بالغنى فشكر. والثاني: امتحنه الله بالفقر فصبر، وكل منهما حقق العبودية المطلوبة منه، فكانوا كلاهما من الفائزين؛ ذاك فاز بثواب الشاكرين، وهذا فاز بثواب الصابرين.
أيها المؤمنون: والمآب إلى الله -عز وجل-، ولذلك ختم الله -عز وجل- الآية بقوله: (وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) أي أنكم تبتَلون في هذه الحياة ثم مرجعكم إلى الله -عز وجل-؛ ليثيب المحسن بإحسانه، وليعاقب المسيء على إساءته، فلنتق الله -عز وجل-، ولنجاهد أنفسنا في هذه الحياة لنكون من الفائزين في الابتلاء والامتحان، سواء كان الامتحان نعمةً أو كان الامتحان شدة.
اللهم يا إلهنا ومولانا وسيدنا وربنا وخالقنا اجعلنا بمنِّك وكرمك وفضلك ممن إذا أُعطِيَ شكر وإذا ابتلي صبر.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله عظيم الإحسان، واسع الفضل والجود والامتنان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: أيها المؤمنون -عباد الله-: اتقوا الله -تعالى-، وراقبوه مراقبة من يعلم أن ربه يسمعه ويراه.
واعلموا -رعاكم الله- أن هذه الدار زائلةٌ، وزائل من عليها، وأن المآب إلى الله -عز وجل-، ويوم اللقاء بالله تكون المجازاة، ففي ذلك اليوم العظيم يقول الرب -جل شأنه-: أنا الملك، أنا الديان. والديان، أي المحاسب المجازي، والجزاء يوم القيامة بمثاقيل الذر: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)[الزلزلة: 7-8].
أيها المؤمنون: والكيس من عباد الله من دان نفسه في هذه الحياة، أي حاسبها قبل أن يُحاسب، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، أي أرخى لنفسه الزمام وأطلق لها العِنان تفعل ما شاءت، وتخوض فيما أرادت من حرام أو آثام، ثم يفاجئ بالموت ويفاجئ بالجزاء والحساب.
ألا فلنتق الله -عز وجل- ولنحاسِب أنفسنا قبل أن نحاسَب، ولنزِن أعمالنا قبل أن تُوزن، واعلموا - رعاكم الله- أن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بالجماعة؛ فإن يد الله على الجماعة.
وصَلُّوا وسلِّموا -رعاكم الله- على محمّد بن عبد الله كما أمركم الله بذلك في كتابه، فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)[الأحزاب: 56]، وقال صلى الله عليه وسلم: "مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا".
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد. وارضَ اللَّهم عن الخلفاء الراشدين، الأئمة المهديين؛ أبي بكرٍ الصديق، وعمر الفاروق، وعثمان ذي النورين، وأبي الحسنين علي، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنـِّك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعنا ولا تعن علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا، وامكر لنا ولا تمكر علينا، واهدنا ويسر الهدى لنا، وانصرنا على من بغى علينا.
اللهم اجعلنا لك ذاكرين، لك شاكرين، إليك أواهين منيبين، لك مخبتين، لك مطيعين.
اللهم تقبل توبتنا، واغسل حوبتنا، وثبت حجتنا، واهد قلوبنا، وسدد ألسنتنا، واسلل سخيمة صدورنا.
اللهم وأصلح ذات بيننا، وألف بين قلوبنا، واهدنا سبل السلام، وأخرجنا من الظلمات إلى النور، وبارك لنا في أسماعنا وأبصارنا وأزواجنا وأموالنا وأوقاتنا واجعلنا مباركين أينما كنا.
اللهم اغفر ذنوب المذنبين وتب على التائبين، اللهم اكتب الصحة والعافية لعموم المسلمين يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم.
اللهم ارحم موتانا، واشف مرضانا، وأغنِ فقيرنا، واجبر كسيرنا، اللهم وأعِنّا أجمعين على ما تحبه وترضاه من سديد الأقوال وصالح الأعمال.
اللهم يا حي يا قيوم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا، واجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير، والموت راحةً لنا من كل شر.
اللهم إنا نسألك الجنة وما قرَّب إليها من قول أو عمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل، وأن تجعل كل قضاءٍ قضيته لنا خيرا يا رب العالمين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين، اللهم وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام.
ربنا إنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[البقرة: 201].
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.