الجميل
كلمة (الجميل) في اللغة صفة على وزن (فعيل) من الجمال وهو الحُسن،...
العربية
المؤلف | محمود بن أحمد الدوسري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الحديث الشريف وعلومه - المنجيات |
وسببُ أفضليةِ هذا الاستغفار وسيادتِه على غيره من صِيَغِ الاستغفار: أنه بدأ فيه بالثناءِ على الله -تعالى-, والاعترافِ من العبد بربوبية الله وإلهيته وتوحيده, والاعترافِ بأنه خالِقُه, العالِمُ به؛ إذْ أنشأَهُ نشأةً تستلزم عَجْزَه عن أداء حقِّه, والاعترافِ بأنه عَبدُه الذي ناصيته بيده, وفي قبضته, لا مهربَ له منه, ولا وَلِيَّ له سواه...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الحليمِ الغفَّار, غافرِ الذنوبِ والأوزار, ساترِ العيوب والأقذار, قَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ, لا تَضرُّه المعاصي وإنْ عَظُمَت, ولا تنفعه الطاعاتُ وإنْ كَثُرَت؛ فهو العزيز الجبَّار, وأُصلِّي وأُسلِّم على خير الخلق النبيِّ المختار, وعلى آله وصحبه ما تعاقَبَ الليل والنهار.
أمَّا بعد: ابتلى اللهُ -تعالى- عِبادَه بالمعاصي والذنوب, وفتح عليهم التوبةَ لِمَنْ يتوب, ودعاهم إلى الإقالة والرجوع عن العيوب, وحثَّهم على الإنابة والاستغفار.
أيها المسلمون: إنَّ أشرفَ أنواع الاستغفار وأفضلَه, وأعظمَه نفعًا, ما جاء عن الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم- حيث قال: "سَيِّدُ الاِسْتِغْفَارِ أَنْ تَقُولَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي، لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ، خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ وَأَبُوءُ بِذَنْبِي، فاغْفِرْ لِي، فَإِنَّهُ لاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ, مَنْ قَالَهَا مِنَ النَّهَارِ مُوقِناً بِهَا, فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ قَبْلَ أَنْ يُمْسِيَِ؛ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَمَنْ قَالَهَا مِنَ اللَّيْلِ وَهْوَ مُوقِنٌ بِهَا، فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ؛ فَهْوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ"(رواه البخاري).
فهذا الذِّكْرُ هو ذِروةُ سنامِ الاستغفار؛ لأنه جامِعٌ لمعاني التوبة كلِّها. قال الطِّيبي -رحمه الله-: "لَمَّا كان هذا الدعاءُ جامِعاً لمعاني التوبة كلِّها؛ استُعير له اسم "السيد", وهو في الأصل الرَّئِيس الذي يُقصَد في الحوائج, ويُرجَع إليه في الأمور".
وقال ابن أبي جمرة -رحمه الله-: "جَمَعَ -صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث من بديع المَعاني, وحُسْنِ الألفاظ ما يَحِقُّ له أنه يُسَمَّى به: "سيد الاستغفار"".
وسببُ أفضليةِ هذا الاستغفار وسيادتِه على غيره من صِيَغِ الاستغفار:
1- أنه بدأ فيه بالثناءِ على الله -تعالى-, والاعترافِ من العبد بربوبية الله وإلهيته وتوحيده, والاعترافِ بأنه خالِقُه, العالِمُ به؛ إذْ أنشأَهُ نشأةً تستلزم عَجْزَه عن أداء حقِّه, والاعترافِ بأنه عَبدُه الذي ناصيته بيده, وفي قبضته, لا مهربَ له منه, ولا وَلِيَّ له سواه. فقال: "اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي، لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ، خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ".
قال ابن تيمية -رحمه الله-: "صدَّرَه باعترافِ العبدِ بربوبيَّة الله، ثم ثنَّاها بتوحيد الإلهية بقوله: "لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ", ثمَّ ذَكَرَ اعترافَه بأنَّ الله هو الذي خلقَه وأوجدَه, ولم يكن شيئًا، فهو حقيقٌ بأنْ يتولَّى تمامَ الإحسانِ إليه بمغفرةِ ذنوبِه، كما ابتدأَ الإحسانَ إليه بِخَلْقِه". فهنا يُقِرُّ العبدُ بلسانِه وقلبِه بأنَّ الله -تعالى- هو ربُّه وخالِقُه, المُدبِّرُ لأمره, يفعَلُ فيه ما يشاء, حسبما تقتضيه حِكمتُه -تبارك وتعالى-.
2- "وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ"؛ أي: أنا على ما عاهدتك عليه, وواعدتك؛ من الإيمان, وإخلاصِ الطاعة لكَ ما استطعتُ. فالعهد: هو الذي أخذه الله على عباده في أصل خلقهم, حين أخرجهم من أصلاب آبائهم أمثال الذّرّ، وأشهَدَهم على أنفسهم: (أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى)[الأعراف:172]. فأقرُّوا له في أصل خلقِهم بالرُّبوبية، وأذعنوا له بالوحدانية. والوعد: هو ما وعَدَهم -تبارك وتعالى- أنه مَنْ ماتَ لا يُشْرِكُ منهم بالله شيئاً, وأدَّى ما افْتَرَضَ اللهُ عليه أنْ يَدخل الجنةَ. فينبغي لكلِّ مؤمنٍ أنْ يدعو اللهَ -تعالى- أنْ يُمِيتَه على ذلك العَهْد، وأنْ يتوفَّاه الله على الإيمان.
عباد الله: لا أحدَ يقدر على الإتيانِ بجميع ما للهِ -تعالى-, ولا الوفاءِ بجميع الطاعات, ولا شُكر النِّعم؛ لأنَّ النِّعَمَ كثيرةٌ, ولا يُحاط بها, قال -تعالى-: (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً)[لقمان: 20]؛ فمَنْ يقدر أنْ يُؤدِّى شُكْرَ النِّعم الظاهرة، فكيف الباطنة؟ لكنَّ اللهَ -تعالى- رَفَقَ بعباده فلم يُكلِّفْهم إلاَّ وُسْعَهم, وتَجَاوزَ عمَّا فوق ذلك, وكان النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَمْتَثِل هذا المعنى في مُبايعته للمؤمنين, فيُبايعهم على "السَّمع والطَّاعة" فيما استطاعوا.
3- "أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ"، وهنا يتعوّذ العبدُ بالله -تعالى- من شر ما صَنَع؛ لأنَّ الإنسان يَصْنَع خيراً فيُثاب, ويَصْنَع شراً فيُعاقب, ويصنع الشرَّ فيكون سبباً لِضَلالِه؛ كما قال -تعالى-: (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ)[المائدة: 49]؛ فالمرء يتعوذ بالله -تعالى- من شَرِّ ما صنعه من الإثمِ, والعذابِ, والبلاءِ المُترتِّب على ذلك.
4- "أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ"؛ أي: أُقِرُّ وأَعترِفُ بنعمتك العظيمة التي لا تُحْصَر, ولا تُحْصَى. "وَأَبُوءُ بِذَنْبِي فاغْفِرْ لِي، فَإِنَّهُ لاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ"؛ أي: أُقِرُّ وأعترفُ بذنبي, فمنك النِّعمةُ والإحسانُ والفَضْل, ومني الذَّنبُ والإساءةُ, فاغفر لي هذا الذنب, إنك أنت الغفور الرحيم. قال الطِّيبي -رحمه الله-: "اعْتَرَفَ أولاً بأنه -تعالى- أنعمَ عليه, ولم يُقيِّدْه لِيَشمَلَ جميعَ أنواعِ النِّعم, ثم اعْتَرَفَ بالتَّقصير, وأنه لم يَقُمْ بأداء شُكرِها, ثم بالَغَ فعَدَّه ذنباً؛ مُبالغةً في هَضْمِ النَّفس, تَعلِيماً لِلأُمَّة". وقال ابن تيمية -رحمه الله-: "وأفضلُ أنواعِ الاستغفار: أنْ يبدأ العبدُ بالثناء على ربه, ثم يُثنِّي بالاعتراف بذنبه, ثم يَسأل اللهَ -تعالى- المغفرةَ".
5- "مَنْ قَالَهَا مِنَ النَّهَارِ مُوقِنًا بِهَا, فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ قَبْلَ أَنْ يُمْسِيَِ؛ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَمَنْ قَالَهَا مِنَ اللَّيْلِ وَهْوَ مُوقِنٌ بِهَا، فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ؛ فَهْوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ"؛ فمَنْ قال هذا الدعاءَ المأثور مُخلِصاً من قلبه, مُصدِّقاً به, وبثوابِه, فمات في يومه ذلك قبل أنْ يدخل في المساء, أو مات في ليلته قبل أنْ يدخل في الصَّباح؛ فهو من أهل الجنة.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وكفى, وصلاةٌ وسلامٌ على عباده الذين اصطفى.
وبعد: ينبغي للمُسلم أن يحرص على حِفْظِ هذا الدعاء؛ لأنه أشرف أنواع الاستغفار وأفضله, وأعظمه نفعاً, ويعلّمه أولاده, ويحافظ عليه صباحاً ومساءً, فإنْ ماتَ من ليلته أو يومه فهو من أهل الجنة, (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ)[آل عمران: 185]. (وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 71].
عباد الله: فهذا دعاءٌ عظيم, وذِكْرٌ جليل, نال السِّيادةَ في الاستغفار؛ بَدأَ فيه بالثناء على الله -سبحانه-, ثم اعترفَ وأقَرَّ بتوحيد الربوبية, وتوحيد الألوهية, ثم اعترفَ بالعبودية الخالِصة له -سبحانه-, وأنه مُقِيمٌ على الوعد, ثابِتٌ على العهد؛ من الإيمان به, وبكتابه, وسائر أنبيائه ورسله.
ثم استدركَ على نفسِه: بأنه مُقِيمٌ على ذلك بحسب طاقته واستطاعته؛ لأنه أعجز وأقل وأضعف من تأديةِ الربوبية حقَّها, والقيامِ على العهد والوعد من غير انحرافٍ ما, ثم استعاذَ به -سبحانه- من كلِّ ما صَنَعَ من التَّقصير في القيام بما يجب عليه مِن شُكر الإنعام, ومِن ارتكاب الآثام, ثم أقَرَّ واعترفَ بترادف نِعمته عليه, ويما يُصيبه من الذنوب والمعاصي, ثم سأله –سبحانه- المغفرةَ من ذلك كلِّه؛ مُعترفاً بأنه لا يغفر الذنوبَ سواه -سبحانه وتعالى-.
ففي ضِمْنِ ذلك ما هو ثناءٌ على الله -تعالى- وتعالى بجميل أوصافه وآلائه؛ من عدم مُعاجلته بالعقوبة, ومن إيصالِه الرزق إليه, وحِفْظه من المصائب والبلايا, ومن شياطين الإنس والجن, فاستحقَّ هذا الدعاءُ أنْ يكون سَيِّداً للاستغفار.
وصلوا وسلموا....