البصير
(البصير): اسمٌ من أسماء الله الحسنى، يدل على إثباتِ صفة...
العربية
المؤلف | د عبدالحميد بن سعد السعودي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | أركان الإيمان |
فاتقوا الله -عبادَ اللهِ- واستشعِروا بقلوبكم وجودَ الملائكة معكم، وآمِنوا برقابتهم لأعمالكم وأقوالكم، وشهادتهم على كل ما يصدر منكم، فإن في ذ لك مدعاة لطاعتكم لربكم، وبُعدكم عن معصية في السر أو في العلن...
الخطبة الأولى:
الحمد لله، ربِّ السماوات السبع وربِّ العرش العظيم، خالِق الإنس والجن وكل مَلَك كريم، أحمده -سبحانه وتعالى- وأشكره أن شمَلَنا بعنايته، وكلَّف بالحفظ والهداية طوائفَ من ملائكته، وشمل الجميعَ بواسع رحمته، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه، صلى الله وسلم وبارَك عليه، وعلى آله وأصحابه، والتابعينَ، ومن تَبِعَهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعدُ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].
أيها الإخوة في الله: الإيمان شجرة زكيَّة، يجد الإنسان في وارف ظلها السعادة والأمن والرشاد وراحة الضمير، فنعمةُ الإيمان لا تعادلها نعمةٌ، به تطمئنُّ القلوب، وبه تُفتَح أبواب الأمل والرجاء.
والإيمان له أركان ينبني عليها، ودعائم يقوم عليها، وقواعد يرتكز عليها، وأُسُس يعتمد عليها، أوضحَها نبيُّنا محمد -صلى الله عليه وسلم- لَمَّا سألَه جبريلُ -عليه السلام- عن الإيمان، قال: "أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخِر، وتؤمن بالقَدَر خيرِه وشرِّه".
وحقيقة الإيمان: هو التصديق التامُّ بما أخبرت به الرسل المتضمن لانقياد الجوارح، ولتعلموا أن ليس الشأن في الإيمان بالأشياء المشاهدة بالحس، فإنه لا يتميز بها المسلم من الكافر، إنما الشأن في الإيمان بالغيب الذي لم نره ولم نشاهده، وإنما نؤمن به لخبر الله وخبر رسوله.
ألا وإن من الإيمان بالغيب الإيمان بالملائكة، المتضمن الإيمان بوجودهم وأوصافهم وأعمالهم وأحوالهم.
الملائكة: عالَم نورانيّ لطيف، غيبي غير محسوس، خلقهم الله من نور، ليسوا كالبشر، فهم لا يأكلون ولا يشربون، ولا ينامون ولا يتزاوجون، مطهَّرون عن الشهوات، منزَّهون عن الآثام والخطيئات، خَلْقُهم عظيم، قد جعل الله لهم أجنحة متفاوتين أعدادها، منهم مَنْ له جناحانِ، ومنهم مَنْ له ثلاثة، ومنهم مَنْ له أربعة، ومنهم مَنْ له أكثر من ذلك: (الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)[فاطر: 1].
خلقهم الله على صور جميلة كريمة، كما قال تعالى في حق جبريل -عليه السلام-: (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى)[النجم: 5، 6] أي: ذو منظر حسَن.
وصفُ الملائكة بالجَمال، ووصفُ الشياطين بالقبح، متقرِّرٌ في نفوس الناس، لقد قالت النسوة في حق يوسف -عليه السلام-: (فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ)[يوسف: 31].
الملائكة ليسوا كالبشر، فلا يُوصَفُون بذكورة ولا أنوثة، فلقد نعى الله على الكافرين الذين كانوا يزعمون أن الملائكة إناثًا، فقال عز وجل: (وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ)[الزخرف: 19].
الملائكة يعبدون الله، بلا ضَعْف ولا ملل، ولا سآمة ولا كلل، يسبِّحون الليلَ والنهارَ ولا يفترون، (يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ)[فصلت: 38].
السماءُ مسكنُهم، وينزلون إلى الأرض بأمر ربهم؛ لتنفيذ مهمَّات أُنيطت بهم، وللقيام بأعمال وُكِلت إليهم (وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ)[مريم: 64].
يكثر نزولهم في المناسَبات الخاصة، كليلة القَدْر (وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ)[الْقَدْرِ: 2-4].
الملائكة خلقٌ كثيرٌ، لا يعلم عددَهم إلا الذي خلقَهم، (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ)[المدثر: 31].
وإذا أردت أن تعلم كثرتهم فاسمع ما قاله نبيُّنا محمدٌ -صلى الله عليه وسلم- عن البيت المعمور الذي في السماء السابعة، قال: "فإذا هو يدخله في كل يوم سبعون ألف مَلَك، لا يعودون إليه آخِرَ ما عليهم"، واسمع ما قاله الحبيب محمد -صلى الله عليه وسلم- في وصف جهنم -أعاذنا اللهُ وإيَّاكم منها بمنِّه وكرمه- قال: "يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف مَلَك"؛ فيصير عددُ الذين يأتون بجهنم من الملائكة أربعة آلاف وتسعمائة مليون مَلَك.
هذا الخلق الكثير جاءت أسماء بعضهم في الكتاب والسنة؛ فجبريل هو الموكَّل بالوحي، الذي به حياة القلوب والأرواح، وميكائيل هو الموكَّل بالقَطْر الذي به حياة الأرض والنبات والحيوان، وإسرافيل هو الموكَّل بالنفخ في الصور الذي به حياة الخَلْق بعد مماتهم، ومالِك هو خازن النار، وخازن الجنة مَلَك يقال له رضوانُ، كما جاء مصرَّحًا به في بعض الأحاديث، ومنكَر ونكير موكَّلان بسؤال الميت إذا وُضِعَ في قبره، فيسألانه عن ربه ودِينه ونبيِّه.
أيها الإخوة في الله: وصَف اللهُ الملائكةَ بأنهم كرام بررة، فخلقُهم كريمٌ، حسنٌ شريفٌ، وأخلاقُهم وأفعالُهم بارَّة طاهرة كاملة، فهنيئًا لمن يرافقهم، والذي يقرأ القرآن وهو ماهر به مع السفرة الكرام البررة.
أعطى اللهُ الملائكةَ القدرةَ على التشكُّل، فقد أرسَل الله جبريل إلى مريم في صورة بشر، وإبراهيم -عليه السلام- جاءته الملائكةُ في صورة بشر، ولم يعرف أنهم ملائكة، حتى كشفوا له عن حقيقة أمرهم، ولوط -عليه السلام- جاءته الملائكة في صورة شباب حِسَان الوجوه؛ فضاق لوط بهم، وخشي عليهم من قومه، فقد كانوا قوم سوء يأتون الذكران من العالَمين، ونبيُّنا محمد -صلى الله عليه وسلم- أتاه جبريل في صفات متعدِّدة.
أيها الإخوة في الله: الملائكة منظَّمون في كل شؤونهم؛ منظَّمون في عبادتهم؛ ولذا حثَّنا رسولُنا محمد -صلى الله عليه وسلم- أن نقتدي بهم، فقال عليه الصلاة والسلام: "ألا تصفُّون كما تصفُّ الملائكة عند ربها"، قالوا: وكيف يصفُّون عند ربهم؟ قال: "يُكمِلون الصفَّ الأولَ فالأولَ، ويتراصُّون في الصفِّ"، وقد فُضِّلت هذه الأمة المحمدية على بقية الأمم، فجعلت صفوفنا كصفوف الملائكة.
وفي يوم القيامة يأتي الملائكة في صفوف منتظِمة، (وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا)[الفجر: 22]، ويقفون صفوفًا بين يدي ربهم -عز وجل-: (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا)[النبأ: 38].
الملائكة مطبوعون على طاعة الله، ليس لديهم القدرة على العصيان (لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)[التحريم: 6]، الملائكة عباد مُكرَمون، متَّصفون بكل صفات العبودية، قائمون بالخدمة، منفِّذون للتعاليم، لا يتجاوزون الأوامر، ولا يخالفون التعليماتِ، خائفون وَجِلون، لا يتقدمون بين يدي ربهم، ولا يعترضون على أمر من أوامره، بل هم عاملون بأمره، مسارِعون مجيبون، لا يسبقونه بالقول، فهم بأمره يعملون، يذكرون الله -تعالى- في جميع أوقاتهم، وأعظم ذكرهم التسبيح؛ (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ)[غافر: 7]، تسبيحهم دائم لا ينقطع، لا في الليل ولا في النهار (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ)[الأنبياء: 20]، معرفتهم لربهم كبيرة، فكانت خشيتهم له عظيمة.
أيها الإخوة في الله: علاقة الملائكة بآدم وذريته علاقة وثيقة، أمَر الله ملائكته بالسجود لآدم حين يتم خلقه وتنفخ فيه الروح (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ)[ص: 72: 74]، ولَمَّا توفي آدم -عليه السلام- غسَّلته الملائكة بالماء وترًا، وألحَدوا له، وقالوا: هذه سُنَّة آدمَ في ولده.
أمَّا ذرية آدمَ فالملائكة يقومون عليهم عند خلقهم، ويكلَّفون بحفظهم بعد خروجهم إلى الحياة، ويراقِبون أعمالَهم وتصرفاتِهم (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ)[الانفطار: 10-12]، (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)[ق: 16-18].
وإذا انتهت آجالُ بني آدم نزَعت الملائكةُ أرواحَهم، تنزع أرواح الكفرة المجرمين نزعًا شديدًا عنيفًا، بلا رفق ولا هوادة (وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ)[الأنفال: 50].
أما المؤمنون فتنزع أرواحهم نزعًا رفيقًا، تبشرهم الملائكة وتثبتهم (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ)[فصلت: 30: 32].
اللهم أحينا مسلمين، وتوفنا مؤمنين، وألحقنا بالصالحين، غير خزايا ولا نداما يا رب العالمين. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمدا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أيها الإخوة في الله: كل إنسان من البشر موكَّل به قرينان؛ قرين من الملائكة، وقرين من الجن، هذا يحثُّه على الخير ويرغِّبه فيه، وقرين الإنسان من الجن يأمره بالشر ويرغِّبه فيه.
الملائكة يصلُّون على معلِّم الناس الخير، ومن أتى المسجد للصلاة فإن الملائكة تدعو له، تقول: اللهم صلِّ عليه، اللهم ارحمه، ما لم يؤذِ فيه أو يُحدِث، والله وملائكته يصلُّون على الصف الأول.
ومن عاد مريضًا استغفرَتْ له الملائكةُ، والملائكة يؤمِّنون على دعاء بني آدم، والدعاء المؤمَّن عليه حريٌّ بالإجابة.
مجالس العلم، وحِلَق الذكر تحفُّها الملائكة بأجنحتها إلى السماء الدنيا، يتعاقب فينا ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، يجتمعون في صلاة الفجر، وفي صلاة العصر، ثم إذا عرجوا إلى ربهم سألهم وهو أعلم بهم، كيف تركتم عبادي؟ قالوا: تركناهم وهم يصلون، وآتيناهم وهو يصلون.
أعظمُ ما يؤذي الملائكةَ الذنوبُ والمعاصي، فلا تدخل الملائكة بيتًا فيه صورة أو كلب، وإذا دعا الرجل امرأتَه إلى فِراشه فأبَت فبات عضبان لعنَتْها الملائكةُ حتى تصبح، ومن أشار إلى أخيه بحديدة فإن الملائكة تلعنه، وإن كان أخاه لأبيه وأمه، ومَنْ سَبَّ أصحابَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، ومَنْ حال دون تنفيذ شرع الله، أو أحدَث في دين الله، فخرج عن أحكامه، أو اعتدى على تشريعه، أو آوى مَنْ فعَل ذلك، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.
فاتقوا الله -عبادَ اللهِ- واستشعِروا بقلوبكم وجودَ الملائكة معكم، وآمِنوا برقابتهم لأعمالكم وأقوالكم، وشهادتهم على كل ما يصدر منكم، فإن في ذ لك مدعاة لطاعتكم لربكم، وبُعدكم عن معصية في السر أو في العلن، فكل شيء محسوب ومكتوب، وكل قول أو عمل مسجَّل محفوظ.
هذا وصلوا وسلموا على عبد الله ورسوله.