الحكم
كلمة (الحَكَم) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فَعَل) كـ (بَطَل) وهي من...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | أركان الإيمان - التوحيد |
والغافر -سبحانه- هو الستير لذنوب عباده، والمسدل عليهم ثوب عطفه ورحمته، ومعنى الستر في هذا أنه لا يكشف أمر العبد لخلقه، ولا يهتك ستره بالعقوبة التي تُشْهِرُهُ في عيونهم في الدنيا، أما في الآخرة وفي عرصات القيامة فإن للمغفرة والرحمة شأنًا آخر أجل وأعظم...
الخطبة الأولى:
الحمد لله العزيز الوهاب، الغفور التواب، غافر الذنب، وقابل التوب شديد العقاب، ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، إمام الأنبياء وسيد الحنفاء، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
عباد الله: اتقوا الله حق تقاته، وعظّموه حق تعظيمه، واخشوا يومًا لا يجزي والد عن ولده، ولا مولود هو جازٍ عن والده شيئًا، إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور.
أيها الناس: اتقوا ربكم، واحذروا غضبه وعقابه، وإن الإنسان لتأخذه الدهشة وتتملكه الحيرة، من إحسان الله إلينا، وكرمه علينا، وجوده وفضله وتوالي نعمه، فلماذا بعد كل هذا الإحسان فسدت أحوالنا، وكثرت ذنوبنا، وقست قلوبنا، وضعفت نفوسنا؟!.
يا أيها الإنسان، يا من خلقه ربه وصوّره، يا أيها الإنسان، يا من تعدى حدود الله، وانتهك حرمات الله، وأكل نعم الله، واستظل بسماء الله، ووطأ أرض الله, يا أيها الإنسان: إنك سوف تُعرض على الله, ويل لك -أيها الإنسان- أمَا فكرت في القدوم على الله؟! يا أيها الإنسان: ما غرَّك بربك الكريم، ما الذي خدعك حتى عصيت الله؟! ما الذي غرك حتى تجاوزت حدود الله؟ ما الذي أذهلك حتى انتهكت حرمات الله؟.
اعلموا -عباد الله- أن ربكم واسع المغفرة، وسعت رحمته كل شيء، ومغفرته أعظم من كل ذنب، قال تعالى: (إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ) [النجم : 32]، وقال اللَّه تعالى في الحديث القدسي: "يا ابن آدم؛ إنك ما دعوتني ورجوتني غفرتُ لك على ما كان منك ولا أُبالي، يا ابن آدم؛ لو بلغت ذنوبُك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك، يا ابن آدم؛ إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا لأتيتك بقرابها مغفرة" [الترمذي 3540 وصححه الألباني].
وثقوا -أيها الإخوة- أن اللَّه يغفر الذنوب جميعًا لمن شاء، فمهما عظُمت ذنوب العبد، فإن مغفرة الله ورحمته أعظم منها، بل ومن كل شيء، فلا يقنط من رحمة الله، ولا ييأس من عفوه ومغفرته أحدٌ أبدًا، قال تعالى: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [الزمر: 53].
وتأمل معي -أيها الأخ الفاضل- ما قاله ابن عباس -رضي الله عنهما-، قال: "دعا الله إلى مغفرته من زعم أن المسيح هو الله! ومن زعم أن المسيح هو ابن الله! ومن زعم أن عزيرًا ابن الله! ومن زعم أن الله فقير! ومن زعم أن يد الله مغلولة! ومن زعم أن الله ثالث ثلاثة! يقول الله تعالى لهؤلاء: (أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [المائدة : 74]. ثم دعا إلى التوبة من هو أعظم قولاً من هؤلاء. من قال: (أَنَا رَبُّكُمْ الْأَعْلَى)، ومن قال: (مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي)". فسبحان الغفور.
واعلموا -إخوتاه- أن الغفور يستر على عبده، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله -عز وجل- حَييُّ ستيرٌ يحب الحياءَ والستر" [أبو داود 4014 وصححه الألباني]، وقد تكفل -سبحانه- بأنه إذا سَتَر مؤمنًا في الدنيا، فكذلك سوف يستره يوم القيامة. فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يستر اللهُ على عبد في الدنيا، إلا ستره الله يوم القيامة" [مسلم 2590]. بل ويستر سبحانه من ستر المسلمين، فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- : ".. ومن ستر مسلمًا ستره اللهُ يوم القيامة" [متفق عليه].
وثقوا -إخواني- أن اللهَ يحب التوابين، فإن الله -عز وجل- يحب التوبة أكثر من حب التائب لها، ويحب المغفرة أكثر من حب الناس أن يُغفر لهم، وإن الله -لكرمه ورحمته- يفرح بالتائبين، ويحبهم، ففي صحيح الإمام مسلم يرسم لنا الرسول -صلى الله عليه وسلم- صورة رائعة ليبين لنا مدى فرح الله وحبه لأن يغفر لعباده، وهذه الصورة من الفرح في هذا الحديث هي من أعظم ما يفرحه الإنسان في هذه الحياة، فيقول: "الله أشد فرحًا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة، فانفلتت منه، وعليها طعامه وشرابه، فأيس منها، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها، وقد أيس من راحلته، فبينما هو كذلك، إذ هو بها قائمة عنده بخطامها، ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح" [مسلم 2747]، اللهم ارزقنا توبة ترضيك عنا.
يا عباد الله: أثنى الله -تبارك وتعالى- على ذاته العلية، فوصف نفسه بأنه الغفور والغفار، قال تعالى: (نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [الحجر: 49]، وقال -جل وعلا-: (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [يونس: 107]، وقال -سبحانه-: (وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ)، وقال -جل شأنه-: (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [البقرة: 199]، وقال -جل وعلا-: (وَاسْتَغْفِرِ اللهَ إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا) [النساء: 106].
ووصف الله ذاته العلية بالوصف الذي يدل عليه اسم الغفور كما في قوله تعالى: (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ) [الرعد:6]، وقال -جل وعلا-: (مَا يُقَالُ لَكَ إِلا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ) [فصلت: 43]. وأكد ربنا -سبحانه- أن مغفرته لعباده تتعلق بمشيئته وحده، فقال تعالى: (وَلِلهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا) [الفتح:14].
وقد وصف نبينا محمدٌ -صلى الله عليه وسلم- ربه، وهو أعرف الخلق به، وأثنى عليه بأجل أوصاف الكمال والجلال، ومن تلك النعوت والأسماء الحسنى اسم الله الغفور، فمن ذلك ما ثبت عن عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رضي الله عنهما- أن أبا بَكْرٍ الصِّدِّيقِ -رضي الله عنه- قَالَ لِلنَّبِي -صلى الله عليه وسلم-: عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلاَتِي. قَالَ: "قُلِ: اللهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا، وَلاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ، فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ، وَارْحَمْنِي، إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ" [البخاري 834].
وعن مِحْجَن بْن الأَدْرَعِ -رضي الله عنه- أنه قَالَ: دَخَلَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- الْمَسْجِدَ، فَإِذَا هُوَ بِرَجُلٍ قَدْ قَضَى صَلاَتَهُ، وَهُوَ يَتَشَهَّدُ، وَهُوَ يَقُولُ: اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ يَا اللهُ الأَحَدُ الصَّمَدُ، الذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ، أَنْ تَغْفِرَ لِي ذُنُوبِي؛ إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. قَالَ: فَقَالَ: "قَدْ غُفِرَ لَهُ، قَدْ غُفِرَ لَهُ ثَلاَثًا". [أبو داود 985 وصححه الألباني]. وعن وَاثِلَةَ بْنِ الأَسْقَعِ -رضي الله عنه- قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: "اللهُمَّ إِنَّ فُلاَنَ بْنَ فُلاَنٍ فِي ذِمَّتِكَ، وَحَبْلِ جِوَارِكَ، فَقِهِ مِنْ فِتْنَةِ الْقَبْرِ، وَعَذَابِ النَّارِ، وَأَنْتَ أَهْلُ الْوَفَاءِ وَالْحَمْدِ، اللهُمَّ فَاغْفِرْ لَهُ وَارْحَمْهُ، إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ". [أبو داود 3202 وصححه الألباني].
أيها المسلمون: والغَفُور لغةً هو الساتر المتجاوز عن الأخطاء. والغفور -سبحانه- هو الذي يستر العيوب، ويغفر الذنوب مهما كان مقدارها، ومهما تعاظمت النفس، وتمادت في جرمها وعصيانها، فهو -سبحانه- يغفر الكبائر والصغائر جميعها، فلو أراد العبد الرجوع إلى الرب، فإن باب المغفرة مفتوح في كل وقت ما لم تغرر النفس، أو تطلع الشمس من مغربها. فباب التوبة مفتوح ما لم تصل الروح إلى الحلقوم، فعن ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر" [مسند أحمد 6160 وحسنه الألباني].
والغافر -سبحانه- هو الستير لذنوب عباده، والمسدل عليهم ثوب عطفه ورحمته، ومعنى الستر في هذا أنه لا يكشف أمر العبد لخلقه، ولا يهتك ستره بالعقوبة التي تُشْهِرُهُ في عيونهم في الدنيا، أما في الآخرة وفي عرصات القيامة فإن للمغفرة والرحمة شأنًا آخر أجل وأعظم، فعن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِنَّ اللهَ يُدْنِي الْمُؤْمِنَ فَيَضَعُ عَلَيْهِ كَنَفَهُ، وَيَسْتُرُهُ، فَيَقُولُ: أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، أَيْ رَبِّ، حَتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ، وَرَأَى فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ هَلَكَ، قَالَ: سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ، فَيُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُونَ فَيَقُولُ الأَشْهَادُ: هَؤُلاَءِ الذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ، أَلاَ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ" [متفق عليه].
الغفّار -سبحانه- هو الذي لم يزل ولا يزال بالعفو معروفًا، وبالغفران والصفح عن عباده موصوفًا، كل أحدٍ مضطر إلى عفوه ومغفرته وإلى رحمته وكرَمه، وقد وَعَدَ بالمغفرة والعفو لمن أتى بأسبابها، قال تعالى: (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى) [طه : 82].
أيها المسلمون: إن اسم الله الغفور يحمل دعوة للاستغفار من كبائر الذنوب وصغارها، وما يدور من الخواطر في القلوب والنفوس، قال تعالى: (وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) [يوسف: 53]. وعن أَبي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "وَاللهِ إِنِّي لأَسْتَغْفِرُ اللهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ فِي الْيَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً" [البخاري 6307]. وعن الأَغَرِّ الْمُزَنِيِّ -رضي الله عنه- وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي، وَإِنِّي لأَسْتَغْفِرُ اللهَ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ" [مسلم 2702].
ويستشعر العباد أن اسم الله الغفور يناسب كثرة خطايا الخلق وتكرارها، واسمه الغفار يناسب عظيم الإجرام وكثرة الآثام، وكلا النوعين من الذنوب واقع من الخلق، فسبحان الله الذي يعامل خلقه بما يناسبهم من أسمائه وصفاته، فالغفور يغفر الذنوب مهما عظمت، غفّار للكم والكثرة، وغفور للذنوب الثقال، وهما أبلغ في الدلالة على غفران الذنب من اسم الغافر، ولذلك ورد اسم الله الغفور في القرآن أكثر بكثير من اسم الله الغفار.
واعلموا -عباد الله- أن ربنا -جل وعلا- لم يكتفِ بأنه غفور لعباده فقط، بل ضم إلى المغفرة صفة الود، سبحانه من إله رحيم ودود، وهناك سر في اقتران هذين الاسمين في قوله تعالى: (إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ * وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ) [البروج: 13 - 14]، وهو أن العبد الذي بينه وبين الله محبة وود لو أذنب ثم تاب واستغفر نادمًا صادقًا، فإن الله يقبل توبته، ويعيد محبته، ويرجع الود أعظم مما كان، قال ابن القيم: "وهذا بخلاف ما يظنه من نقصت معرفته بربه من أنه -سبحانه- إذا غفر لعبده ذنبه، فإنه لا يعود الود الذي كان له منه قبل الجناية، واحتجوا في ذلك بأثر إسرائيلي مكذوب أن الله قال لداود: "يا داود، أما الذنب فقد غفرناه، وأما الود فلا يعود"، وهذا كذب قطعًا؛ فإن الود يعود بعد التوبة النصوح أعظم مما كان، فإنه -سبحانه- يحب التوابين، ولو لم يعد الود لما حصلت له محبته" [طريق الهجرتين ص 233].
أيها المسلمون: إن كل من عرف مغفرة الله لعباده على ظلمهم، وعظيم عفوه عنهم مع إساءتهم، فقد عرف جانبًا عظيمًا من صفات اللَّه -جل جلاله-، فيحب ربه -تبارك وتعالى- من صميم قلبه؛ وذلك لأنه لا يغفر الذنوب إلا الله، قال تعالى: (وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ) [آل عمران : 135] . قال ابن كثير : "أي لا يغفر أحدٌ سواه". وعن الأسود بن سريع أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أُتي بأسيرٍ، فقال: اللهم إني أتوب إليك ولا أتوب إلى محمد. فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "عرف الحق لأهله" [مسند أحمد 15625، والحاكم وصححه، وضعفه الألباني].
وكثيرًا ما حثنا نبينا -صلى الله عليه وسلم- على الاستغفار، فأرشدنا كما في حديث سيد الاستغفار ضمن أدعية الصباح والمساء، أن نعترف بالذنب ونذل لربنا الغفور، فعلمنا أن نقول: "وأبوءُ بذنبي فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت" [البخاري 6306].
ولا تيأسوا -عباد الله- من مغفرة الله لكم، ولا تقنطوا من رحمته -سبحانه-، واعلموا -عباد الله- أن الله لا يحب من قنَّط الناس من رحمته، قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "من آيس عبادَ الله من التوبة، فقد جحد كتاب الله -عز وجل-". [تفسير ابن كثير (4/58)]. وعن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: "إن أكثر آية في القرآن فرحًا في سورة الغرف: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ)" [تفسير ابن كثير (4/58)].
ومهما تعاظم الذنب، فإن الله يغفره لمن تاب، حتى الشرك يغفره الله لمن تاب وأناب، فما أعظم ربنا! وما أكرم إلهنا! وما أحنَّه على خلقه! وهو غني عنهم، وما أحبّه لِتوبتهم وهم لا يضرونه شيئًا ولا ينفعونه!! نسأل الله عفوه وفضله ومغفرته.
وانظر إلى خطأ من آيس الناس من مغفرة الله لهم، فعن جندب -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن رجلاً قال: واللهِ لا يغفر اللهُ لفلان. قال اللهُ: من ذا الذي يتألَّى عليَّ أن لا أغفر لفلان، فإني قد غفرتُ لفلان وأحبطت عملك" [مسلم 2621].
اللهم اعصمنا عن الزلل، ووفقنا لصواب القول والعمل، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، إنك أنت الغفور الرحيم، نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه وتوبوا إليه.
الخطبة الثانية:
الحمد لله العزيز الغفار، وأشهد أن لا إله إلا الله الواحد القهار، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله المصطفى المختار، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه الأخيار، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
عباد الله: اتقوا ربكم واعبدوه واشكروا له، واستغفروه لما سلف من الأعمار والأعمال، واعلموا أنه غفور رحيم، فاستغفروه يغفر لكم، واستنصروه ينصركم، وادعوه يعطكم، ولا ينبغي للعبد الموفق أن يغفل عن سؤال ربه، ودعائه باسمه تعالى الغفور –سبحانه-، فعن أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- أنه قال لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: علمني دعاءً أدعو به في صلاتي، قال: "قُلِ: اللهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا، وَلاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ، فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ، وَارْحَمْنِي، إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ" [البخاري 834].
واعلموا -عباد الله- أن العبد المؤمن يسارع إلى التوبة بعد الذنب، والعفو الصفح عن الخلق، قال الله تعالى: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) [آل عمران : 133]، وقال ربنا الغفور -سبحانه وتعالى- في الحديث القدسي: "من تقرب إليَّ شبرًا تقربت إليه ذراعًا، ومن تقرب إليَّ ذراعًا تقربت إليه باعًا، وإذا أقبل إليَّ يمشي أقبلت إليه أهرول" [متفق عليه].
أيها المؤمنون: إن توحيد الله في اسمه الغفور يقتضي كثرة الاستغفار، الذي يحتاط به العبد من التفكير في الذنب قبل وقوعه، ويقضي به على خواطر النفس وهواها، ويلجمها عن طغيانها، وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يحتاط لنفسه، ويكثر من الاستغفار في اليوم أكثر من سبعين مرة، مع أنه -صلى الله عليه وسلم- قد غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وذلك ليعلّم أمته كثرة الاستغفار، فعن الأَغَرِّ الْمُزَنِيِّ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي، وَإِنِّي لأَسْتَغْفِرُ اللهَ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ) [مسلم 2702].
وعلى العبد أن يبادر بالتوبة إذا غلبته نفسه على العصيان، أو استجاب في غفلة النسيان للشيطان، فمهما بلغ الذنب فإن للغفور باب مغفرة لا يُغلق حتى تغرغر النفس، أو تطلع الشمس من مغربها قال تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [آل عمران:135].وعن أبي موسى -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِنَّ اللَّهَ -عز وجل- يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا" [متفق عليه].
وحتى لو تمادى الإنسان في الجرم والعصيان، فقتل مائة نفس، وأراد التوبة والغفران؛ تاب الله عليه، وجعله من أهل الإيمان، فعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "كَانَ في بني إِسْرَائِيلَ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ إِنْسَانًا، ثُمَّ خَرَجَ يَسْأَلُ، فَأَتَى رَاهِبًا فَسَأَلَهُ، فَقَالَ لَهُ: هَلْ مِنْ تَوْبَةٍ؟ قَالَ: لاَ، فَقَتَلَهُ فَكَمَّلَ بِهِ مِائَةً، ثُمَّ سَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الأَرْضِ، فَدُلَّ عَلَى رَجُلٍ عَالِمٍ، فَقَالَ: إِنَّهُ قَتَلَ مِائَةَ نَفْسٍ، فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، وَمَنْ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ؟ انْطَلِقْ إِلَى أَرْضِ كَذَا وَكَذَا، فَإِنَّ بِهَا أُنَاسًا يَعْبُدُونَ اللَّهَ، فَاعْبُدِ اللَّهَ مَعَهُمْ، وَلاَ تَرْجِعْ إِلَى أَرْضِكَ، فَإِنَّهَا أَرْضُ سَوْءٍ... فَأَدْرَكَهُ الْمَوْتُ، فَنَاءَ بِصَدْرِهِ نَحْوَهَا فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلاَئِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلاَئِكَةُ الْعَذَابِ، فَأَوْحَى اللهُ إِلَى هَذِهِ أَنْ تَقَرَّبِي، وَأَوْحَى اللهُ إِلَى هَذِهِ أَنْ تباعدي، وَقَالَ : قِيسُوا مَا بَيْنَهُمَا، فَوُجِدَ إِلَى هَذِهِ أَقْرَبُ بِشِبْرٍ، فَغُفِرَ لَهُ" [متفق عليه]، فسبحان الغفور التواب لم تاب وأناب.
عباد الله: اغْفِرُوا يُغْفَر لكم، ألا تحبون أن يغفر الله لكم؟ فمن غفر للناس غَفَرَ الله له، ومن تجاوز عنهم تجاوز الله عنه، والجزاء من جنس العمل، عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال وهو على المنبر: "ارحموا تُرْحَمُوا، واغْفِرُوا يغفر اللَّه لكم ..." [مسند أحمد 6541 وصححه الألباني].
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال : قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "كان رجل يُدَاينُ الناس، فكان يقول لفتاه: إذا أَتَيْتَ مُعْسِرًا فتجاوز عنه؛ لعلَّ الله أن يتجاوز عنَّا، فَلَقي اللهَ فتجاوز عنه" [متفق عليه].
وعلى المسلم أن يستر على إخوانه عيوبهم، ويغفر لهم إساءتهم، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) [التغابن: 14].
عبد الله: سارع بالتوبة ولا تقنط ولا تيأس من مغفرة الله ورحمته حتى ولو عدت للذنب، ورجعت إليه مرات عديدة، طالما أنك تستغفر وتتوب، فعن أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أن النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قال فِيمَا يَحْكِي عَنْ رَبِّهِ -عز وجل- أنه قَالَ: "أَذْنَبَ عَبْدٌ ذَنْبًا، فَقَالَ: اللهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي، فَقَالَ -تبارك وتعالى-: أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا، فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ، ثُمَّ عَادَ فَأَذْنَبَ، فَقَالَ: أَي رَبِّ، اغْفِرْ لِي ذَنْبِي، فَقَالَ -تبارك وتعالى-: عَبْدِي أَذْنَبَ ذَنْبًا، فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ. ثُمَّ عَادَ فَأَذْنَبَ، فَقَالَ: أَي رَبِّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي. فَقَالَ -تبارك وتعالى-: أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا، فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ، اعْمَلْ مَا شِئْتَ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكَ". [مسلم 2758]، ومعنى الحديث حتى لا يغتر به مغتر أن العبد الموفق إذا أذنب تاب، وإذا زلت قدمه استغفر، وإذا غفل سارع لرضا مولاه، فمهما عاد للذنب أسرع بالتوبة، فهذا يغفر الله له.
وتدبر -يا عبد الله- دعاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي رواه أَبو مُوسَى الأشعري -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ كَانَ يَدْعُو بِهَذَا الدُّعَاءِ: "رَبِّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي، وَجَهْلِي، وَإِسْرَافِي فِي أَمْرِي كُلِّهِ، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطَئِي وَعَمْدِي، وَجَهْلِي وَهَزْلِي، وَكُلُّ ذَلِكَ عِنْدِي، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ، وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ، وَمَا أَعْلَنْتُ، أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" [متفق عليه]. فحري بنا أن نتأسى بنبينا ونتوسل لربنا أن يغفر لنا، ولا نهمل حتى لا يجتمع الذنب على الذنب.
احرصوا -عباد الله- على محبة الغفور -سبحانه-، واخضعوا لأمره، وانقادوا لشرعه، وأكثروا من الاستغفار.
جنبني الله وإياكم مضلات الفتن، ووقانا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، وأسأل الله أن يسعدنا بتقواه، وأن يجعل خير أيامنا وأسعد لحظاتنا يوم أن نلقاه.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت على الحق أقدامنا، وتوفنا مسلمين، وألحقنا بالصالحين، واغفر لآبائنا وأمهاتنا كما ربونا صغارًا، واغفر لأصحاب الحقوق علينا، إنك أنت الغفور الرحيم.