التواب
التوبةُ هي الرجوع عن الذَّنب، و(التَّوَّاب) اسمٌ من أسماء الله...
العربية
المؤلف | د عبدالحميد بن سعد السعودي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
إنَّ تضييقَ فُرَص الزواج علةُ خرابِ الديارِ.. به يُقتَل العفافُ، وتُوأد الفضيلةُ، وهو طريقُ الفسادِ، وهتكُ حُجُبِ السترِ والصيانةِ، إنها سوءاتٌ وخبائثُ لا تظهر إلا إذا افتُعلت الحواجزُ، وتنوَّعت العوائقُ أمامَ الراغبينَ من البنات والبنين...
الخطبة الأولى:
الحمد لله، أحاط بكل شيء علمًا، وجعَل لكل شيء قدرًا، خلَق من الماء بشرًا فجعله نسبًا وصِهْرًا، أحمده -سبحانه- وأشكره، كرمُه يتوالى، وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أن سيدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، اصطفاه ربُّه واجتباه فكان أشرفَ البرية وأعلاهم ذِكْرًا، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعدُ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء: 1].
أيها الإخوة في الله: اقتضت حكمةُ ربنا -جل وعلا- بقاء النسل البشري، وحفظ النوع الإنساني؛ من أجل إعمار الكون، وإصلاح الأرض، وإقامة الشرع، والقيام بشؤون الحياة، فشَرَع اللهُ بحكمته ما ينظِّم العَلاقةَ بين الجنسين؛ الذكر والأنثى من بني آدم، سَنَّ الزواجَ بأحكامه وآدابه، علاقةً شرعيةً تدعو إليها الفطرةُ السليمةُ، وتنظِّمُها أحكامُ الشرع القويم.
الزواج في الإسلام حرث للنسل، وسكن للنفس، ومتاع للحياة، وطمأنينة للقلب، وإحصان للجوارح، كما أنه نعمة وراحة وسُنَّة، وستر وصيانة وسبب لحصول الذرية.
الزواج سبيل مودة ورحمة بين الرجال والنساء، تزول به الاضطرابات، وترتاح به النفوس، وتطمئنُّ به القلوبُ، بقيامه تنتظم الحياة، ويَحفظ الحياء، وينعم البال، ويستقيم الحال.
بالزواج المشروع يتحقَّقُ العفاف والإحصان، وتُحمى الأعراض وتُغض الأبصار، ويبعد عن الفتن.
بالزواج المشروع يحصل النسل الصالح، والجيل الخيِّر؛ فيتربى في أحضان زوجية شرعية، بين أبوة كادحة، وأمومة حانية، وفي الذرية الصالحة والاستكثار منها في الأمة العز والفخار للدِّين والأسرة والمجتمع؛ (وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ)[الأعراف: 86]، (ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا)[الإسراء: 6].
بالكثرة تقوى الأمة، وتهاب بين الأمم، وتكتفي بذاتها عن غيرها، إذا استعملت طاقاتها فيما وجهها إليها ربها.
في الزواج المشروع امتثال أمر الله ورسوله، وبامتثال أمر الله ورسوله حصول الرحمة والفلَاح في الدنيا والآخرة، وفي الزواج المشروع اتباع سُنن المرسَلين، ومن اتبع سنن المرسَلين في الدنيا حُشِرَ معهم في الآخرة.
في الزواج المشروع تحقيق مباهاة النبي -صلى الله عليه وسلم- بأُمَّتِه يومَ القيامة، فقد قال عليه الصلاة والسلام: "تزوَّجُوا الودودَ الولودَ؛ فإني مكاثِرٌ بكم الأممَ يومَ القيامةِ".
في الزواج المشروع تكوين الأُسَر، وتقريب الناس بعضهم لبعض، فتوجد المودة والصلة بين الأقارب والأصهار، وبين الآل والأرحام.
في الزواج المشروع حصول الأجر والثواب، بالقيام بحقوق الزوجة والأولاد، كما أن النكاح سبب للغنى وكثرة الرزق.
إن نعيم الحياة ومتعتها لا تكون إلا في بيت سعيد، وسعادة البيت لا يحققها إلا دين صحيح، وخُلُق سَمْح، وأدب رفيع، ينضم إلى ذلك صفاء الود، والحفظ المتبادَل بين القرينين في الحضور والغَيبة، بيت سعيد ظاهره الحشمة والمهابة، وباطنه العفاف والصيانة.
أيها الإخوة في الله: لقد رغَّب الإسلام في الزواج بصورة متعددة، فتارةً أنه من سنن المرسَلين؛ فهم القادة الذين يجب علينا أن نقتدي بهم، قال الله -تعالى-: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً)[الرعد: 38]، وقال عليه الصلاة والسلام مُنكِرًا على مَنْ رَغِبَ عن الزواج وغيره من المباحات؛ "لكني أصوم وأُفطِرُ، وأصلِّي وأنام، وأتزوَّج النساءَ، فمَنْ رَغِبَ عن سُنَّتي فليس مني".
وتارة يذكره في معرض الامتنان، قال الله -تعالى-: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً)[الروم: 21]، وقال تعالى: (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ)[النحل: 72].
وتارةً يحرِص على إتاحته للجميع، ويذلِّل عقباتِه، يقول نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-: "إذا جاءكم مَنْ ترضون دِينَه وأمانته فزوِّجوه، إلَّا تفعلوا تكن فتنةٌ في الأرض وفسادٌ كبيرٌ".
وتارةً يأمر به ويبيِّن حكمتَه وفضلَه، يقول نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-: "يا معشر الشباب، مَنِ استطاع منكم الباءةَ فليتزوَّجْ، فإنه أغضُّ للبصر، وأحصنُ للفَرْج، ومَنْ لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاءٌ"، وقال عليه الصلاة والسلام: "إذا تزوَّج العبدُ فقد استكمَل نصفَ الدِّين، فليتقِ اللهَ في النصف الباقي"(حسَّنَه الألبانيُّ).
أيها الإخوة في الله: إذا كانت هذه بعض حِكَم الزواج وأسراره ومنافعه وآثاره فما بال الناس يشكون ويتبرَّمون؟ يشكون من العنوسة وتأخُّر سن الزواج في الفتيان والفتيات.
تتقدم السنون بهم، والعراقيل تزداد أمامهم، والمشكلات تتفاقم في وجوههم، وكأنَّ الطُّرُق قد سُدَّت أمام كثير من الشباب، والحجب قد غلظت أمام جموع الراغبين، حتى ظهر الحال بمظهر يُنذِر بسوء المنقلب.
إنَّ تضييقَ فُرَص الزواج علةُ خرابِ الديارِ.. به يُقتَل العفافُ، وتُوأد الفضيلةُ، وهو طريقُ الفسادِ، وهتكُ حُجُبِ السترِ والصيانةِ، إنها سوءاتٌ وخبائثُ لا تظهر إلا إذا افتُعلت الحواجزُ، وتنوَّعت العوائقُ أمامَ الراغبينَ من البنات والبنين.
إن الناظر في أحوال المجتمعات، والمراقِب لمتغيراتها في هذا العصر؛ يحسُّ بأشياء كثيرة وكبيرة، يدرك أمورًا مخيفة ومهولة.
إن هذه المشكلات وهذه العوائق راجعة إلى خلل في التصوُّر، وزعزعة في الفكر، ولا مبالَغة إذا قلنا: إنها راجعة إلى ضَعْف في العقيدة، وخَلَل في تطبيق الشريعة.
إنه التفكير المشوَّش حول المستقبل، والتخوُّف الذي لا مسوِّغ له، ثم ما يرتبط بهذا التخوف من الاعتماد على الشهادات والتعلق بالوظائف وتأمين فرص العمل، والاشتغال بالترقي في سُلَّم التعليم، حتى يفوت الجميع قطار الزواج، ومشاركة الوالدين في هذا التخوف، وقبول المجتمع له، والرضا عن هذا المسلك يؤكد هذا الخلل في التفكير والانقلاب في الموازين، وتزعزع الثقة بالله، وضعف النظر المتعقل، (إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ)[النور: 32]، (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آَتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا)[الطلاق: 7].
اضطربت المقاييس، وطاشت الموازين.. فالمستقبل مادة، والتخطيط مادة، وشريكة الحياة وزوج المستقبل يقومان بالمادة وشبه المادة، الوظيفة والشهادة، والمرتقَب والوجاهة.. هي السوق الرائجة، يستوي في ذلك الشابُّ وأهلُه، والشابَّةُ وأهلُها إلا مَنْ رَحِمَ ربِّي.
ما يتلقفه الناس والشباب من معلومات وأخلاقيات في المقالات والمسلسلات والصحف والإذاعات بطريق مباشر أو غير مباشر له أثره البيِّن في اختلال النظرة إلى الحياة، هذا الزخم من الثقافات، وهذا الطرح من التصورات قلَب المفاهيمَ، وأفسَدَ الأمزجةَ، وجعل علاقات الناس وروابطها منافع ذاتية ومادية بحتة.
أيها الآباء، أيها المربُّون: إذا انحدر الناس في هذه المقاييس وحكَّموها في علاقاتهم؛ فقد فسَد الزمان، وبطَل دليل العقل، وتعطَّل أمر الشرع، يُعيِّرون بالفقر، ويكلِّفون ما يخرج عن الطَّوْق، (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آَتَاهُ اللَّهُ)[الطلاق: 7].
أيها الإخوة في الله: لقد انبنى على فساد التصور هذا أن ساءت الأفكار، وارتفعت المروءات في كثير من البيئات؛ فاشتطَّ الناس في النفقات، وسرت بينَهم في الحطام المنافَسات، وتوجهوا نحو الدراهم والمراكز واللذائذ الحسية والجسدية، حتى ولو تعارضت مع العفة وحفظ الأعراض والاستمساك بالخُلُق العالي؛ فزادت الحواجز ارتفاعًا، وامتدت السدود طولًا.. فتطلَّع النساء وأشباه النساء إلى صنوف الملابس والمساكن وألوان الفُرُش والمآكل، والمفتِّش عن الزواج من الفضلاء والصالحين يخشى أن يُبتلى بأصهار وأنساب يتجاوزون في مطالبهم حدود المعروف، فيكلِّفونه في حياتهم عُسْرًا، ويزيدونه من أمره رهقًا.
إن جميل الخُلُق أبقى من جَمال الخَلْق، وغنى النفس مقدَّم على غنى المال، والعبرة كل العبرة في كريم الخصال، سُئِلَ سعيدُ بن المسيب -رحمه الله- عن حديث "خير النساء أيسرهن مهورًا" كيف تكون حسناء ورخيصة المهر؟ فقال سعيد: "يا هذا، انظر كيف قلتَ؟ أهم يساوِمون في بهيمة لا تَعقِل؟! أتراها بضاعة طمع صاحبها يغلب على مطامع الناس؟ (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا)[الأعراف: 189]. إنه إنسان مع إنسانة، وليس متاعًا يَطلب متاعًا".
إن صاحب الجَمال والجاه قليل الدين والخُلُق من الرجال والنساء لا يُغني عنه كثرة المال شيئًا، أرأيتَ لو كان مع الجبان مائة سيف؛ أكان ذلك يغني عن ضَعْفه وجُبنه وخَوَره؟ فاستكثار المال وموازين المادة لا تستر خيبةَ الزوجين وصفاقتهما وسوء خُلُقِهما، ولو كان ذلك قناطير الذهب والفضة.
إن نِسَبَ الطلاقِ والفِراق وأسباب الانفصال والشقاق متقدمة هذا العصر، أعلى منها في مجتمعات سَلِمَتْ من رياح هذا التقدم البائس، وكلما دخلت أُمَّة في هذا النوع من المعاصرة والمقاييس؛ ارتفعت فيها نِسَبُ الطلاقِ والشقاقِ.
أيها الإخوة في الله: حقٌّ على أصحاب القدوة من الوجهاء والعلماء والأغنياء أن ينشروا في الناس خُلُقَ القناعة بما يسَّر اللهُ ورَزَقَ، يرسموا ذلك بفعالهم قبل أقوالهم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمدًا كثيرًا كما أمَر، وأشكره على إنعامه وإفضاله، وقد تأذَّن بالزيادة لمن شَكَرَ، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، شهادة أرجو بها الزلفى لديه يوم العرض الأكبر، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، الشافع المشفَّع في المحشر، صلى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله وأصحابه السادة الغُرَر، والتابعينَ ومَنْ تَبِعَهم بإحسان ما اتصلت عين بنظر، وأذن بخبر.
أما بعدُ: فاتقوا الله -أيها المسلمون- في الماديات وتكاليف الزواج؛ فإنَّ نفقات البيت، لا تنقطع، ومتطلبات الأسرة لا تنقضي، والإسلام يكره أن تكون أمور النفقة وحوائج الدنيا سببًا في تعريض الأسرة للمتاعب، وتهديد مستقبلها بالأخطار والمصاعب (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آَتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آَتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا)[الطلاق: 7]. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.