القاهر
كلمة (القاهر) في اللغة اسم فاعل من القهر، ومعناه الإجبار،...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | النكاح - نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
إِنَّ الشُّرُوطَ الَّتِي يَشْتَرِطُهَا الزَّوْجَانِ لَا حَصْرَ لَهَا، وَقَدْ تَتَجَدَّدُ وَتَتَعَدَّدُ بِتَجَدُّدِ الزَّمَانِ وَتَتَعَدُّدِ الْبِيئَاتِ، فَفِي عَصْرِنَا هُنَاكَ شُرُوطٌ قَدْ تَشْتَرِطُهَا بَعْضُ النِّسَاءِ، مِنْهَا مَا يَكُونُ شَرْطًا صَحِيحًا، وَمِنْهَا مَا يَكُونُ شَرْطًا فَاسِدًا...
الخطبة الأولى:
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَتُوبُ إِلَيْهِ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 70-71]، أَمَّا بَعْدُ:
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: عَقْدُ النِّكَاحِ الْتِقَاءٌ بَيْنَ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ عَلَى عِشْرَةٍ زَوْجِيَّةٍ مُتَّصِلَةٍ مِنْ غَيْرِ سَابِقِ عَهْدٍ، حَتَّى إِنَّ الْمَرْأَةَ لَتَتْرُكُ أُسْرَتَهَا وَبِيئَتَهَا وَتَنْتَقِلُ إِلَى أُسْرَةِ زَوْجِهَا وَبِيئَتِهِ، الزَّوْجُ كَذَلِكَ قَدْ تَكُونُ لَهُ رَغَبَاتٌ مُعَيَّنَةٌ يُرِيدُ أَنْ تَبْقَى مَعَهُ فِي حَيَاتِهِ الزَّوْجِيَّةِ، أَوْ أَشْيَاءُ يَخَافُ وُقُوعَهَا فِي حَيَاتِهِ الْجَدِيدَةِ.
وَقَدْ أَقَرَّ الْإِسْلَامُ مَا يُسَمَّى بِالشُّرُوطِ فِي النِّكَاحِ، وَهِيَ: مَا يَشْتَرِطُهُ الزَّوْجَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا عِنْدَ عَقْدِ النِّكَاحِ أَوْ قَبْلَهُ، مِمَّا يَكُونُ لِلزَّوْجَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا فِيهِ غَرَضٌ مُعَيَّنٌ؛ شَرِيطَةَ أَلَّا تُخَالِفَ حُكْمًا شَرْعِيًّا.
وَالشُّرُوطُ فِي النِّكَاحِ مِنْهَا مَا هُوَ صَحِيحٌ، وَمِنْهَا مَا هُوَ فَاسِدٌ؛ فَالصَّحِيحُ: هِيَ: مَا كَانَتْ مُوَافِقَةً لِمُقْتَضَى الْعَقْدِ، وَلَا تُخَالِفُ أَحْكَامَ الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ؛ وَمِنْ أَمْثِلَةِ تِلْكَ الشُّرُوطِ الصَّحِيحَةِ:
أَنْ تَشْتَرِطَ الزَّوْجَةُ عَلَى زَوْجِهَا أَنْ تَسْكُنَ فِي دَارِهَا أَوْ بَلَدِهَا، وَأَلَّا يَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا، وَأَنْ لَا يُسَافِرَ بِهَا، وَأَنْ لَا يُفَرِّقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَوْلَادِهَا، وَأَبَوَيْهَا، أَوْ تَشْتَرِطَ أَنْ تُرْضِعَ وَلَدَهَا الصَّغِيرَ، أَوْ تَشْتَرِطَ نَقْدًا مُعَيَّنًا أَوْ زِيَادَةً فِي مَهْرِهَا، أَوْ نَفَقَةَ وَلَدِهَا وَكُسْوَتَهُ، أَوْ تَشْتَرِطَ عَلَيْهِ أَنْ يُحْسِنَ مُعَامَلَتَهَا، أَوْ لَا يُدْخِلَهَا إِلَى مَكَانٍ مُحَرَّمٍ... وَغَيْرَ ذَلِكَ.
فَهَذِهِ الشُّرُوطُ شُرُوطٌ صَحِيحَةٌ؛ لِعَدَمِ مُخَالَفَتِهَا لِلشَّرْعِ، وَعَدَمِ إِخْلَالِهَا بِمُقْتَضَى عَقْدِ الزَّوَاجِ.
رَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ -رَحِمَهُ اللَّهُ- فِي سُنَنِهِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ قَالَ: شَهِدْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أُتِيَ فِي امْرَأَةٍ جَعَلَ لَهَا زَوْجُهَا دَارَهَا، فَقَالَ عُمَرُ: لَهَا شَرْطُهَا، فَقَالَ رَجُلٌ: إِذًا يُطَلِّقْنَنَا؟ فَقَالَ عُمَرُ: "إِنَّمَا مَقَاطِعُ الْحُقُوقِ عِنْدَ الشُّرُوطِ".
وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: "كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- حَيْثُ تَمَسُّ رُكْبَتِي رُكْبَتَهُ، فَقَالَ رَجُلٌ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ: تَزَوَّجْتُ هَذِهِ وَشَرَطْتُ لَهَا دَارَهَا، وَإِنِّي أَجْمَعُ لِأَمْرِي أَوْ لِشَأْنِي أَنِّي أَنْتَقِلُ إِلَى أَرْضِ كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ: لَهَا شَرْطُهَا، فَقَالَ رَجُلٌ: هَلَكَتِ الرِّجَالُ إِذًا، لَا تَشَاءُ امْرَأَةٌ أَنْ تُطَلِّقَ زَوْجَهَا إِلَّا طَلَّقَتْ! فَقَالَ عُمَرُ: الْمُسْلِمُونَ عَلَى شَرْطِهِمْ عِنْدَ مَقَاطِعِ حُقُوقِهِمْ".
وَأَمَّا اشْتِرَاطُ الرَّجُلِ عَلَى الْمَرْأَةِ شُرُوطًا صَحِيحَةً فَمِنْ أَمْثِلَتِهَا: أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهَا أَنْ يُسْكِنَهَا فِي بَيْتِ أَبِيهِ، فَإِنْ سَكَنَتْ وَضَاقَتْ بِذَلِكَ السَّكَنِ فَطَلَبَتِ الِانْتِقَالَ إِلَى بَيْتٍ خَاصٍّ بِهَا؛ فَإِنْ قَدَرَ لَزِمَهُ نَقْلُهَا، وَإِنْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ لَا يَلْزَمُهُ النَّقْلَةُ.
وَكَذَلِكَ إِذَا اشْتَرَطَ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ بِكْرًا، أَوْ تَكُونَ جَمِيلَةً، أَوْ تَكُونَ مُتَعَلِّمَةً، أَوْ سَلِيمَةً مِنْ أَمْرَاضٍ مُعَيَّنَةٍ، أَوِ اشْتَرَطَ عَلَيْهَا أَنْ لَا تَخْرُجَ مِنْ بَيْتِهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ.
فَهَذِهِ شُرُوطٌ صَحِيحَةٌ لَا تُخَالِفُ شَرْعَ اللَّهِ -تَعَالَى-.
عِبَادَ اللَّهِ: وَأَمَّا الشُّرُوطُ الْفَاسِدَةُ فَهِيَ الَّتِي خَالَفَتْ مُقْتَضَى الْعَقْدِ، وَلَا تُقِرُّهَا الشَّرِيعَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ، أَوْ وَرَدَ النَّهْيُ عَنْهَا تَحْدِيدًا فِي شَرْعِ اللَّهِ -تَعَالَى-؛ فَمِنْ تِلْكَ الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجَةِ: شَرْطُهَا عَلَى الرَّجُلِ الَّذِي يُرِيدُ زَوَاجَهَا أَنْ لَا يَطَأَهَا، وَأَنْ لَا يَزُورَ أَبَاهُ أَوْ أُمَّهُ، وَأَنْ يَسْمَحَ لَهَا بِمُمَارَسَةِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ -تَعَالَى- كَحُضُورِ الْمَرَاقِصِ لِلرَّقْصِ أَوِ الْغِنَاءِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ... أَوَ غَيْرِ ذَلِكَ.
وَمِنَ الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجَةِ: أَنْ تَشْتَرِطَ عَلَى الرَّجُلِ طَلَاقَ ضُرَّتِهَا أَوْ ضَرَائِرِهَا، وَقَدْ صَرَّحَ بِالنَّهْيِ عَنْهُ نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ أَنْ تَشْتَرِطَ طَلَاقَ أُخْتِهَا لِتَسْتَفْرِغَ مَا فِي صَحْفَتِهَا؛ فَإِنَّ الْمُسْلِمَةَ أُخْتُ الْمُسْلِمَةِ، وَلْتَنْكِحْ؛ فَإِنَّ لَهَا مَا قُدِّرَ لَهَا"، وَفِي رِوَايَةٍ: "فَإِنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- رَازِقُهَا"(رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَابْنُ حِبَّانَ). وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ أَحْمَدَ فِي مُسْنَدِهِ: "لَا يَحِلُّ أَنْ يَنْكِحَ الْمَرْأَةَ بِطَلَاقِ أُخْرَى".
قَالَ النَّوَوِيُّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: "وَمَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ: نَهْيُ الْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ أَنْ تَسْأَلَ الزَّوْجَ طَلَاقَ زَوْجَتِهِ، وَأَنْ يَنْكِحَهَا وَيَصِيرَ لَهَا مِنْ نَفَقَتِهِ وَمَعْرُوفِهِ وَمُعَاشَرَتِهِ وَنَحْوِهَا مَا كَانَ لِلْمُطَلَّقَةِ"(شَرْحُ النَّوَوِيِّ).
وَأَمَّا الشُّرُوطُ الْفَاسِدَةُ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ فَمِنْ أَمْثِلَتِهَا: أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَى الْمَرْأَةِ أَنْ لَا يُجَامِعَهَا، وَأَنْ لَا يُعْطِيَهَا مَهْرًا، وَأَنْ تُطِيعَهُ فِي ارْتِكَابِ مَا يُخَالِفُ الشَّرِيعَةَ؛ كَأَنْ تَكُونَ رَاقِصَةً لِيَتَكَسَّبَ مِنْ عَمَلِهَا.
وَمِنَ الشُّرُوطِ الَّتِي جَاءَتِ الشَّرِيعَةُ بِالنَّهْيِ عَنْهَا: التَّحْلِيلُ، وَالْمُتْعَةُ وَالشِّغَارُ؛ فَالتَّحْلِيلُ: أَنْ يُطَلِّقَ رَجُلٌ زَوْجَتَهُ ثَلَاثًا وَيُرِيدَ الْعَوْدَةَ إِلَيْهَا، فَيَسْتَعِيرَ رَجُلًا لِيُحَلِّلَ زَوْجَتَهُ، وَيَشْتَرِطَ عَلَيْهِ أَنْ يَبْقَى مَعَهَا مُدَّةً مُعَيَّنَةً ثُمَّ يُطَلِّقَهَا، فَهَذَا شَرْطٌ بَاطِلٌ، وَالْمُحَلِّلُ وَالْمُحَلَّلُ لَهُ مَلْعُونَانِ.
وَالشِّغَارُ مَعْنَاهُ: أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِآخَرَ: زَوِّجْنِي بِنْتَكَ عَلَى أَنْ أُزَوِّجَكَ بِنْتِي، أَوْ زَوِّجْنِي أُخْتَكَ عَلَى أَنْ أُزَوِّجَكَ أُخْتِي، وَهَذَا شَرْطٌ وَنِكَاحٌ نَهَى عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ الشُّرُوطَ الَّتِي يَشْتَرِطُهَا الزَّوْجَانِ: مِنْهَا مَا يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهِ، وَمِنْهَا مَا لَا يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهِ؛ فَمَا كَانَ مِنَ الشُّرُوطِ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْعَقْدِ، أَوْ لَيْسَ فِيهِ مُخَالَفَةٌ شَرْعِيَّةٌ فَإِنَّهُ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ؛ قَالَ اللَّهُ -تَعَالَى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)[الْمَائِدَةِ: 1].
وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّ أَحَقَّ الشُّرُوطِ أَنْ تُوفُوا بِهِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)؛ "أَيْ: أَحَقُّ الشُّرُوطِ بِالْوَفَاءِ شُرُوطُ النِّكَاحِ؛ لِأَنَّ أَمْرَهُ أَحْوَطُ، وَبَابَهُ أَضْيَقُ".
وَأَمَّا إِذَا كَانَتِ الشُّرُوطُ فِيهَا مُخَالَفَةٌ لِشَرْعِ اللَّهِ -تَعَالَى- فَإِنَّهُ لَا وَفَاءَ فِيهَا؛ فَإِنَّ اجْتِنَابَ الْمُحَرَّمِ وَاجِبٌ.
فَعَنْ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ الْمُزَنِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ"، وَفِي رِوَايَةٍ: "الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ، إِلَّا شَرْطًا حَرَّمَ حَلَالًا، أَوْ أَحَلَّ حَرَامًا"(رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ).
وَقَدْ حَكَمَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-عَلَى الشُّرُوطِ الْمُخَالِفَةِ بِالْبُطْلَانِ -وَلَوْ كَانَتْ كَثِيرَةً- بِقَوْلِهِ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-: "مَا بَالُ أُنَاسٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ؟! مَنِ اشْتَرَطَ شَرْطًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِنِ اشْتَرَطَ مِائَةَ شَرْطٍ، شَرْطُ اللَّهِ أَحَقُّ وَأَوْثَقُ"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).
وَالْمُرَادُ بِالشُّرُوطِ الَّتِي لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ: يَعْنِي الَّتِي لَا يُقِرُّهَا الشَّرْعُ.
نَسْأَلُ اللَّهَ -تَعَالَى- أَنْ يُلْهِمَنَا السَّدَادَ فِيمَا نَقُولُ وَنَشْتَرِطُ.
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ، فَاسْتَغْفِرُوهُ؛ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ، أَمَّا بَعْدُ:
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ الشُّرُوطَ الَّتِي يَشْتَرِطُهَا الزَّوْجَانِ لَا حَصْرَ لَهَا، وَقَدْ تَتَجَدَّدُ وَتَتَعَدَّدُ بِتَجَدُّدِ الزَّمَانِ وَتَتَعَدُّدِ الْبِيئَاتِ، فَفِي عَصْرِنَا هُنَاكَ شُرُوطٌ قَدْ تَشْتَرِطُهَا بَعْضُ النِّسَاءِ، مِنْهَا مَا يَكُونُ شَرْطًا صَحِيحًا، وَمِنْهَا مَا يَكُونُ شَرْطًا فَاسِدًا.
فَبَعْضُ النِّسَاءِ قَدْ تَشْتَرِطُ عَلَى خَاطِبِهَا: إِتْمَامَ دِرَاسَتِهَا، وَأُخْرَى تَشْتَرِطُ عَلَيْهِ: السَّمَاحَ بِالْوَظِيفَةِ، وَأُخْرَى تَشْتَرِطُ عَلَيْهِ السَّفَرَ وَحْدَهَا... وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْأَمْثِلَةِ.
فَعَلَى الزَّوْجِ أَنْ يُوفِيَ بِالشَّرْطِ الَّذِي وَافَقَ عَلَيْهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُخَالِفًا لِشَرْعِ اللَّهِ، فَتَمْكِينُهَا مِنْ إِكْمَالِ دِرَاسَتِهَا مَعَ الْتِزَامِهَا بِآدَابِ الْإِسْلَامِ مِمَّا يَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ الْوَفَاءُ بِهِ؛ لِقَوْلِهِ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-: "الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ"(التِّرْمِذِيُّ).
وَتَمْكِينُهَا مِنْ مُمَارَسَةِ وَظِيفَتِهَا وَعَمَلِهَا مِمَّا يَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ الْوَفَاءُ بِهِ إِذَا اشْتَرَطَتْ عَلَيْهِ ذَلِكَ، إِلَّا "إِذَا كَانَ عَمَلُهَا خَارِجَ الْبَيْتِ فِيهِ مَسٌّ بِمَصْلَحَةِ الزَّوْجِ وَالْأَوْلَادِ، أَوْ كَانَ عَمَلُهَا فِي مَجَالٍ لَا يُجِيزُهُ الشَّرْعُ، فَعَلَى الزَّوْجِ مَنْعُهَا مِنْ ذَلِكَ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ إِنْ لَمْ يَفِ بِالشَّرْطِ".
وَأَمَّا تَمْكِينُهَا مِنَ السَّفَرِ وَحْدَهَا فَهَذَا شَرْطٌ فَاسِدٌ، لَا يَجُوزُ الْوَفَاءُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِقَوْلِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُسَافِرَ سَفَرًا يَكُونُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَصَاعِدًا إِلَّا وَمَعَهَا أَبُوهَا، أَوْ أَخُوهَا، أَوْ زَوْجُهَا، أَوِ ابْنُهَا، أَوْ ذُو مَحْرَمٍ مِنْهَا". (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ).
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: إِنَّ تَخَلُّفَ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ عَنِ الْوَفَاءِ بِمَا اشْتَرَطَ عَلَى نَفْسِهِ لِصَاحِبِهِ مِنَ الشُّرُوطِ الصَّحِيحَةِ؛ مُخَالَفَةٌ شَرْعِيَّةٌ؛ لِأَنَّهَا خِيَانَةٌ لِلْعَهْدِ، وَإِخْلَالٌ بِمُقْتَضَى الْعَقْدِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ -تَعَالَى-: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ)[النَّحْلِ: 91].
كَمَا أَنَّ التَّخَلُّفَ عَنِ الْوَفَاءِ لَيْسَ مِنْ شِيَمِ الشُّرَفَاءِ؛ وَقَدْ يُؤَدِّي ذَلِكَ التَّخَلُّفُ إِلَى الْمُشْكِلَاتِ الزَّوْجِيَّةِ، وَذَهَابِ الْمَوَدَّةِ وَالِاسْتِقْرَارِ الْأُسَرِيِّ؛ بِخِلَافِ الْوَفَاءِ بِالشُّرُوطِ الصَّحِيحَةِ؛ فَإِنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى الْأُلْفَةِ وَحُسْنِ الثَّنَاءِ؛ فَهَذَا نَبِيُّنَا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ عَنْ خَتَنِهِ أَبِي الْعَاصِ كَمَا رَوَى الْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ذَكَرَ صِهْرًا لَهُ مِنْ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ، فَأَثْنَى عَلَيْهِ فِي مُصَاهَرَتِهِ إِيَّاهُ فَأَحْسَنَ، قَالَ: "حَدَّثَنِي فَصَدَقَنِي، وَوَعَدَنِي فَأَوْفَى لِي"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).
وَذَلِكَ أَنَّ أَبَا الْعَاصِ زَوْجَ زَيْنَبَ بِنْتِ النَّبِيِّ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- كَانَ مِنْ أَسْرَى بَدْرٍ، فَافْتَدَتْهُ زَيْنَبُ بِقِلَادَةٍ، "فَاسْتَأْذَنَ رَسُولُ اللَّهِ أَصْحَابَهُ فِي إِطْلَاقِ أَبِي الْعَاصِ فَفَعَلُوهُ، وَاشْتَرَطَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى أَبِي الْعَاصِ أَنْ يُخْلَى سَبِيلُ زَيْنَبَ، فَخَلَّاهَا فَهَاجَرَتْ". فَقَالَ ذَلِكَ الْقَوْلَ السَّابِقَ فِيهِ.
فَيَا عِبَادَ اللَّهِ: الْوَفَاءَ الْوَفَاءَ بِالشُّرُوطِ الْمُوَافِقَةِ لِشَرْعِ اللَّهِ -تَعَالَى-، وَإِيَّاكُمْ وَالشُّرُوطَ الْمُخَالِفَةَ لِذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ لَا وَفَاءَ لِمَا يُغْضِبُ اللَّهَ -تَعَالَى-.
فَرَحِمَ اللَّهُ امْرَأً وَفَى بِعَهْدِهِ، وَأَدَّى حَقَّ شَرْطِهِ وَعَقْدِهِ، فَنَالَ بِذَلِكَ مَرْضَاةَ رَبِّهِ، وَرِضَا أَهْلِهِ.
نَسْأَلُ اللَّهَ -تَعَالَى- أَنْ يَجْعَلَنَا وَإِيَّاكُمْ مِمَّنْ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى خَيْرِ خَلْقِ اللَّهِ مُحَمَّدٍ؛ (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56].