الحليم
كلمةُ (الحليم) في اللغة صفةٌ مشبَّهة على وزن (فعيل) بمعنى (فاعل)؛...
العربية
المؤلف | راشد البداح |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - السيرة النبوية |
كم لكَ من أُمٍ؟ لكَ غيرُ أُمِّكَ التي ولدَتْكَ أكثرُ من عشرِ أمهاتٍ، إنهن أمهاتُ المؤمنينَ، وزوجاتُ خيرِ المرسلينَ -صلى الله عليه وسلم-،.. أمهاتُنا أمهاتُ المؤمنينَ قُدُواتٌ في التعبُدِ والتألُّهِ، قُدُواتٌ في الإنفاقِ، قُدُواتٌ في التعامُلِ مع الزوجِ، قُدُواتٌ في اللُّطفِ والخُلُقِ
الخطبة الأولى:
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا هوَ وحدَه لا شريكَ له الحقُ المبينُ، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه الصادقُ الأمينُ؛ صلى اللُه وسلمَ عليهِ وعلى آلهِ وأزواجِهِ وأصحابهِ أجمعينَ، ومَن تبعهم بإحسانٍ إلى يومِ الدينِ.
أما بعدُ: فاتقوا اللهَ حقَ تقواه، فمَنِ اتقاهُ وَقَاهُ.
كم لكَ من أُمٍ؟ لكَ غيرُ أُمِّكَ التي ولدَتْكَ أكثرُ من عشرِ أمهاتٍ، إنهن أمهاتُ المؤمنينَ، وزوجاتُ خيرِ المرسلينَ -صلى الله عليه وسلم-، وخُذِ الآنَ طَرَفًا عَبِقًا من أخبارِهن-رضيَ اللهُ عنهُنَ-:
1- أُمُّ المُؤْمِنِينَ خديجةُ القرشيةُ –رضِيَ اللهُ عنها-: كانتْ أسنَّ منَ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- بخمسَ عشرةَ سنةً. وقد رأتْ مَيلَهُ -صلى الله عليه وسلم- إلى مَولاها زيدِ بنِ حارثةَ، فوهبَتْه له، فكانتْ هيَ السبب في إسلامِ زيدٍ، بلْ إنهُ أولُ مَن أسلمَ منَ المَوالي، وهيَ أولُ إنسانٍ أسلمَ مطلقًا(الإصابة في تمييز الصحابة: 8/ 99 - 102).
2- أُمُّ المُؤْمِنِينَ عَائِشَةُ–رضِيَ اللهُ عنها-: زُفَّتْ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- وَهِيَ بِنْتُ تِسْعِ سِنِينَ، وَلُعَبُهَا مَعَهَا، وَمَاتَ عَنْهَا وَهِيَ بِنْتُ ثَمَانَ عَشْرَةَ. (صحيح مسلم: 1422).
اشْتَرَى مُعَاوِيَةُ مِنْها بَيْتًا بِمِائَةِ أَلْفٍ، فَمَا أَمْسَتْ وَعِنْدَهَا مِنْهُ دِرْهَمٌ، وَأَفْطَرَتْ عَلَى خُبْزٍ وَزَيْتٍ، فَقَالَتْ لَهَا مَوْلَاةٌ لَهَا: "أَلَا كُنْتِ أَبْقَيْتِ لَنَا مِنْ ذَا الْمَالِ دِرْهَمًا نَشْتَرِي بِهِ لَحْمًا"! قَالَتْ: لَا تُعَنِّفِينِي؛ لَوْ كُنْتِ ذَكَّرْتِينِي لَفَعَلْتُ (حلية الأولياء وطبقات الأصفياء: 2/ 48)؛ نسيَتْ نفسَها من كرَمِها–رضِيَ اللهُ عنها-
3- أُمُّ المُؤْمِنِينَ زَيْنَبُ بِنْتُ خُزَيْمَةَ -رضِيَ اللهُ عنها-: كَانَتْ تُسَمَّى فِي الْجَاهِلِيَّةِ بأُمِّ الْمَسَاكِينِ؛ لأنَّها كانتْ تُطعمهمْ.(المستدرك على الصحيحين للحاكم: 6805).
تزوجَها النبيُّ-صلى الله عليه وسلم-في رمضانَ، وبعدَ ثمانيةِ أشهرٍ ماتتْ المتصدِّقةُ كريمةٌ متطوِّعةٌ محبوبةٌ من زوجِها ومجتمعِها.(الإصابة في تمييز الصحابة: 8/ 157).
4- أُمُّ المُؤْمِنِينَ أُمُّ سَلَمَةَ -رضِيَ اللهُ عنها-: أَنْزَلَ اللَّهُ تَوْبَةَ الثلاثةِ الذينَ خُلِّفوا حِينَ بَقِيَ الثُّلُثُ الآخِرُ مِنَ اللَّيْلِ، وَرَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عِنْدَها، فَقَالَ: "يَا أُمَّ سَلَمَةَ! تِيبَ عَلَى كَعْبٍ". قَالَتْ: أَفَلاَ أُرْسِلُ إِلَيْهِ فَأُبَشِّرَهُ؟ قَالَ: "إِذًا يَحْطِمَكُمُ النَّاسُ فَيَمْنَعُونَكُمُ النَّوْمَ سَائِرَ اللَّيْلَةِ"(صحيح البخاري: 4677)، فتبشيرُ الآخرينَ والتفاعلُ مع هُمومِهم عبادةٌ لا يوفَّقُ لها إلا الأنقياءُ.
5- أُمُّ المُؤْمِنِينَ مَيْمُونَةُ -رضِيَ اللهُ عنها-: رأَتْ يَوْمًا رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَاجِمًا، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! لَقَدِ اسْتَنْكَرْتُ هَيْئَتَكَ مُنْذُ الْيَوْمِ. فقَالَ -صلى الله عليه وسلم-: إِنَّ جِبْرِيلَ كَانَ وَعَدَنِي أَنْ يَلْقَانِي اللَّيْلَةَ فَلَمْ يَلْقَنِي، أَمَا وَاللَّهِ مَا أَخْلَفَنِي!.. فَلَمَّا أَمْسَى لَقِيَهُ جِبْرِيلُ (صحيح مسلم: 2105)، مشاركةُ الزوجِ همومَه معنىً جليلٌ ترعاهُ الزوجاتُ الفطِناتُ.
6- أُمُّ المُؤْمِنِينَ زينبُ بنتُ جحشٍ –رضِيَ اللهُ عنها-: قالتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ أَيُّنَا أَسْرَعُ بِكَ لُحُوقًا؟ قَالَ: "أَطْوَلُكُنَّ يَدًا"؛ قَالَتْ عَائِشَةُ: فَكُنَّا إِذَا اجْتَمَعْنَا نَمُدُّ أَيْدِيَنَا فِي الْجِدَارِ نَتَطَاوَلُ، فَلَمْ نَزَلْ نَفْعَلُ ذَلِكَ حَتَّى تُوُفِّيَتْ زَيْنَبُ، وَكَانَتِ امْرَأَةً قَصِيرَةً، فَعَرَفْنَا حِينَئِذٍ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- إِنَّمَا أَرَادَ بِطُولِ الْيَدِ الصَّدَقَةَ. وَكَانَتْ زَيْنَبُ صَنَّاعَةَ الْيَدِ، فَكَانَتْ تَدْبُغُ، وَتَخْرُزُ، وَتَصَدَّقُ (المستدرك على الصحيحين للحاكم 6776، وأصله في صحيح البخاري 1420 ومسلم 2452). أرأيتمْ كيفَ أن الصدَقةَ صِدْقٌ واصطفاءٌ من اللهِ؟!
أيُها المؤمنونَ: أتظنونَ أن بيتَ النبوةِ يخلُو من ممازَحاتٍ لطيفةً؟! إذًا دونَكم مثالاً:
7- أُمُّ المُؤْمِنِينَ سَوْدَةُ –رضِيَ اللهُ عنها-: جَلَسَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَيْنَ عائِشَةَ وسَوْدةَ، فَعَمِلَتْ عائِشَةُ -أكلةً- فَقَالَت: كُلِي، فَأَبَتْ فَقُلْتُ: لَتَأْكُلِي، أَوْ لَأُلَطِّخَنَّ وَجْهَكِ، فَأَبَتْ. قَالَتْ عائِشَةُ: فَأَخَذْتُ مِنَ الْقَصْعَةِ شَيْئًا فَلَطَّخْتُ بِهِ وَجْهَهَا، فَأَخَذَتْ مِنَ الْقَصْعَةِ شَيْئًا فَلَطَّخَتْ بِهِ وَجْهِي، وَرَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَضْحَكُ.
8- أُمُّ المُؤْمِنِينَ صفيةُ بنتُ حيَيّ –رضِيَ اللهُ عنها-: منْ يهودِ بَني النضيرِ، من ذريةِ نبيِّ اللهِ هارونَ -عليهِ السلامُ-. اجْتَمَعَ إِلَيْهِ -صلى الله عليه وسلم- نِسَاؤُهُ فِي وَجَعِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ مِنْهُ، فَقَالَتْ صَفِيَّةُ: أَمَا وَاللَّهِ يَا نَبِيَّ اللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنَّ الَّذِي بِكَ بِي، فَتَغَامَزْنَهَا أَزْوَاجُه، فَأَبْصَرَهُنَّ، فَقَالَ: "أَعِبْتُنَّهَا، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهَا لَصَادِقَةٌ". مَضْمِضْنَ، قُلْنَ: مِنْ أَيِّ شَيْءٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "مِنْ تَغَامُزِكُنَّ بِصَاحِبَتِكُنَّ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهَا صَادِقَةٌ"(جامع معمر بن راشد 11/ 431، قال ابن حجر في الإصابة 8/ 212: أخرجه ابن سعد بسند حسن).
من أيِّهما تعجَبُ؟! أمِنْ إنصافِ هذا النبيِّ ذِي الخُلقِ العظيمِ -صلى الله عليه وسلم- وتعامُلِه أمامَ الغيرةِ النسائيةِ الفطريةِ، أم مِن صِدقِ محبةِ أمِّنا ولُطفِ مَشاعرِها؟!
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ الداعِي إلى جَنتهِ، وصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ.
أما بعدُ: فإليكَ هذا الموقفَ المؤثرَ للطاهراتِ لأمهاتِ المؤمنينَ –رضيَ اللهُ عنهن- في آخرِ محطةٍ لحياتِهن الحافلةِ:
9- أُمُّ المُؤْمِنِينَ أمُ حَبيبةَ بنتُ أبي سفيانَ –رضِيَ اللهُ عنها-: عِنْدَ مَوْتِهَا دَعَتْ عَائِشَةَ فَقَالَتْ: قَدْ كَانَ بَيْنَنَا مَا يَكُونُ بَيْنَ الضَّرَائِرِ، فَغَفَرَ اللَّهُ ذَلِكَ كُلَّهُ وَتَجَاوَزَ، وَحَلَّلْتُكِ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ. فَقَالَتْ عَائِشَةُ: "سَرَّرْتِنِي سَرَّكِ اللَّهُ"، وَأَرْسَلَتْ إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ، فَقَالَتْ لَهَا مِثْلَ ذَلِكَ(المستدرك على الصحيحين للحاكم 6773).
يا لِلهِ! ما أصفَى هذهِ النفوسَ، وما أطهرَها عن الغِلِّ برغمِ بَشَرِيتِها، إنهنَّ نماذجُ قدواتٍ لنساءِ العالمينِ، اصطفاهُن اللهُ زوجاتٍ لخيرِ أنبيائِهِ.
أمهاتُنا أمهاتُ المؤمنينَ قُدُواتٌ في التعبُدِ والتألُّهِ، قُدُواتٌ في الإنفاقِ، قُدُواتٌ في التعامُلِ مع الزوجِ، والتكيُّفِ مع الغَيرةِ، قُدُواتٌ في اللُّطفِ والخُلُقِ ومشارَكةِ المشاعِرِ.
فاللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ. اللَّهُمَّ صُبَّ عَليْنا الخَيْر صَبَّا صَبَّا، ولا تَجْعَل عَيْشَنَا كَدَّا كَدَّا. اللهم يا منْ يَكْفِي مِنْ كُلِّ أحَد، ولا يَكْفِي عنْهُ أحَدٌ. اكفِنا همُومَنا وشرورَنا.
اللهم كَمَا هَدَيْتَنا لِلإِسْلاَمِ فلاَ تَنْزِعْهُ مِنّا حَتَّى تَتَوَفَّانا وَنحن مُسْلِمون. اللَّهُمَّ قَاتِلْ الْكَفَرَةَ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِكَ، ويُحاربونَ عبادَكَ، وَاجْعَلْ عَلَيْهِمْ رِجْزَكَ وَعَذَابَكَ.
اللهم وبارِكْ في عُمُرِ وليِّ أمرِنا ووليِ عهدِه وسدِدْهم في نصرةِ الإسلامِ والمسلمينَ. اللهم احفظْ بلادَنا من كل سوءٍ ومكروهٍ، وأدِمْ عليها نعمةَ الاستقرارِ والنماءِ والرخاءِ.
اللهم عُمَّ أوطانَ المسلمينَ بالخيرِ والسلامِ. اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِه.