البحث

عبارات مقترحة:

الخالق

كلمة (خالق) في اللغة هي اسمُ فاعلٍ من (الخَلْقِ)، وهو يَرجِع إلى...

المحيط

كلمة (المحيط) في اللغة اسم فاعل من الفعل أحاطَ ومضارعه يُحيط،...

الآخر

(الآخِر) كلمة تدل على الترتيب، وهو اسمٌ من أسماء الله الحسنى،...

محمد رسول الله روعة الأخلاق (3) الأمين

العربية

المؤلف عبد العزيز بن عبد الله السويدان
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات المنجيات - السيرة النبوية
عناصر الخطبة
  1. خُلق الأمانة وفضلها .
  2. قصة بناء الكعبة ودور النبي الأمين فيها .
  3. أمانة النبي صلى الله عليه وسلم .
  4. شهادة أعدائه له بالصدق والأمانة .
  5. أهمية الأمانة في حياة الإنسان .
  6. مفاسد ضعف الاتصاف بالأمانة عند كثير من المسلمين. .

اقتباس

لقد كان -صلى الله عليه وسلم- آية في الأمانة، بل هو أمين الله -تعالى- على رسالة السماء، استأمنه الله -عز وجل- وإن لهذا الخُلق في جميع أجزاء حياته أثرًا جميلاً محسوسًا، هذا هو نبينا -صلى الله عليه وسلم- أمين في تعامله، لا يغدر ولا يخون، ولا يخدع؛ كما يومئ بعينه الخادع دون أن يشعر المخدوع، هذا لا يفعله -صلى الله عليه وسلم- حتى مع أعدائه. هكذا كانت أمانته عالية المقام، وهكذا كان -صلى الله عليه وسلم- طوال حياته مصدقًا موثوقًا حتى قبل البعثة، وليس هذا فحسب، بل حتى بعد صدعه بالدعوة حتى بعد نصب قريش له العداء والصد والمحاربة لم تزل قريش بالرغم من هذا كله تقر له بالنزاهة وتثق بأمانته...

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]،  (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

الأمانة.. الأمانة لفظ مشهور متداول بشكل كبير بين الناس، ولكنه لفظ يوشك أن يكون مهرجانيًّا لا حقيقة له، يوشك أن يكون معنى غائبا في الواقع إلا في أضيق الأمثلة.

ولذا فإن للأمين مكانة كبيرة في أي مجتمع أشبه بالعملة النادرة، وقد صح في الطبراني من حديث زيد بن ثابت قوله -صلى الله عليه وسلم-: "إن أول ما يفقد من الدين الأمانة وآخر ما يفقد منه الصلاة".

والأمانة أصل أصيل في صفات الأنبياء، وما من نبي أرسله الله -تعالى- إلا وقال لقومه (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ)[الشعراء: 107].

وقد تميز النبي -صلى الله عليه وسلم- بالأمانة حتى قبل الرسالة، ولذلك لما بلغ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خمسا وثلاثين سنة، اجتمعت قريش لبنيان الكعبة، وكانوا يهمون بذلك ليسقفوها ويهابون هدمها، وإنما كانت رضما فوق القامة -الردم أن تنضد الحجارة بعضها فوق بعض من غير طين- فأرادوا رفعها وتسقيفها، وكان بمكة رجل قبطي نجار، فتهيأ لهم في أنفسهم بعض ما يصلحها.

فلما أجمعوا أمرهم في هدمها وبنائها، قام أبو وهب بن عمرو بن عائذ بن عبد بن عمران بن مخزوم فقال: يا معشر قريش، لا تدخلوا في بنائها من كسبكم إلا طيبًا، لا يدخل فيها مهر بغي، ولا بيع ربا، ولا مظلمة أحد من الناس.

إن قريشا جزأت الكعبة –قسموها بينهم- إلى قوله: "حتى بلغ البنيان موضع الركن-أي الحجر الأسود- فاختصموا فيه، كل قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه دون الأخرى، حتى تحاوزوا وتحالفوا، وأعدوا للقتال، فقربت بنو عبد الدار جفنة مملوءة دمًا، ثم تعاقدوا هم وبنو عدي بن كعب بن لؤي على الموت، وأدخلوا أيديهم في ذلك الدم في تلك الجفنة –الموضوع خطير- فسموا لعقة الدم. فمكثت قريش على ذلك أربع ليال أو خمسًا، ثم إنهم اجتمعوا في المسجد، وتشاوروا وتناصفوا"

فزعم بعض أهل الرواية أن أبا أمية بن المغيرة بن المخزوم وكان يومئذ أسن قريش كلهم قال: يا معشر قريش! اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول من يدخل من باب هذا المسجد يقضي بينكم فيه، ففعلوا.

ترقبوا فكان أول داخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلما رأوه قالوا هذا الأمين رضينا به هذا محمد، فلما انتهى إليهم وأخبروه قال عليه الصلاة والسلام: "هلم إليَّ ثوبًا" فأُتي به، فأخذ الركن –يعني الحجر الأسود- فوضعه فيه بيده. ثم قال: لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب، ثم ارفعوه جميعًا، ففعلوا: حتى إذا بلغوا به موضعه، وضعه هو بيده -صلى الله عليه وسلم- ثم بنى عليه.

وكانت قريش تسمّي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبل أن ينزل عليه الوحي "الأمين".

ولذلك لما جمعهم على الصفا عليه الصلاة والسلام أقروا بأمانته بلا تردد، قد صح في البخاري عن ابن عباس قال لما نزلت (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) [الشعراء: 214]، صعد النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى الصفا فجعل ينادي يا بني فهر يا بني عدي حتى اجتمعوا فجعل الرجل إذا لم يستطع لم يخرج أرسل رسولا لينظر ما هو لماذا ينادي بهم؟

فجاء أبو لهب وقريش فقال" أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقيَّ؟ قالوا: -وهو الشاهد هنا- "نعم ما جربنا عليك إلا صدقا" ..الحديث.

كانوا يعرفونه يعرفون أمانته، كان مشتهرا بذلك ولذلك لما علمت أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها بأمانته -صلى الله عليه وسلم- وهذا كان قبل البعثة أرسلت إليه وأوكلت إليه الإشراف على تجارتها بين مكة  والشام، ولما عرفت أخلاقه وعرفت أمانته عن كسب وأخبرها غلامها ميسرة بأخلاقه تزوجته.

ولما رُعب في أول الوحي -صلى الله عليه وسلم- وقال: لقد خشيت على نفسي، قالت له بكل يقين: "معاذ الله، ما كان الله ليفعل بك؛ فوالله إنك لتؤدي الأمانة وتصدق الحديث.." إلى آخر الحديث.

هكذا كانت أمانته عالية المقام، وهكذا كان -صلى الله عليه وسلم- طوال حياته مصدقًا موثوقًا حتى قبل البعثة، وليس هذا فحسب، بل حتى بعد صدعه بالدعوة حتى بعد نصب قريش له العداء والصد والمحاربة لم تزل قريش بالرغم من هذا كله تقر له بالنزاهة وتثق بأمانته.

ولذلك جاء في دلائل النبوة للبيهقي وفي السيرة لابن هشام قول النضر بن الحارث لقريش! "يا معشر قريش إنه والله قد نزل بكم أمرٌ ما أتيتم له بحيلة بعد، قد كان محمد فيكم غلاماً حدثاً، أرضاكم فيكم، وأصدقكم حديثاً، وأعظمكم أمانة- أعظم أهل قريش أمانة، صلى الله عليه وسلم- حتّى إذا رأيتم في صدغيه الشّيب وجاءكم بما جاءكم به.. قلتم ساحر؟! لا والله ما هو بساحر، لقد رأينا السحرة ونفثهم وعقدهم، وقلتم: كاهن. لا والله ما هو بكاهن... " إلى آخر الأثر.

وحتى أبو سفيان في جاهليته كما صح في البخاري لما وقف أمام هرقل لم ينكر أمانة النبي -صلى الله عليه وسلم- حين سأله هرقل: "هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟" قلت: "لا "، قال: "فهل يغدر؟" قلت: "لا"، ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها.

ثم سأله فقال: "ماذا يأمركم به؟" قال: "يأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيء وينهانا عما يعبد آباؤنا ويأمرنا بالصلاة والصدقة والعفاف والوفاء بالعهد وأداء الأمانة ".

هذا ما يأمرهم به -عليه الصلاة والسلام- في مطلع دعوته، بل حتى من الناحية العملية الحسية كانوا يستأمنونه على أموالهم وأشيائهم النفيسة،  قد جاء في صحيح الجامع بإسناد حسن أنه -صلى الله عليه وسلم- قبل أن يخرج من مكة إلى آخر لحظة قبل هجرته -صلى الله عليه وسلم- كان محل ثقة الناس، ومكان آمن لودائعهم، حتى إنه لما خرج -صلى الله عليه وسلم- أقام علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- ثلاث ليال مكانه حتى أدى عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الودائع التي كانت عنده للناس حتى إذا فرغ منها لحق برسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

سيرته -عليه الصلاة والسلام- كلها أمانة وحسن خُلق حتى مع أعدائه وشانئيه، في الطبراني والسنن بإسناد صحيح عن سعد بن أبي وقاص قال: لما كان يوم فتح مكة أمَّن -صلى الله عليه وسلم- الناس إلا أربعة نفر وامرأتين وسماهم، وكان عبدالله بن سعد بن أبي السرح يكتب لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأذله الشيطان فلحق بالكفار وصار يتكلم بكلام قبيح في حق النبي -صلى الله عليه وسلم- فأهدر دمه، وأمر به أن يُقتل يوم الفتح فذكر الحديث قال: "وأما ابن أبي سرح فإنه اختبأ عند عثمان بن عفان –كان عبدالله أخًا لعثمان من الرضاعة- فلما دعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الناس إلى البيعة جاء به –أي: جاء عثمان بابن أبي السرح- حتى أوقفه على النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال عثمان: يا رسول  الله بايع عبد الله  -أي: اقبل بيعته يا رسول الله- فرفع رأسه فنظر إليه ثلاثًا –ينظر ويخفض بصره- كل ذلك يأبى، فبايعه بعد ثلاث، ثم أقبل على أصاحبه فقال: "أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حين رآني كففت يدي عن بيعته فيقتله؟" فقالوا: ما يدرينا يا رسول الله ما في نفسك، هلا أومأت إلينا بعينك؟ فقال: "إنه لا ينبغي أن يكون لنبي خائنة أعين".

أمين في تعامله لا يغدر ولا يخون ولا يخدع كما يومئ بعينه الخادع دون أن يشعر المخدوع، هذا لا يفعله -صلى الله عليه وسلم- حتى مع أعدائه.

الأمانة معاشر الأخوة خُلق جميل لها جذورها الأصيلة في الإنسان، فالإنسان خُلق وفي جذر قلبه الأمانة كما أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم-، في حديث حذيفة في صحيح البخاري قال: "حدثنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حديثين رأيتم أحدهما وأنا أنتظر الآخر، حدثنا أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال، ثم نزل القرآن، فعلموا من القرآن، وعلموا من السنة، وحدثنا عن رفعها قال ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه فينزل أثرها مثل أثر الْوَكْتِ – الوكت هو ما يخلّفه الجرح على الجسد من لون داكن أسود-  ثم ينام النومة قتقبض فيبقى أثرها مثل أثر المجل كجمر دحرجته على رجلك فنفط فتراه منتبرا –منتفخًا مائيًّا- وليس فيه شيء ويصبح الناس يتبايعون ولا يكاد أحد يؤدي الأمانة فيقال: إن في بني فلان رجلاً أمينًا، ويقال للرجل: ما أعقله وما أظرفه وما أجلده وما في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان".

قال حذيفة: "ولقد أتى عليَّ زمان ولا أبالي أيكم بايعت لئن كان مسلمًا رده عليَّ الإسلام، وإن كان نصرانيًّا رده عليَّ ساعيه، وأما اليوم فما كنت أبايع إلا فلانا وفلانا".

الأمانة خلقت في جذر قلب الإنسان، فالأصل في الإنسان أنه أمين بالفطرة، لكن الفطر تنحرف بسبب الذنوب، وبسبب الفهم الناقص للإسلام، فتغيب الأمانة من خُلقه شيئًا فشيئًا، فتراه يصلي، نعم لكنه يكذب، ويرشي ويزور ويغش ويخدع يصلي لكنه يخلف الوعد يصلي لكنه يخون ويستغل لا أمانة له.

لذلك روي أن عمر بن الخطاب قال: "لا يعجبنكم في الرجل طنطنته" أي: صوته بالصلاة "ولكن من أدى الأمانة وكفَّ عن أعراض الناس فهو الرجل".

وفي حديث البخاري من حديث أبي هريرة قال -صلى الله عليه وسلم-: "إني لأنقلب إلى أهلي فأجد التمرة ساقطة على فراشي، ثم أرفعها لأكلها ثم أخشى أن تكون صدقة فألقيها".

الأمانة -أيها الإخوة- مراقبة ذاتية للنفس فيما تعطي وتأخذ، وتمنع وتمنح، وتأكل وتشرب، وتتكلم وتسمع، وتبيع وتشتري، وإننا مأمورون باتباع النبي -صلى الله عليه وسلم- في عبادته وخُلقه، قال تعالى: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الأعراف:157].

لقد كان -صلى الله عليه وسلم- آية في الأمانة، بل هو أمين الله -تعالى- على رسالة السماء، استأمنه الله -عز وجل- وإن لهذا الخُلق في جميع أجزاء حياته أثرًا جميلاً محسوسًا، هذا هو نبينا -صلى الله عليه وسلم- في جانب آخر من جوانب هديه وخُلقه.

 وللحديث بقية إن شاء الله تعالى.

اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين..