الخبير
كلمةُ (الخبير) في اللغةِ صفة مشبَّهة، مشتقة من الفعل (خبَرَ)،...
العربية
المؤلف | محمود بن أحمد الدوسري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | أركان الإيمان |
إنَّ اتِّباعَ الهوى له أسبابٌ عِدَّة, تدعو الناسَ إليه, فمن أهمِّها: عدم التَّعوُّدِ على ضبط الهوى مُنذ الصِّغر؛ فقد يلقى الطفلُ من أبويه حُبًّا مُفرِطاً, فيُلَبِّيان له جميعَ رغباته, ويأتِيانه بكل ما يشتهيه ويتمنَّاه, لا يُفرِّقان بين حرامٍ وحلالٍ, أو بين ممنوعٍ ومسموحٍ, فينشأ الطفلُ على اتِّباع هواه.
الخطبة الأولى:
الحمد لله ربِّ العالمين, والصلاة والسلام الأتمَّان على خاتم الأنبياء والمرسلين, نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: الهوى هو مَيَلانُ النفس إلى ما تستلِذُّه من الشَّهَوات من غيرِ داعيةِ الشَّرع. وما أكثر الأدلة الشرعية التي تنهى عن اتِّباع الهوى؛ كقوله -تعالى-: (وَلاَ تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ)[ص: 26]؛ وقولِه -سبحانه-: (وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا)[الكهف: 28].
قال ابنُ كثيرٍ -رحمه الله- في تفسير قوله -تعالى-: (أَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ): "أي: مَهْمَا اسْتَحْسَنَ من شيءٍ ورآه حَسَناً في هَوَى نفسِه؛ كان دِينَه ومَذْهبَه؛ كما قال -تعالى-: (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ)[فاطر:8]".
ومَنْ تأمَّل المعاصي؛ وجَدَها تنشأ من تقديم هوى النفوس على مَحبَّةِ اللهِ ورسولِه -صلى الله عليه وسلم-, وقد وصف الله -تعالى- المشركين باتِّباع الهوى في مواضعَ كثيرةٍ من كتابه, وكذا البِدَعُ تنشأ من تقديم الهوى على الشرع؛ ولهذا يُسمَّى أهلها أهل الأهواء.
والهوى شيء مُلازِمٌ للإنسان, لا يستطيع مُفارقَتَه, فلا يُعاقَبُ عليه إلاَّ عند العمل به, فإذا صدَّق ذلك بالعملِ؛ حُوسِبَ على هواه وعملِه. قال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "كُتِبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ نَصِيبُهُ مِنَ الزِّنَا, مُدْرِكٌ ذَلِكَ لاَ مَحَالَةَ: فَالْعَيْنَانِ زِنَاهُمَا النَّظَرُ, وَالأُذُنَانِ زِنَاهُمَا الاِسْتِمَاعُ, وَاللِّسَانُ زِنَاهُ الْكَلاَمُ, وَالْيَدُ زِنَاهَا الْبَطْشُ, وَالرِّجْلُ زِنَاهَا الْخُطَا, وَالْقَلْبُ يَهْوَى وَيَتَمَنَّى, وَيُصَدِّقُ ذَلِكَ الْفَرْجُ وَيُكَذِّبُهُ"(رواه مسلم).
قال ابنُ تيمية -رحمه الله-: "نَفْسُ الهوى والشَّهوةِ لا يُعاقَب عليه؛ بل على اتباعِه والعملِ به, فإذا كانت النفسُ تَهْوَى وهو ينهاها؛ كان نهيُه عِبادةً لله, وعملاً صالحاً". ومَنْ كانت هذه حاله فله الجزاء الحَسَن, قال -سبحانه-: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى)[النازعات: 40-41].
عباد الله: إنَّ اتِّباعَ الهوى له أسبابٌ عِدَّة, تدعو الناسَ إليه, فمن أهمِّها: عدم التَّعوُّدِ على ضبط الهوى مُنذ الصِّغر؛ فقد يلقى الطفلُ من أبويه حُبًّا مُفرِطاً, فيُلَبِّيان له جميعَ رغباته, ويأتِيانه بكل ما يشتهيه ويتمنَّاه, لا يُفرِّقان بين حرامٍ وحلالٍ, أو بين ممنوعٍ ومسموحٍ, فينشأ الطفلُ على اتِّباع هواه.
ومن أسباب اتباع الهوى: مُجالسةُ أهلِ الأهواءِ ومُصاحبتُهم؛ فمَنْ لازَمَ مُجالسةَ أهلِ الهوى, وأدام صُحبتَهم؛ فلا بد أنْ يتأثَّر بهم, ولذلك كان السلف ينهون عن مُجالسةِ أهلِ البدعِ والأهواء, قال أبو قلابة -رحمه الله-: "لا تُجالِسوا أصحابَ الأهواء؛ فإني لا آمَنُ أنْ يَغْمِسُوكم في ضلالَتِهم, أو يَلْبِسوا عليكم بعضَ ما تَعرِفون".
ومن الأسباب: المُسارَعَةُ إلى ما تشتهيه النَّفسُ من المُباحات؛ وقد كان أهل العلم يُرَبُّون طُلاَّبَهم على مخالفة ما تهواه أنفسُهم من المُباحات. وحِرمانُ النَّفسِ -أحياناً- من بعض المباحات؛ لأجل التعويد على الصبر؛ لأنَّ النفسَ إذا عُوِّدَتْ على نَيل المباحات؛ فإنها تضعف أمامَ المُحرَّمات.
ومن الأسباب: حُبُّ الدنيا والرُّكونُ إليها؛ فإنَّ مَنْ أحبَّ الدنيا, ورَكَنَ إليها؛ تولَّدَ عنده سعي حثيث لتلبية كلِّ ما يشتهيه, وإنْ كان مُخالِفاً لشرع الله -تعالى-, قال الله -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)[يونس: 7-8].
ومن الأسباب: الجهلُ بالعواقب المُترتِّبة على اتِّباع الهوى؛ فإن الجهل بعاقبة الشيءِ داعٍ إلى ممارسته.
عباد الله: للهوى أضرارٌ كثيرةٌ وكبيرة, وعاجِلَةٌ وآجِلَة, تمنعُ الإنسانَ مما تلذَّذ به, وتُنسِيه ما قد تَنَعَّمَ به. فمن أعظمِ أضراره: خُسْرانُ الآخرة؛ قال -تعالى-: (فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى)[النازعات: 37-39]. قال الشعبي -رحمه الله-: "إنما سُمِّيَ الهوى؛ لأنه يَهْوِي بصاحبه". وقال أبو الدرداء -رضي الله عنه-: "مَنْ كان الأجوفان هَمَّه؛ خَسِرَ مِيزانَه يوم القيامة"، ويعني بالأجوفين: شهوةَ البطن, وشهوةَ الفرج.
ومن أضرار الهوى: الضَّلال عن الهُدى, والهَوَان في الدنيا؛ قال -تعالى-: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنْ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصْ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)[الأعراف: 175-176]. ففي الآية تحذيرٌ للناس من اتِّباعِ الهوى, والرُّكونِ إلى الدنيا وشهواتِها, فيجب الاعتبار بهذه القِصَّة, والنَّظَرُ في الأمور بِعَينِ البصيرةِ والعقل, لا بالهوى واتباع الشيطان.
ومن أضرار الهوى: التَّفرُّق والاختلاف, وكثرةُ الشِّقاقِ والنِّزاع؛ قال ابنُ بطَّة -رحمه الله-: "أعاذنا اللهُ وإياكم من الآراء المُخترَعَة، والأهواءِ المُتَّبَعة، والمذاهبِ المُبتدعَة؛ فإنَّ أهلها خرجوا عن اجتماعٍ إلى شتاتٍ، وعن نظامٍ إلى تَفَرُّقٍ، وعن أُنْسٍ إلى وحْشَةٍ، وعن ائتلافٍ إلى اختلافٍ، وعن مَحبَّةٍ إلى بُغضٍ، وعن نَصيحةٍ ومُوالاةٍ إلى غِشِّ ومُعاداة، وعَصَمَنا وإياكم من الانتماء إلى كُلِّ اسمٍ خالَفَ الإسلامَ والسُّنة".
ومن أضراره: فسادُ الرأي, والوقوعُ في التناقض؛ ولذا حذَّرنا اللهُ -تعالى- من طاعة صاحب الهوى؛ لأنه يتكلَّم بغير هُدًى, ويقع في الغفلة والعَمَى: (وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا)[الكهف: 28]، فصاحب الهوى قد يعِيبُ أمراً ثم يفعله, وقد ينتقِصُ عملاً أو مشروعاً ثم يُشيد به ويُشارِك فيه, وقد يُسَفِّه رأياً؛ لأنَّ قائله فلانٌ من الناس, فيقع في اضطرابٍ كبير, وتناقُضٍ كثير.
قال ابنُ تيمية -رحمه الله-: "وصاحِبُ الهوى يُعمِيه الهوى ويُصِمُّه, فلا يستحضر ما لله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- في ذلك, ولا يطلبه, ولا يرضى لرضا الله ورسوله, ولا يغضب لغضب الله ورسوله؛ بل يرضى إذا حصل ما يرضاه بهواه, ويغضب إذا حصل ما يغضب له بهواه".
الخطبة الثانية:
الحمد لله...
أيها المسلمون: ومن أضرار الهوى: أنه مُوجِبٌ للعقوبة من الله -تعالى-؛ لأنه يُودِي بصاحبه إلى تزيين الباطل, والزهدِ في الحق, وتأليه الهوى, فيُطبَع على قلبه, ويُختَم على سمعه, ويُجعل على بصره غشاوة: (أَفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ)[الجاثية: 23].
ومن أضراره: عدمُ الانتفاعِ بالقرآنِ والمَواعظ؛ لأنَّ الهوى يَصُدُّه عن فَهْمِ القرآن, والانتفاعِ بمواعظه وأحكامِه, وقد كان أصحاب الأهواء يستمعون القرآنَ مباشرةً من فِيِّ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-, فلم ينتفِعوا به, قال -تعالى-: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ)[محمد: 16].
ومن أضراره: أنه سببٌ لِذَهاب العَقلِ والعِلم؛ قال المُعتصِم لأبي إسحاق الموصلي: "يا أبا إسحاق! إذا نُصِرَ الهوى؛ ذَهَبَ الرأي". وقال ابنُ القيم -رحمه الله-: "سَمِعتُ رجلاً يقولُ لشيخِنا ابنِ تيمية: إذا خان الرجلُ في نقد الدَّراهم؛ سَلَبَه اللهُ معرفةَ النَّقد, أو نَسِيَه. فقال الشيخُ: هكذا مَنْ خان اللهَ -تعالى- ورسولَه في مسائلِ العلم".
ومن أضراره: أنه مُهلِكٌ من المُهلِكات؛ لقول النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-: "ثَلاثٌ مُهْلِكاتٌ: شُحٌ مُطاعٌ, وَهَوًى مُتَّبَعٌ, وإِعْجابُ المَرْءِ بِنَفْسِهِ"(رواه البيهقي).
ومن أضراره: أنه سببٌ للابتداع في الدِّين؛ قال أبو عثمان النيسابوري -رحمه الله-: "مَنْ أمَّرَ السُّنةَ على نفسِه قولاً وفِعلاً؛ نَطَقَ بالحكمة, ومَنْ أمَّر الهوى على نفسه؛ نَطَقَ بالبدعة, قال الله -تعالى-: (وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا)[النور: 54]. وقال حماد بن سلمة -رحمه الله-: "حدَّثني شيخٌ للرافضة تاب, قال: كُنَّا إذا اجتمعنا واسْتَحْسَنَّا شيئاً جعلناه حديثاً".
ومن أضراره: أنه يَصُدُّ عن قبول الحق, ويُزَيِّنُ الباطل؛ قال عليٌّ -رضي الله عنه-: "إنَّمَا أَخَافُ عَلَيْكُمَ اثْنَتَيْنِ: طُولَ الأَمَلِ، وَاتِّبَاعَ الْهَوَى؛ فَإِنَّ طُولَ الأَمَلِ يُنْسِي الآخِرَةَ، وَإِنَّ اتِّبَاعَ الْهَوَى يَصُدُّ عَنِ الْحَقِّ". وقال ابنُ تيمية -رحمه الله-: "وَمَا أَكْثَرَ مَا تَفْعَلُ النُّفُوسُ مَا تَهْوَاهُ؛ ظَانَّةً أَنَّهَا تَفْعَلُهُ طَاعَةً لِلَّهِ".
وصلوا وسلموا....