المتين
كلمة (المتين) في اللغة صفة مشبهة باسم الفاعل على وزن (فعيل) وهو...
العربية
المؤلف | عادل العضيب |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - أركان الإيمان |
ولئن فقدت والدا أو الدة، فلقد فقد غيرك والدا وولدا، فارحم قلبك واذكر ربك يسكن قلبك، ويحك! أتدري من هو الذي يجدد أحزانك، ويعظم مصابك كأنك أنت الذي أصبت من بين العالمين إنه الشيطان الرجيم، فلا تستسلم له، تذكر رسولك وحبيبك -عليه الصلاة والسلام-، فقد أمه وأباه وعاش يتيما، تذكر نبيك -عليه الصلاة والسلام- يوم فقد الحبيب والناصر والمعين بموت خديجة...
الخطبة الأولى:
الحمد لله، الحمد لله الذي كتب الفناء على أهل هذه الدار، وجعل عقبى المتقين الجنة، وعقبى الكافرين النار، له الحمد على ما قضى وقدر، استسلمنا لحكمه, وانقدنا لأمره, ورضينا بقضائه، له الحمد في الآخرة والأولى، وصلي اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد: فأوصي نفسي وأوصيكم بتقوى الله؛ فإنها تمحو الذنوب وتستر العيوب (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا) [الطلاق:5].
عباد الله: يقول الله تعالى مخاطبا نبيه --عليه الصلاة والسلام--: (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا) [طه:131]. والزهرة تذبل سريعا وهذه الدنيا مهما تنعمت بها فسوف تذوق المر، تفرحك وتسعدك حتى إذا أسكرتك طعنتك طعنة تنفذ إلى سويداء قلبك، طعنتك طعنة تنسيك ليال الفرح والمسرات، فكم لها من طعين، وكم لها من جريح، وكم لها من قتيل، أضحكت أقواما أيام ثم أبكتهم أعواما، غدارة لا يأمن لها إلا المجنون، اختطفت الأحباب وتركت من أحبهم يتجرعون غصص المصاب، كم أخذت من عزيز ورحلت من حبيب، فليس لنا إلا سح الدموع وذرف العبرات، كم عطلت من قوة وأقعدت من صحيح، وأفقرت من غني وأذلت من عزيز ،وأهانت من كريم.
طُبعتْ على كدر وأنت تريدها | صفواً من الأقذار والأكدار |
ولكن أمام هذه المصائب وهذه الطعنات التي لا يزال الإنسان يتذوق مرارتها مرة بعد مرة حتى يلقى الله، أمام هذه الأحزان والهموم والغموم، ما الذي يطفئ نارا استعرت في تلك القلوب، هل من سبيل لطمأنة القلوب وراحة البال؟.
أقول: نعم؛ تهون المصيبة وييسر المصاب إذا آمن بالقدر خيره وشره حلوه ومره، إذا علم أن هذا تقدير العزيز العليم، وحكم العليم الخبير، في قول الله -جل وعلا-: (وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [التغابن:11]. قال علقمة: "هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم".
إذا علم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، قال الله: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) [الحديد: 22، 23].
مات ابن لأنس بن مالك -رضي الله عنه- فقال عند قبره: "الحمد لله، اللهم عبدك وابن عبدك، وقد رد إليك، فارأف به وارحمه، وجاف الأرض عن بدنه، وافتح أبواب السماء لروحه، وتقبله بقبول حسن". ثم انصرف فأكل وشرب وأصاب أهله ولسان حاله: كل ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير.
ومات لعبد الله بن عامر سبعة أبناء في يوم واحد فقال: "الحمد لله إنني مسلِم مُسلِّم"، وكان أبو ذر -رضي الله عنه- لا يعيش له ولد، فقيل له: "إنك امرؤ لا يبقى لك ولد"، فقال: "الحمد لله كل ذلك في كتاب، الحمد الذي يأخذهم من دار الفناء ويدخرهم في دار البقاء".
فإذا ابتليت بمحنة فاصبر لها | صبر الكريم فإن ذلك أسلمُ |
وإذا ابتليت بكربة فالبس لها | ثوب السكوت فإن ذلك أسلمُ |
لا تشكون إلى العباد فإنما | تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحمُ |
وماتت ابنة لابن عباس -رضي الله عنهما- فجاءه الخبر وهو في الطريق فنزل عن دابته فصلى ركعتين، ثم رفع رأسه إلى السماء وقال: "الحمد وإنا لله، عورة سترها الله، ومونة كفاها الله، وأجر ساقه الله"، ثم ركب ومضى، لسان حال:
أبكيه ثم أقول معتذرا له | وُفّقْتَ حين تركتَ ألأمَ دار |
جاورتُ أعدائي وجاور ربه | شتان بين جواره وجواري |
يا كوكباً ما كان أقصر عمره | وكذاك عمر كواكب الأسحار |
درّت عليك من الغمام مراضع | وتكنفتك من النجوم جواري |
وتهون المصيبة ويسهل المصاب بتذكر المصيبة العظمى والرزية الكبرى بانقطاع الوحي من السماء بموت الرسول -صلى الله عليه وسلم-. قال -عليه الصلاة والسلام-: "من أصيب بمصيبة فليتذكر مصيبة الناس فيّ, فإني عزاء لكل مسلم".
ففقدنا الآباء والأمهات والأبناء والبنات والإخوة والأخوات، ليس كفقد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
ومـا فقَـد الماضـون مثـلَ محمـدٍ | ولا مثلَـه حتـى القيـامـةِ يُفقَـدُ |
وتهون المصيبة ويسهل المصاب بتذكر الأجور العظيمة التي ينالها من صبر واحتسب، قال ربنا -جل وعلا-: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) [البقرة: 155 - 157].
قال عبد الله بن مطرف يوم مات ولده: "والله؛ لو أن الدنيا وما فيها لي فأخذها الله -عز وجل- مني ثم وعدني عليها شربة من ماء لرأيتها لتلك الشربة أهلا.فكيف بالصلاة والرحمة والهدى؟".
في صحيح مسلم عن أم سلمة-رضي الله عنها- قالت: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي واخلفني خيرا منها إلا آجره الله في مصيبته وأخلف له خيرا". قالت فلما توفي أبو سلمة: "قلت ومن خير من أبي سلمة صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-"، -وما علمت أن وفاته ستكون خيرا عظيما لها-، قالت: "ثم عزم الله لي فقلتها، قالت: فتزوجت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-".
روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة -رضي الله عنه – قال: أتت امرأة النبي -صلى الله عليه وسلم- بصبي لها فقالت: يا رسول الله ادع الله له فقد دفنت ثلاثة قبله، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "دفنت ثلاثة قبله" مستعظما أمرها، قالت: نعم، قال: "لقد احتضرتي بحضار شديد من النار". أي احتمت بحمى عظيم من النار.
وقال -عليه الصلاة والسلام-: "إذا مات ولد العبد، يقول الله تعالى لملائكته، أقبضتم ولد عبدي؟، فيقولون: نعم، فيقول وهو أعلم: أقبضتم ثمرة فؤاده؟ -ربنا يعلم عظم المصيبة كأن الفؤاد ينزع من مكانه- فيقولون: نعم، فيقول: ماذا قال عبدي: قالوا: حمدك واسترجع، قال الحمد لله إنا لله وإنا إليه راجعون، فيقول ربنا -جل وعلا-: ابنوا لعبدي بيتا في الجنة وسموه بيت الحمد".
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: يقول الله -عز وجل-: "ما لعبدي جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة". [رواه البخاري].
عباد الله: فقد الأحبة خطب مؤلم, وحدث موجع, بل هو نار تستعر في الفؤاد وتحرق الكبد، فليس من الهين أن يرحل ريحانة الفؤاد والزينة بين العباد, لكنه اليقين ينزل على القلوب المؤمنة عندها يهون المصاب.
لما أفاق عروة بن الزبير بعد أن قطعوا قدمه؛ لأنها أصابتها الآكلة، قالوا: "أحسن الله عزائك في رجلك، وأحسن الله عزاءك في ابنك فقد مات"، فقال: "اللهم لك الحمد إن كنت ابتليت فقد عافيت، وإن كنت أخذت فقد أعطيت، أعطيتني أربعة أولاد فأخذت واحدا وأبقيت ثلاثة، وأعطيتني أربعة أعضاء فأخذت واحدا وأبقيت ثلاثة". هذا هو اليقين.
اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا.
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، وتاب علي وعليكم إنه هو التواب الرحيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وكفى، وصلاة وسلاما على عباده الذين اصطفى.
أما بعد:
معاشر المسلمين: ومما يكشف الكربة عند فقد الأحبة، ويجلب الصبر، ويذهب الأسى أن يتذكر الإنسان ما وقع للخلق قبله وفي زمانه، فما من أحد إلا وأصيب، وقلب بصرك يمنة فلن ترى يمنة إلا محنة، ويسرة فلن ترى إلا حسرة، فلست المصاب من بينهم، ولست أعظمهم مصابا، فقد طرق هذا الطارق من أمير ووزير ومستشار ومشير، وكبير وصغير، وغني وفقير، وطبيب ولبيب، وعدو وحبيب، ولم يفرق بين عار وكاس، فكل دارت عليه هذه الكاس.
لئنْ فقدت ولدا، فلقد فقد غيرك أولاد، ولئن فقدت والدا أو الدة، فلقد فقد غيرك والدا وولدا، فارحم قلبك واذكر ربك يسكن قلبك، ويحك! أتدري من هو الذي يجدد أحزانك، ويعظم مصابك كأنك أنت الذي أصبت من بين العالمين إنه الشيطان الرجيم، فلا تستسلم له، تذكر رسولك وحبيبك -عليه الصلاة والسلام-، فقد أمه وأباه وعاش يتيما، تذكر نبيك -عليه الصلاة والسلام- يوم فقد الحبيب والناصر والمعين بموت خديجة -رضي الله عنها- وهو رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فهو كأس كل شاربه.
يروى أن امرأة من الأعراب حجت ومعها وحيدها، فمرض عليها في الطريق ومات، فدفنت بمساعدة الركب الذين معها، ثم وقفت بعد دفنه وقالت: "يا بني؛ والله لقد غدوتك رضيعا وفقدتك سريعا, وكأن لم يكن بين الحالتين مدة، أتلذذ فيها بعيشك، وأتمتع فيها بالنظر إلى وجهك"، ثم قالت: "اللهم منك العدل ومن خلقك الجور، اللهم وهبتني قرة عين فلم تمتعني به كثيرا، بل سلبتنيه وشيكا، ثم أمرتني بالصبر ووعدتني عليه الأجر، فصدقت وعدك ورضيت قضاءك، فلك الحمد في السراء والضراء. اللهم ارحم غربته واستر عورته، يوم تكشف العورات، وتظهر السوءات، رحم الله من ترحم على من استودعته الردم ووسدته الثرى"، ثم لما أرادت الانصراف، قالت: "أي بني لقد تزودت لسفري فيا ليت شعري ما زادك بسفرك ويوم ميعادك، اللهم إني أسألك الرضا عنه برضاي عنه، أستودعك بني من استودعني إياك جنينا في الأحشاء، ومن يجازي من صبر في السراء والضراء".
أيها المصابون: عليكم من الله الرحمات يوم أصبتم ويوم صبرتم، ويوم احتسبتم، جعل الله مصابكم من الباقيات الصالحات، وأمنكم من الفزع يوم تنشر السجلات، وكتب لنا ولكم السعادة في الحياة وبعد الممات.
صلوا وسلموا على خير البرية وأزكي البشرية، صاحب النفس الرضية والطلعة البهية والمكانة العلية نبينا محمد صل الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين وعن التابعين وعن تابعي التابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وكرمك برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين ودمر أعداء الدين، وانصر عبادك المجاهدين، واجعل هذا البلد آمنا وسائر بلاد المسلمين.
اللهم اجبر كسر المنكسرين، اللهم اجبر قلوبا انكسرت بفراق حبيب وعزيز، اللهم اجبر قلوبا مزقتها الأحزان، اللهم أنزل عليها من اليقين ما يجلو المصاب ويبدد الأحزان، اللهم اجبر كل مصاب في نفس أو مال أو حبيب، اللهم أنزل عليهم من الصبر أضعاف أضعاف ما نزل بهم من البلاء يا سميع الدعاء.
اللهم فرج الهم ونفس الكرب وطمن القلب وأرح الفكر، وأحسن العاقبة وأذن بالفرج لكل مبتل يا مفرج الأكراب.
اللهم اغفر لنا ولوالدينا وارحمهم كما ربونا صغارا، اللهم اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، سبحانك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وعلى نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.