البحث

عبارات مقترحة:

العليم

كلمة (عليم) في اللغة صيغة مبالغة من الفعل (عَلِمَ يَعلَمُ) والعلم...

الغفار

كلمة (غفّار) في اللغة صيغة مبالغة من الفعل (غَفَرَ يغْفِرُ)،...

الحميد

(الحمد) في اللغة هو الثناء، والفرقُ بينه وبين (الشكر): أن (الحمد)...

يدبر الأمر

العربية

المؤلف هلال الهاجري
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات القرآن الكريم وعلومه - المنجيات
عناصر الخطبة
  1. تبدُّل أحوال الدنيا وعدم ثباتها .
  2. نظرة المسلم إلى تغيُّرات الأحوال .
  3. تدبير الأمور بيد العزيز الغفور .
  4. تأملات في بعض عجائب الأقدار الإلهية .
  5. نداءات للمهمومين .
  6. المستقبل لهذا الدين. .

اقتباس

فبينما أنتَ في قلقِكَ، هناكَ من يُدبِّرُ أمرَكَ.. وبينما أنتَ في خوفِكَ، هناكَ مَن يُدبِّرُ أمرَكَ.. وبينما أنتَ في عجزِكَ، هناكَ من يُدبِّرُ أمرَكَ.. وبينما أنتَ في ضَعفِكَ، هناكَ من يُدبِّرُ أمرَكَ.. وهو أعلمُ بكَ منكَ، وهو أرحمُ بكَ منكَ .. فكيفَ بعدَ ذلكَ يقلقُ أهلُ الإيمانِ...

الخطبة الأولى:

 

الحمدُ للهِ؛ بلُطفِه تَنكشِفُ الشَّدائدُ، وبالتوكُّلِ عليه يَندفعُ كيدُ كلِّ كائِدٍ، أَحمدُه -سُبحانَه- وأَشكرُه على نِعمِه، وأَسألُه المزيدَ من فضلِه وكَرمِه، فبفضلِه ولُطفِه يَتواصَلُ الإحسانُ على الخَلقِ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الأمرُ والتَّدبيرُ والرِّزقُ، وأشهد أن سيدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه أرحمُ الخلقِ بالخلقِ، صلَّى اللهُ وسلَّمَ وبارَكَ عليهِ، وعلى آلِه الطَّيبينَ الطَّاهرينَ أَهلِ المكارِمِ والمحامِدِ، وعلى أصحابِه الغُرِّ الميامينِ الأماجدِ، والتابعينَ ومن تبِعَهم بإحسانٍ من كلِّ عابِدٍ، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.

 

أما بعدُ: فأُوصيكم ونَفسي بتقوى اللهِ -تعالى-، فهو خيرُ لباسٍ إذا تفاخرَ النَّاسُ باللِّباسِ، (وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ)[الأعراف:26].

 

يقولُ اللهُ -تعالى-: (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ)[آل عمران:140]، فمن منكم عاشَ الدُّنيا على حَالٍ صَافيةٍ، من سعادةٍ أو اجتماعٍ أو غِنىً أو عافيةٍ؟، ولذلكَ قَالوا قَديماً: "دوامُ الحالِ من المُحالِ"، وصَدقوا، فهكذا الدُّنيا مُتغيرةٌ مُتقلبةٌ، بل هو تقديرُ اللهِ -تعالى- على العبيدِ، بحكمةٍ وعلمٍ إنَّه هو العزيزُ الحميدُ، وصدقَ القائلُ:

ثَمَانِيَةٌ تَجرِي عَلَى النَّاسِ كُلِّهِم

وَلا بُدَّ لِلإِنسَانِ يَلقَى الثَّمَانِيَهْ

سُرُورٌ وَحُزنٌ وَاجتِمَاعٌ وَفُرقَةٌ

وَيُسرٌ وَعُسرٌ ثُمَّ سُقمٌ وَعَافِيَه

 

لكن السُّؤالُ الأعظمُ: كيفَ ينظرُ المسلمُ إلى تَغيُّراتِ الأحوالِ، حتى يبقى راضياً راسخاً كرسوخِ الجِبالِ؟

اسمعوا معي لهذه الآيةِ، ولكن بقلوبِكم وليسَ بآذانِكم: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ)[يونس:3]، لا إلهَ إلا اللهُ .. يُدبِّرُ الأمرَ .. فبينما أنتَ في قلقِكَ، هناكَ من يُدبِّرُ أمرَكَ.. وبينما أنتَ في خوفِكَ، هناكَ مَن يُدبِّرُ أمرَكَ.. وبينما أنتَ في عجزِكَ، هناكَ من يُدبِّرُ أمرَكَ.. وبينما أنتَ في ضَعفِكَ، هناكَ من يُدبِّرُ أمرَكَ.. وهو أعلمُ بكَ منكَ، وهو أرحمُ بكَ منكَ .. فكيفَ بعدَ ذلكَ يقلقُ أهلُ الإيمانِ، وهو يعلمونَ أن تدبيرَ الزَّمانِ، بيدِ القوي القادرِ العليمِ الرَّحمانِ.

 

(يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ)[الرحمن:29]، فهو -سُبحانَه- يُحيي ويُميتُ، ويُعزُّ ويُذلُ، ويُسعدُ ويُشقي، ويُغني ويُفقرُ، ويُكرمُ ويُهينُ، يُجيبُ دَاعياً، ويُعطي سَائلاً، ويَفكُّ عَانياً، ويَشفي سَقيماً، يَغفرُ ذَنباً، ويُفرجُ كَرباً، ويَرفعُ قَوماً وَيضعُ آخرينَ، يُدبِّرُ أَمرَ الخلائقِ أجمعينَ.

 

يَقولُ ابنُ عباسٍ -رضيَ اللهُ عنهما-: "كَانَ بينَ قَولِ فِرعونَ: (مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي)[القصص:38]، وبينَ قَولِه: (أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى)[النازعات:24] أَربعونَ سَنةٍ".. في هذهِ السِّنينَ، كانَ هناكَ تدبيرٌ في السَّماءِ، فَوِلدَ موسى -عليهِ السَّلامُ-، وتربّى في قَصرِ فِرعونَ، ثُمَّ خرجَ إلى مَدينَ، ومكثَ فيها عشرَ سنينَ يرعى الغنمَ، ثُمَّ رجعَ على قَدرٍ من اللهِ -تعالى-، فدخلَ على فِرعونَ وقالَ له قولاً ليناً، وأراهُ الآياتِ الكُبرى، فطَغى، وكذَّبَ وعصى، وأدبرَ يسعى، فماذا كانتْ النِّهايةُ، جاءَ الحكمُ ممن يُدبِّرُ الأمرَ: (إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ)[الدخان:24].

 

 واسمعْ إلى أفضلِ وصفٍ للأطلالِ، (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ * فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ)[الدخان:25-29]، وصدقَ اللهُ -تعالى-: (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ)[السجدة: 5].

 

فيا أيُّها المريضُ الذي يُصارعُ الأسقامَ، ويُكابدُ الليلَ بينَ الأوجاعِ والآلامِ: لكَ ربٌّ رحيمٌ يُدبِّرُ الأمرَ في كلِّ الأوقاتِ، فارفعْ يديكَ مُضطراً صَادقاً إلى السَّماواتِ، وقُلْ بقلبٍ حَاضرٍ: اللهمَّ ربَّ النَّاسِ أذهبَ البأسَ والأوصابَ، فلعلَّ أن يُقالَ لك: (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ)[ص:24].

 

ويا أيُّها المديونُ الذي قد لَبِسَ لِباسَ الذُّلِ والغَمِّ، والتحَفَ بلحافِ الحُزنِ والهمِّ: لكَ ربُّ كريمٌ يدبِّرُ الأمرَ في الليلِ والنَّهارِ، له خزائنُ لا تُنقصُها النَّفقةُ على مَدى الأعمارِ، فانظرْ إلى السَّماءِ وقُلْها خَالصاً من قلبِكَ ولِسانِكَ: اللهمَّ اكفني بحلالِك عن حَرامِكَ، وأَغنني بفَضلِكَ عمَّن سِواكَ، لعلَّ اللهَ -تعالى- أن يستجيبَ دُعاكَ، (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ)[يونس:31].

 

ويا من يشتكي المشاكلَ التي ظَنَّ أنَّها لا تُحَلُّ، وضاقتْ به الحياةُ وجِسمُه نَحَلَ، ارفعْ شَكواكَ إلى من يُدبِّرُ أمرَ هذا الكونَ، (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)[يس:82].

 

وإذا الشدائدُ أقبلت بجنودها

والدهرُ من بعد المسرّةِ أوجعكْ

لا ترجُ شيئاً من أخٍ أو صاحبٍ

أرأيتَ ظلّك في الظّلام مشى معكْ؟

وارفع يديك إلى السماء ففوقها

ربٌ إذا ناديتَهُ ما ضيّعكْ

 

أقولُ ما تَسمعونَ، وأستغفرُ اللهَ لي ولكم ولجميعِ المسلمينَ من كلِ ذنبٍ، فاستغفروه إنه هو الغفورُ الرحيمُ.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، أَغنانا بحلالِه عن حَرامِه، وكَفانا بفضلَه عَمَّا سِواه، وأَشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شَريكَ له ولا نَعبدُ إلا إياه، وأشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه ومُصطفاهُ، صَلى اللهُ عليهِ وعلى آلِه وأصحابِه ومن والاهُ، وسَلمَ تَسليماً كثير.

 

أمَّا بَعدُ: فعندما ترى الإسلامَ مُحاصرٌ من جميعِ الاتجاهاتِ، وتُكالُ إليهِ التُّهمُ بأنَّه سببُ الأزماتِ، ويأتي من يحاولُ الدِّفاعَ عنه بانهزاميةٍ وهَوانٍ، فيستنسخُ إسلاماً سَلِسَ الأحكامِ يُناسبُ الزَّمانَ.. وعندما ترى الكفرَ في انتفاشةِ الباطلِ والطُّغيانِ، وترى المنافقينَ يُكشِّرونَ عن أنيابِ البُهتانِ، فتذكَّرْ عندما خرجَ رسولُ اللهِ -صلى اللهُ عليهِ وسلمَ- من مكةَ ليلاً مُتخفيَّاً، ثُمَّ اختبأَ مع صاحبِه في غارٍ لمدةِ ثلاثةِ أيامٍ.

 

وكانَ اللهُ -تعالى- يُدبِّرُ الأمرَ سبحانَه، (إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)[التوبة:40]، وبَعدَ أَقلَ من قَرنٍ، كَانَ الأذانُ يَصدحُ من الأندلسِ إلى الهندِ، ورايةُ التَّوحيدِ تُرفرفُ في أراضي الصِّينِ وفَرنسا، وصدقَ بأبي هو وأمي عندما قالَ -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ-: "ليبلغنَّ هذا الأمرُ ما بَلغَ الليلُ والنهارُ، ولا يَتركُ اللهُ بيتَ مَدَرٍ ولا وَبَرٍ، إلا أدخَله اللهُ هذا الدينَ بعزِّ عزيزٍ أو بذلِّ ذَليلٍ، عِزًّا يُعِزُّ اللهُ به الإسلامَ، وذُلًّا يُذِلُّ اللهُ به الكفرَ".

 

فالدِّينُ ظَاهرٌ والحقُّ على طريقِ النَّصرِ، ولكن ما هو دورُكَ في أيامِ الصَّبرِ؟، هل أنتَ من أهلِ سورةِ العصرِ؟، وهل أنتَ ممن قَبضَ على الجَمرِ؟، فالثباتَ الثباتَ .. فإنَّ اللهَ يُدبِّرُ الأمرَ، (اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ)[الرعد:2].

 

واشدُدْ يَدْيكَ بحَبلِ الله مُعتَصِماً

فإنَّهُ الرُّكْنُ إنْ خانَتْكَ أركانُ

 

اللهم يا مُقَلِبَ القُلُوبِ ثَبِّتْ قُلُوبَنا على دينِكَ، ويا مُصَرِّفَ القلوبِ صَرِّفَ قُلُوبَنا على طاعتِكَ، اللهم أصْلِحْ لنا دينَنا الذي هو عِصْمَةُ أَمرِنا، وأصْلِحْ لنا دنيانا التي فيها مَعَاشُنا، وأصلحْ لنا آخرتَنا التي فيها مَعَادُنا، واجْعَل الحياةَ زيادةً لنا في كلِّ خيرٍ، واجْعَل الموتَ راحةً لنا مِنْ كلِّ شرٍ.

 

اللهم وفقْ وليَ أمرِنا ووليَ عهدِه لما تحبُّ وترضى وخذ بناصيتِهما للبرِ والتقوى، اللهم احفظهما ووفقهما للصالحاتِ وهيئ لهما البطانةَ الصالحةَ الناصحةَ التي تدلُّهما على الخيرِ وتعينُهما عليه يا ربَّ العالمينَ.

 

اللهم أصلحْ أحوالَ المسلمينَ في كلِّ مكانٍ، وفرِّج كربَهم، وأرغدْ عيشَهم، وارفعْ بلاءَهم، وأصلح قادتَهم، واجمعهم على الكتابِ والسنةِ يا ربَّ العالمينَ.