البحث

عبارات مقترحة:

الأعلى

كلمة (الأعلى) اسمُ تفضيل من العُلُوِّ، وهو الارتفاع، وهو اسمٌ من...

الشكور

كلمة (شكور) في اللغة صيغة مبالغة من الشُّكر، وهو الثناء، ويأتي...

الله

أسماء الله الحسنى وصفاته أصل الإيمان، وهي نوع من أنواع التوحيد...

ميزان الأعمال ... صفاته ومُثقِّلاته

العربية

المؤلف ماهر بن حمد المعيقلي
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات التاريخ وتقويم البلدان - الحياة الآخرة
عناصر الخطبة
  1. فزع الناس وخوفهم من مشاهد يوم القيامة .
  2. بعض صفات ميزان يوم القيامة .
  3. القيمة الحقيقية التي يرجح بها ميزان العبد .
  4. شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم للمؤمنين .
  5. أعمال تُثقِل ميزان العبد .
  6. من آثار الإيمان بالميزان .
  7. التوصية باتباع الإجراءات الاحترازية .

اقتباس

إذا كان الوزن يوم القيامة بالحسنات والسيئات، فالكيِّسُ الفَطِنُ، هو الذي يأتي يومَ القيامةِ، وقد استكثَر من الحسنات، وأثقَل موازينَه بالباقيات الصالحات، فإذا أُخِذَ من حسناته، بَقِيَتْ له حسناتٌ، تُدخِلُه الجنةَ...

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله، الحمد لله الذي وَسِعَ كلَّ شيء رحمةً وعلمًا، خلَّق فسوَّى، وقدَّر فهَدَى، نِعَمُه تترى، وآلاؤه لا تُحصى، أحمده -سبحانه- وأشكره، وأُثني عليه وأستغفره، وأشهد ألَّا إلهَ إلا اللهُ، وحدَه لا شريكَ له، من اتبع هداه فلا يضلُّ ولا يشقى، ومن أعرَض عن ذِكْره فإنَّ له معيشة ضنكًا، ويُحشَر يومَ القيامةِ أعمى، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، ومصطفاه وخليله، المبعوث بالرحمة والهدى، صلى الله وسلم وبارَك عليه، وعلى آله وصحبه، ومَنْ سار على نهجهم واقتفى، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.

 

أما بعدُ، معاشرَ المؤمنينَ: أوصيكم ونفسي بتقوى الله؛ فتقوى الله سعادةٌ ونجاةٌ، في الدنيا والآخرة، ومَنْ خاف الآخرةَ عَمِلَ بما سَمِعَ مِنْ تذكرةٍ، ومَنْ طال أملُه ضَعُفَ عملُه، وكلُّ ما هو آتٍ قريبٌ، (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)[الْبَقَرَةِ: 281].

 

أمةَ الإسلامِ: إنَّ مِنْ أشدِّ المواقفِ على العباد، يوم القيامة، بأهواله المفزِعة، وأحواله المخِيفة؛ (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ)[الزُّمَرِ: 68]، فيُحشَر الناس حفاةً عراةً غرلًا، مع كل نفسٍ سائقٌ يسوقها، وشهيدٌ يشهد عليها، والناس بين ضاحكٍ مسرورٍ، وباكٍ مثبور، وآخِذٍ كتابَه بيمينه، وآخِذٍ كتابَه بشماله أو من وراء ظهره، فيُحشَر المتقونَ إلى الرحمن وفدًا، ويُساق المجرمونَ إلى جهنم وِرْدًا، (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا)[الِانْشِقَاقِ: 7-8]، ويقول فَرِحًا مسرورًا: (هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ)[الْحَاقَّةِ: 19-20]، (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا)[الِانْشِقَاقِ: 10-11] ، ويقول نادمًا حسيرًا: (يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ)[الْحَاقَّةِ: 25-26].

 

إخوةَ الإيمانِ: في ذلك اليوم المشهود، يوضع الميزان، وهو ميزانٌ حقيقيٌّ، له كِفَّتانِ، يميل بالحسنات والسيئات، لا تُكيِّفُه العقولُ، ولا تتصوَّرُه الأذهانُ، يَزِنُ كلَّ صغيرة وكبيرة، قال الإمامُ أحمدُ: "والميزانُ حقٌّ، تُوزنُ به الحسناتُ والسيئاتُ، كما يَشَاءُ الله أنْ تُوزن"، (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِين)[الْأَنْبِيَاءِ: 47].

 

ولقد دلَّت نصوص الكتاب والسُّنة، على أنَّ العبد وعمله، وصحيفة أعماله، كلُّ ذلك يُوضَع في الميزان يومَ القيامة، ففي مسنَدِ الإمامِ أحمدَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "تُوضَعُ الْمَوَازِينُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُؤْتَى بِالرَّجُلِ، فَيُوضَعُ فِي كِفَّةٍ، فَيُوضَعُ مَا أُحْصِيَ عَلَيْهِ، فَتَمَايَلَ بِهِ الْمِيزَانُ، قَالَ: فَيُبْعَثُ بِهِ إِلَى النَّارِ، فَإِذَا أُدْبِرَ بِهِ، إِذَا صَائِحٌ يَصِيحُ مِنْ عِنْدِ الرَّحْمَنِ، يَقُولُ: لَا تَعْجَلُوا، لَا تَعْجَلُوا، فَإِنَّهُ قَدْ بَقِيَ لَهُ، فَيُؤْتَى بِبِطَاقَةٍ فِيهَا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَتُوضَعُ مَعَ الرَّجُلِ فِي كِفَّةٍ، حَتَّى يَمِيلَ بِهِ الْمِيزَانُ".

 

في هذا الميزان، يَخِفُّ وزنُ العبد أو يَثقُلُ، بحسبِ إيمانِه وأعمالِه، لا بضخامةِ جسدِه؛ ففي الصحيحينِ: أن رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "إِنَّهُ لَيَأْتِي الرَّجُلُ الْعَظِيمُ السَّمِينُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ -يعني وهو من أهل النار- لَا يَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ، اقْرَءُوا، (فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا)[الْكَهْفِ: 105]، وهذا ابْنُ مَسْعُودٍ -رضي الله عنه-، كَانَ يَجْتَنِي لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- سِوَاكًا مِنَ الْأَرَاكِ، وَكَانَ دَقِيقَ السَّاقَيْنِ، فَجَعَلَتِ الرِّيحُ تَكْفَؤُهُ، فَضَحِكَ الْقَوْمُ مِنْهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: مِمَّ تَضْحَكُونَ؟ قَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، مِنْ دِقَّةِ سَاقَيْهِ، فَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَهُمَا أَثْقَلُ فِي الْمِيزَانِ مِنْ أُحُدٍ"(رواه الإمام أحمد).

 

أيها الإخوة المؤمنون: إنَّ من أهوال يوم القيامة، موقفَ توفية الموازين، حتى إن العبد لَينخلع فؤادُه، وتعظُم كروبُه، ناسيًا أهلَهُ وأحبابَه، مشغولًا بما يراه أمامه، وهو ينتظر حصيلةَ عملِه، فلا يهدأُ روعُه، حتى يَرى أيخفُّ ميزانُه أم يثقُل؟، فمَنْ ثَقُلَ ميزانُه، نُودِيَ في مجمع فيه الأولون والآخِرون: ألَا إنَّ فلانَ ابنَ فلانٍ، قد سَعِدَ سعادةً لا يشقى بعدَها أبدًا، وإذا خفَّ ميزانُه، نُودِيَ على رؤوسِ الخلائقِ: ألَا إنَّ فلانَ ابنَ فلانٍ، قد شَقِيَ شقاوةً لا يَسعَدُ بعدَها أبدًا.

 

وفي سنن أبي داود: "أن عَائِشَةَ -رضي الله عنها-، ذَكَرَتِ النَّارَ فَبَكَتْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: مَا يُبْكِيكِ، قَالَتْ: ذَكَرْتُ النَّارَ فَبَكَيْتُ، فَهَلْ تَذْكُرُونَ أَهْلِيكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أَمَّا فِي ثَلَاثَةِ مَوَاطِنَ، فَلَا يَذْكُرُ أَحَدٌ أَحَدًا: عِنْدَ الْمِيزَانِ، حَتَّى يَعْلَمَ أَيَخِفُّ مِيزَانُهُ أَوْ يَثْقُلُ، وَعِنْدَ الْكِتَابِ، حِينَ يُقَالُ: (هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَه)[الْحَاقَّةِ: 19]، حَتَّى يَعْلَمَ أَيْنَ يَقَعُ كِتَابُهُ، أَفِي يَمِينِهِ أَمْ فِي شِمَالِهِ، أَمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ، وَعِنْدَ الصِّرَاطِ، إِذَا وُضِعَ بَيْنَ ظَهْرَيْ جَهَنَّمَ، (فَإذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ * فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ)[الْمُؤْمِنَونَ: 101-103].

 

وإن من عظيم رحمة الله -تعالى- بهذه الأمة، أن جعَل رسولها -صلى الله عليه وسلم- يحضُر موطنَ شدةِ الميزانِ وهولِه، ليكون شفيعًا لأمته؛ ففي (سنن الترمذي)، قال أنسٌ -رضي الله عنه- سألتُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- أَنْ يَشْفَعَ لي، فَقَالَ: أَنَا فَاعِلٌ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَيْنَ أَطْلُبُكَ؟ -يعني في أي عرصات القيامة أبحث عنكَ-، قَالَ: اطْلُبْنِي أَوَّلَ مَا تَطْلُبُنِي عَلَى الصِّرَاطِ، قَالَ: قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ أَلْقَكَ عَلَى الصِّرَاطِ؟ قَالَ: فَاطْلُبْنِي عِنْدَ المِيزَانِ، قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ أَلْقَكَ عِنْدَ المِيزَانِ؟ قَالَ: فَاطْلُبْنِي عِنْدَ الحَوْضِ؛ فَإِنِّي لَا أُخْطِئُ هَذِهِ الثَّلَاثَ المَوَاطِنَ"؛ - يعني: لا بدَّ أن تلقاني في واحدة من هذه المواطن-.

 

وأسعدُ الناسِ بشفاعةِ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- في تلك العرصاتِ، هم أهلُ التوحيدِ والإخلاصِ، وإن من فضل الله -تعالى- على عباده، أن جعَل الأعمالَ التي يَثْقُلُ بها الميزانُ كثيرةٌ، فمِنْ أعظَمِها بعدَ التوحيدِ، الْجُودُ بِالْخُلُقِ الحَسَنِ، وهو شيءٌ هيِّنٌ؛ وجهٌ طليقٌ، ولسانٌ ليِّنٌ، ويدخل فيه، استقامةٌ في دِينٍ، وبشاشةٌ في لِينٍ، وتفريجُ كربةٍ، وكلمةٌ طيِّبةٌ، وعفوٌ وإحسانٌ، وبِرٌّ بوالدينِ، وحُسْن الخلق، أكثرُ ما يُدخِل الناسَ الجنةَ، وبه يُدرِكُ صاحبُه درجةَ الصائمِ القائمِ، بل صاحبُه أحبُّ الناسِ للنبيِّ -صلى الله عليه وسلم-، وأقربُهم منه منزلًا يومَ القيامةِ، ولقد كان -صلى الله عليه وسلم- أكملَ الناس أَخلاقًا، وأكرمهم نَفْسًا، وأطلَقَهم وجهًا، وأرحَمَهم قلبًا، وأليَنَهم طبعًا، وأوسَعَهم عفوًا، وفي سُنَنِ الترمذيِّ، قال عليه الصلاة والسلام: "مَا شَيْءٌ أَثْقَلُ فِي مِيزَانِ المُؤْمِنِ يَوْمَ القِيَامَةِ، مِنْ خُلُقٍ حَسَنٍ".

 

وإنَّ ممَّا يُثقِل الميزانَ شهودَ الجنائزِ والصلاةَ عليها، وتشييعَها حتى دفنها؛ ففي الصحيحين، قَالَ النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ شَهِدَ الْجَنَازَةَ حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهَا فَلَهُ قِيرَاطٌ، وَمَنْ شَهِدَهَا حَتَّى تُدْفَنَ فَلَهُ قِيرَاطَانِ، قِيلَ: وَمَا الْقِيرَاطَانِ؟ قَالَ: مِثْلُ الْجَبَلَيْنِ الْعَظِيمَيْنِ".

 

ومن أراد أن تَثقُلَ موازينُه، فليُكثِرْ من حمد الله وتسبيحِه؛ ففي (صحيح مسلم)، قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "الطُّهُورُ شَطْرُ الْإِيمَانِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَأُ الْمِيزَانَ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، تَمْلَآنِ أَوْ تَمْلَأُ مَا بَيْنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وكَلِمَتَانِ حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ، خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ فِي المِيزَانِ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ العَظِيمِ"، وعن جُوَيْرِيَةَ -رضي الله عنها وأرضاها-، أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا بُكْرَةً حِينَ صَلَّى الصُّبْحَ، وَهِيَ فِي مَسْجِدِهَا، ثُمَّ رَجَعَ بَعْدَ أَنْ أَضْحَى، وَهِيَ جَالِسَةٌ -رضي الله عنها وأرضاها-، فَقَالَ: "مَا زِلْتِ عَلَى الْحَالِ الَّتِي فَارَقْتُكِ عَلَيْهَا؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: لَقَدْ قُلْتُ بَعْدَكِ أَرْبَعَ كَلِمَاتٍ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، لَوْ وُزِنَتْ بِمَا قُلْتِ مُنْذُ الْيَوْمِ لَوَزَنَتْهُنَّ: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ، عَدَدَ خَلْقِهِ وَرِضَا نَفْسِهِ وَزِنَةَ عَرْشِهِ وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ"(رواه مسلم)؛ فطوبى لمن ثقلت موازينه، ويا خسارة من خفت موازينه، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ)[الْأَعْرَافِ: 8-9].

 

بارك الله لي ولكم بالقرآن والسنة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه كان غفَّارًا.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله، الحمد لله وفَّق مَنْ شاء لمكارم الأخلاق، وهَدَاهم لِمَا فيه فوزُهم يومَ التلاق، وأشهد ألا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارَك عليه، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان.

 

أما بعد معاشر المؤمنين: إن الإيمان بالميزان يوم القيامة، له آثارٌ عظيمةٌ؛ مِنَ العلمِ واليقينِ، بعدلِ ربِّ العالمينَ، قال الإمام ابن أبي العز -رحمه الله-: "ولو لم يكن من الحكمة في وزن الأعمال إلا ظهورُ عدله -سبحانه- لجميع عباده، فإنه لا أحدَ أحبُّ إليه العذرُ من الله؛ من أجل ذلك أرسَل الرسلَ مبشِّرينَ ومنذِرينَ، فكيف ووراءَ ذلك من الحِكَم، ما لا اطلاعَ لنا عليه"، (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)[الزَّلْزَلَةِ: 7-8].

 

والإيمان بالميزان، سببٌ للحرص على الأعمال التي تُثقِله، فلا يزهد المرء في قليل من الخير أن يأتيَه، فحسنةٌ واحدةٌ، تُثقِل الميزانَ، وتُدخِل العبدَ الجنةَ، ففي عرصات يوم القيامة، يقف أقوامٌ على برزخٍ مرتفعٍ بينَ الجنة والنار، وهُمْ مَنْ تساوَتْ حسناتُهم وسيئاتُهم، فينظرون إلى أهل الجنة، ويتمنَّون حسنةً واحدةً، ليكونوا معهم، فيُحبَسُون على الأعراف، ما شاء الله أن يُحبَسُوا، ثم يُدخِلُهم اللهُ -تعالى- برحمته الجنةَ، (وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ * وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)[الْأَعْرَافِ: 46-47]، وفي (صحيح مسلم)، قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لَا تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا، وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ"، قال تعالى: (فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ * فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ * وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ * نارٌ حامِيَةٌ)[الْقَارِعَةِ: 6-11].

 

كما أنَّ الإيمانَ بالميزانِ، سببٌ للبعد عن السيئات، التي تُذهِبُ الحسناتِ، من سوء الأخلاق، وانتهاكِ حُرُماتِ الخَلْقِ، ففي (سنن الترمذي)، قال رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَتَدْرُونَ مَنِ الْمُفْلِسُ؟ قَالُوا: المُفْلِسُ فِينَا -يَا رَسُولَ اللَّهِ- مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: المُفْلِسُ مِنْ أُمَّتِي مَنْ يَأْتِي يَوْمَ القِيَامَةِ بِصَلَاتِهِ وَصِيَامِهِ وَزَكَاتِهِ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيَقْعُدُ، فَيَقْتَصُّ هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْتَصَّ مَا عَلَيْهِ مِنَ الخَطَايَا، أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّار".

 

أمةَ الإسلامِ: إذا كان الوزن يوم القيامة بالحسنات والسيئات، فالكيِّسُ الفَطِنُ، هو الذي يأتي يومَ القيامةِ، وقد استكثَر من الحسنات، وأثقَل موازينَه بالباقيات الصالحات، فإذا أُخِذَ من حسناته، بَقِيَتْ له حسناتٌ، تُدخِلُه الجنةَ، وفي مصنَّف ابن أبي شيبةَ، قال عمر -رضي الله عنه- وأرضاه-: "حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا، وَزِنُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُوزَنُوا، وَتَزَيَّنُوا لِلْعَرْضِ الْأَكْبَرِ، يَوْمَ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ".

 

إخوة الإيمان: في ظل استمرار هذه الجائحة، فإنه يجب علينا، العمل بتوصيات وزارة الصحة؛ وذلك من طاعةِ وليِّ الأمرِ؛ لمنعِ انتشارِ العدوى، وهذا واجبٌ شرعيٌّ، للمُحافَظة على الأنفسِ، فكَمْ مِنْ مُتهاوِنٍ بالتعليمات، عرَّض حياتَه وحياةَ غيره إلى ما لا تُحمَد عُقباه، نسأل الله -جل جلاله- بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، أن يكشف عنَّا هذا الوباءَ، برحمته وفضله، وجُودِه وكَرَمِه.

 

اللهم يا حيُّ يا قيومُ، اللهم يا حيُّ يا قيومُ، يا ذا الجلال والإكرام، اغفر ذنوبَنا، واستُر عيوبَنا، ويسِّر حسابَنا، ويمِّنْ كتابَنا، وثقِّلْ موازينَنا، وثبِّت على الصراط أقدامَنا، اللهم صلِّ على محمد وأزواجه وذريته، كما صليتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وأزواجه وذريته، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين؛ أبي بكر وعمر، وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة والتابعينَ، ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوكَ وكرمكَ وجودكَ ومِنَّتِكَ يا أرحمَ الراحمينَ.

 

اللهم أعزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، اللهم أعزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، اللهم أعزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، واجعل هذا البلد آمِنًا مطمئنًّا، وسائر بلاد المسلمين، اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان، برحمتك يا ذا الجلال والإكرام، اللهم إنا نسألك بفضلك ومنتك، أن تحفظنا من كل سوء ومكروه، اللهم ادفع عنا الغلا والوبا، والربا والزنا، والزلازل والمحن، وسوء الفتن، ما ظهر منها وما بطن، اللهم إنا نعوذ بك من جَهْد البلاء، ودَرَك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء، اللهم إنا نسألكَ من الخير كله، عاجله وآجله، ما عَلِمْنا منه وما لم نعلم، ونعوذ بكَ من الشر كله، عاجِلِه وآجِلِه، ما علمنا منه وما لم نعلم، اللهم إنا نسألك الجنة، وما قرَّب إليها من قول أو عمل، ونعوذ بك من النار، وما قرَّب إليها من قول أو عمل، اللهم أحسِنْ عاقبتَنا في الأمور كلها، وأجِرْنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، اللهم اشفِ مرضانا، وعافِ مبتلانا، وارحم موتانا، وكن للمستضعَفين منا.

 

اللهم يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم، وفِّقْ خادمَ الحرمينِ الشريفينِ لِمَا تحبُّ وترضى، واجزه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، اللهم وفِّقْه ووليَّ عهده الأمين، لِمَا فيه خير للإسلام والمسلمين، اللهم وفِّق جميعَ ولاة أمور المسلمين لما تحبه وترضاه، برحمتك وفضلك وجودك ومنتك يا أرحم الراحمين.

 

اللهم انصر جنودنا المرابِطين على حدود بلادنا، اللهم عليك بعدوك وعدوهم يا قوي يا عزيز، يا ذا الجلال والإكرام، اللهم لا إله إلا أنت سبحانك، إنَّا كنَّا من الظالمينَ، ربنا تقبل توبتنا واغسل حوبتنا، وأَجِبْ دعوتنا، وثبت حجتنا، واهد قلوبنا، واهد قلوبنا، وسدد ألسنتنا، واسلل سخيمةَ قلوبنا؛ (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[الْأَعْرَافِ: 23]، (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)[الْحَشْرِ: 10]، (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[الْبَقَرَةِ: 201]، (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)[الصَّافَّاتِ: 180-182].