العربية
المؤلف | عبدالله بن حسن القعود |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الحج |
الخلق خلقه، والنّاس جميعاً عبيده، آمنوا أم كفروا، لا تنفعه طاعتهم، ولا تضرُّه معصيتهم ولكنّه شرعه لصالحهم؛ لصالح المطيع ولإقامة الحُجَّة على العاصي، نعم شرعه لصالحهم فقد جاءت النصوص مبيِّنة حسن عقبى الحجِّ على أهله في الدُّنيا والآخرة؛ ففي الدُّنيا وفرة الأرزاق ومتابعة الخلَف، ومحاربة الفقر والذنوب ..
الحمد لله الذي هدانا للإسلام، وهَيَّأَ لنا بفضله وكرمه وسائل حج بيته الحرام، أحمده سبحانه وأشكره، وأشهدُ أن لا إِله إلاَّ الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أنَّ سيِّدنا ونبيِّنا محمداً عبدُه ورسوله.
اللهُمَّ صلِّ وباركْ على محمد وعلى آل محمد، كما صلّيت وباركت على إبراهيم في العالمين، إنّك حميد مجيد، وسلِّم تسليماً كثيراً.
أمَّا بعد:
فيا أيُّها المسلمون: لقد بُنيَ دينُ الإسلام على أُسسٍ ثابتةٍ، وقواعد متينةٍ؛ بإقامتها يمشي صاحبه على نورٍ وهُدىً من الله، وبفقدانِها يمشي مُدَّعيه كالمكبِّ على وجهه ولا يستويان أبداً لا ديناً ولا أُخرى: (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [الملك:22].
وإن من بين هذه الأسس التي يقوم عليها الإسلام الصحيح حج بيت الله الحرام لمن استطاع إليه سبيلاً. يقول -صلى الله عليه وسلم-: "بُنِيَ الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلاَّ الله، وأن محمَّداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحجِّ بيت الله الحرام".
ويقول تعالى -مُبيِّناً حتميَّة وجوب الحج على المستطيع، ومقرراً لوجوبه بلام الإلزام والوجوب-: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) [آل عمران:97] ويؤكد هذا الإلزام بأنَّه ما هو إلاَّ الحج والإسلام، أو تَرْكه جحداً والْكفر.
يقول سبحانه: (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) [آل عمران:97] وختام الآية الكريمة؛ يبيّن أن الله سبحانه لم يشرع الحج ولا غيره من التكاليف لحاجته إليه، فهو تعالى الغنيُّ عمّا سواه.
الخلق خلقه، والنّاس جميعاً عبيده، آمنوا أم كفروا، لا تنفعه طاعتهم، ولا تضرُّه معصيتهم ولكنّه شرعه لصالحهم؛ لصالح المطيع ولإقامة الحُجَّة على العاصي، نعم شرعه لصالحهم فقد جاءت النصوص مبيِّنة حسن عقبى الحجِّ على أهله في الدُّنيا والآخرة؛ ففي الدُّنيا وفرة الأرزاق ومتابعة الخلَف، ومحاربة الفقر والذنوب، يقول تعالى: (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ) [الحج:28]
ويقول -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه الترمذي والنسائي: "تابعوا بين الحج والعمرة، فإنَّهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد"، ويقول فيما رواه أحمد والبيهقي بسندٍ حسن: "النفقة في الحج كالنّفقة في سبيل الله بسبعمائة ضعف".
وقد بيَّن تعالى مضاعفة الإنفاق في سبيل الله بقوله: (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [البقرة:261]
وفي الآخرة: وما أدراكم ما جزاء الحج المبرور في الآخرة جزاؤه جنّة الخُلد التي فيها ما تشتهيه الأنفُس، وتلذُّ الأعين، وأهلها فيها خالدون؛ يقول -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه البخاري ومسلم: "العمرة إلى العمرة كفّارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنّة".
وتظهر صفات الحج المبرور في قوله -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه البخاري ومسلم: "من حجَّ فلم يرفث ولم يفسق رجع كيومِ ولدته أمُّه" وقوله فيما رواه أحمد وابن خزيمة وغيرهما وقد سئل عن برِّ الحج، فقال: "إطعام الطعام وطيب الكلام وإفشاء السلام".
فاتَّقوا الله -أيُّها المسلمون-، واغتنموا هذه الفضائل بالمبادرة إلى حجِّ بيت الله الحرام الذي جعل الله قلوب الناس تهوي إليه، وجعله لهُم مثابةً وأمناً، فاستكثروا من حجَّة رغَباً في هذا الفضل العظيم، وإظهاراً لشكر نِعَم الله؛ فقد أُتيح لكم -والله في هذه الأزمان- ما لم يُتَح لمن قبلكم.
فالسُبُل مؤمَّنة والحمد لله، ووسائل الراحة مُهيَّئة في كل مكان، ووسائط النقل مُيسَّرة، وموفورة بصفة لم يكد يحلم بها أيُّ إنسان، ومنادي الحج قد نادى فيكم بالرحيل. يقول تعالى: (وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كلِّ ضامرٍ يأتين من كلِّ فجٍّ عميق * ليشهدوا منافع لهم).
ويقول -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه مسلم: "أيُّها النَّاس: إنَّ الله فرضَ عليكم الحجَّ فحجُّوا"؛ فلبُّوا هذا النِّداء -أيُّها المسلمون-، لبُّوه من قلوب مُفعمة بالإيمان مخلصة أعمالها للواحد الأحد الملك الدَّيَّان.
لبُّوه فإن أحدكم لا يدري ماذا يعرض له، فلعلَّه لا يُصبح بعد إمْساء، أو لا يُمسي بعد إصباح، لبُّوه بقول: "لبّيك عمرةً لبّيك حجًّا، لبّيك اللهم لبّيك. لبيك لا شريك لك لبيك. إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك".
لبُّوه؛ فمن لبَّى نداءَ الله بإخلاص لله، ومتابعة لرسوله، فهو وافدٌ على الله، وحقّ لوافد على إكرام الأكرمين أن تحسن وِفادته. روى النّسائي والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "وفدُ الله ثلاثة: الغازي، والحاجّ، والمعتمر".
وروى البيهقي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدِّه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "الحجَّاج والْعمَّار وفد الله، إن سألوا أُعطوا، وإن دعوا أُجيبوا، وإن أنفقوا أُخلف لهم".
فاتَّقوا الله -أيُّها المسلمون-، وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنّة عرضها السَّماوات والأرض أُعدَّت للمتَّقين، اتَّقوا الله يا مَن أقدَركم الله على الحج، واحذروا أن تؤخِّروه.
والقُدرة التي لا تُعذر معها -أيُّها المسلم-، وعبَّر عنها باستطاعة السبيل هي: أن تكون صحيح الجسم، وعندك من المال ما ينفق عليك ذهاباً وإياباً، ويؤمن من تعولهم حتى رجوعك، وأن يكون الطريق آمنا.
فيا مَن يملك هذه ممّن بلغ الحلم من رجل أو امرأة مع وجود محرم لها، احذروا أن تؤخروا الحج؛ فقد هُدّدتم وتُوعدتهم بقول الله: "ومن كفر".
وبقول رسوله -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه الدارمي عن أبي أمامة قال: قال رسول الله: "من لم يمنعه من الحجّ حاجة ظاهرة، أو سلطان جائر، أو مرض حابس؛ فمات ولم يحج؛ فليمتْ إن شاء يهودياً، وإن شاء نصرانياً".
وبما روي عن حَبْرِ هذه الأمة عبد الله بن عباس -رضي الله عنه- في تفسير قول الله تعالى: (قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ) [المؤمنون:99] روي عنه أنَّه قال: "ما منكم من أحد له مال فلم يؤدِّ زكاته، ولم يحجّ منه؛ إلاَّ سأل الرجعة بعد الموت".
أقول قولي هذا، وأسأل الله تعالى أن يُبارك لنا في كتابه الكريم، وأن يغفر لنا وللمؤمنين والمؤمنات؛ إنَّه غفور رحيم.