السبوح
كلمة (سُبُّوح) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فُعُّول) من التسبيح،...
العربية
المؤلف | عبد الله بن محمد الطيار |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الحج - الحكمة وتعليل أفعال الله |
الحج خير مُربٍّ للنفس على فضائل الأخلاق، وخير مطهِّر لها من الذنوب والآثام، ومنه تُملأ قلوب المسلمين الفارغة، ويأخذون زاداً من إيمان وحب وحماسة وعلم وفقه، يعيشون عليه في حياتهم الباقية ويقاومون به كل ما يواجهونه من إغراء وتسويل وتخويف وتزيين ويشركون في هذا الزاد إخوانهم المسلمين الذين قعد بهم الفقر أو الضعف أو المرض أو العدو. فهيّا بنا نقف وقفات تربوية مع رحلة الحج لنأخذ العبرة والعظة والتربية، ثم ننطلق بها لسائر أمور حياتنا خارج الحج، فإلى هذه الوقفات:
الخطبة الأولى:
إنّ الحمد للّه نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ باللّه من شرور أنفسنا، ومن سيّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران:102].
أَما بعد: فإِنَّ أَصدق الحديث كتاب اللَّه، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النَّار.
عباد الله: الحج خير مُربٍّ للنفس على فضائل الأخلاق، وخير مطهِّر لها من الذنوب والآثام، ومنه تُملأ قلوب المسلمين الفارغة، ويأخذون زاداً من إيمان وحب وحماسة وعلم وفقه، يعيشون عليه في حياتهم الباقية ويقاومون به كل ما يواجهونه من إغراء وتسويل وتخويف وتزيين ويشركون في هذا الزاد إخوانهم المسلمين الذين قعد بهم الفقر أو الضعف أو المرض أو العدو.
فهيّا بنا نقف وقفات تربوية مع رحلة الحج لنأخذ العبرة والعظة والتربية، ثم ننطلق بها لسائر أمور حياتنا خارج الحج، فإلى هذه الوقفات:
أولاً: الحج تربية للنفس على مراقبة الله:
إذا ارتكب الحاج محظوراً من محظورات الإحرام وجب أن يعود إلى ضميره فيكفر عن هذا المحظور الذي وقع فيه بإراقة دم أو صدقة أو صيام، والسلطة التي تضبط ذلك وتسجله هي مراقبة الله، وفي هذا تربية للضمير وارتقاء به وإعلاء من منزلته وقيمه، فاستحق هذا الحاج المغفرة بابتعاده عن الرفث والفسوق والجدال.
وفي الطواف -أيها المؤمنون والمؤمنات- وسيلة أخرى لتربية النفس على مراقبة الله:
فالحاج يطوف حول الكعبة ويطوف حوله نسوة، وقد يكون في الطواف شيء من الزحام مما قد يوقع البصر على ما لا يجوز النظر إليه من النساء الأجنبيات، لكن المسلم يترك ذلك لأن إيمانه يحجزه عن فعل المحظور لعلمه أن الله -جل وعلا- يراقبه ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وأن المخالفة والمعصية في الحرم ليست كغيرها من المخالفات.
ثانياً: الحج تربية للنفس على طاعة الله بعدم تعاطي بعض الطيبات والمباحات: كالجماع وما يؤدي إليه، والطيب وتغطية الرأس وغيرها، حتى تتعود النفس عدم التوسع في المباحات الذي يؤدي إلى الغفلة.
ثالثاً: الحج تربية للنفس على التجرد لله:
لا وصول إلى الله -جل وعلا- إلا بالتنزه عن الشهوات، والكف عن اللذات، والاقتصار على الضرورات والحاجات، والتجرد لله في جميع الحركات والسكنات، ولذلك كُلف الناس في الحج أعمالاً لا تأنس بها النفوس ولا تهتدي إلى معانيها العقول (كالأعداد في رمي الجمار بالأحجار، والتردد بين الصفا والمروة على سبيل التكرار)، وبمثل هذه الأعمال يظهر كمال الرق والعبودية.
رابعاً: الحج تربية للنفس على الشوق إلى لقاء الله:
فربما يشتاق الإنسان إلى ربه أشد شوق فيحتاج إلى شيء يقضي به شوقه فلا يجده إلا الحج.
خامساً: الحج تربية للنفس على الإنجاز في العمل والضبط للمواعيد:
فـالحج أَشهُرٌ معلومات ليس في كل وقت وحين، فقد حددِّت بدايتُه ونهايتُه، ورُسِم لكل نسكٍ وقتٌ يناسبه، ويكون فيه أداؤه، لا يصح قبله ولا بعده.
إنها تربية للمسلم على أداء الأعمال في أوقاتها وتعويدٌ له على الدقة في الالتزام، وسرعة الإنجاز، وضبط المواعيد.
سادساً: الحج تربية للنفس على خدمة الخلق "خير الناس أنفعهم للناس":
سئل سعيد بن جبير: أي الحاج أفضل؟ قال: من أطعم الطعام وكف لسانه.
والإحسان إلى الرفقة في السفر أفضل من العبادة القاصرة،لاسيما إذا احتاج الحاج إلى خدمة إخوانه.
قال مجاهد: صحبت ابن عمر -رضي الله عنه- في السفر لأخدمه فكان يخدمني.
وكان إبراهيم بن أدهم يشترط على أصحابه في السفر الخدمة والأذان.
وكان ابن المبارك إذا أراد الحج من بلده "مرو" جمع أصحابه وقال: من يريد منكم الحج؟ فيأخذ منهم نفقاتهم فيضعها عنده في صندوق، ويقفل عليه ثم يحملهم وينفق عليهم أوسع النفقة، ويطعمهم أطيب الطعام، ثم يشتري لهم من مكة ما يريدون من الهدايا والتحف، ثم يرجع بهم إلى بلده، فإذا وصلوا صنع لهم طعاماً ثم جمعهم عليه ودعا بالصندوق الذي فيه نفقاتهم فرد إلى كل واحد نفقته.
سابعاً: الحج تربية للنفس على الرجاء والخوف:
يجب على الإنسان أن يكون راجياً من الله القبول، خائفاً أن يقال له: "لا لبيك ولا سعديك".
ثامناً: الحج تربية للنفس على تذكر أحوال الآخرة:
فيتذكر عند ركوبه الراحلة التي تحمل عنه الأذى وتخفف عنه المشقة ركوبه المركب الذي يركبه إلى الدار الآخرة وهي الجنازة التي يُحمل عليها.
وعند شراء ثوبي الإحرام يتذكر عنده الكفن ولفه فيه. وعند دخوله إلى الميقات ومشاهدة تلك العقبات: يتذكر فيها ما بين الخروج من الدنيا بالموت إلى ميقات يوم القيامة وما بينها من الأهوال والمطالبات.
تاسعاً: تربية النفس على الاستغفار في خواتيم الأعمال:
وصدق الله العظيم: (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [البقرة:199]. استغفروه من كل ما مسَّ الحجَّ من مخالفات ولو يسيرة هجست في النفس، أو نطق بها اللسان مما نُهي عنه من الرفث والفسوق والجدال.
عاشراً: الحج مصفاة موسمية للذنوب والخطايا:
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من حج هذا البيت فلم يرفث ولا يفسق رجع كما ولدته أمه" (متفق عليه).
اللهم بارِك لنا في الكتاب والسنة، وانفعنا بما فيهما من الآيات والحِكمة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد للَّه حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه كما يحبُّ ربُّنا ويرضى، وأَشهد أَن لا إِله إِلا الله وحده لا شَريك له، وأَشهد أَن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وعلى آله وأَصحابِه ومن اهتدى بهداهم إِلى يوم الدِّين.
أيها المؤمنون: ومن المعاني التربوية والإيمانية في الحج:
أحد عشر: الحج تربية على التقشف والإنفاق والآلام والمتاعب استعداداً للجهاد؛ عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "يا رسول الله نرى الجهاد أفضل العمل أفلا نجاهد؟ قال: "لا، ولكن أفضل الجهاد حج مبرر".
وكان عمر -رضي الله عنه- يقول: "شدوا الرحال في الحج؛ فإنه أحد الجهادين".
اثنا عشر: في الحج اجتماع المسلمين واجتماع هممهم ودعواتهم وقلوبهم الصادقة تحريكٌ لرحمة الله وتحريكٌ لقلوبهم القاسية وإثارة للأشواق:
فإذا اجتمعت هممهم، وتجردت للضراعة والابتهال قلوبهم، وارتفعت إلى الله سبحانه أيديهم، وامتدت إليه أعناقهم وشخصت نحو السماء أبصارهم مجتمعين بهمة واحدة على طلب الرحمة، فلا تظنن يا عبد الله أن الله -جل وعلا- يخيب أمالهم ويضيع سعيهم ويدخر عنهم رحمة تغمرهم.
ثالث عشر: الحج والحفاظ على الهوية الإسلامية:
فالحج مؤتمر المسلمين الجامع، الذي يتلاقون فيه مجردين من كل آصرة سوى آصرة الإسلام، متجردين من كل سمة إلا سمة الإسلام، عرايا من كل شيء إلا ثوب غير مخيط يستر العورة، ولا يميز فرداً عن فرد ولا قبيلة عن قبيلة ولا جنساً عن جنس.
إن رابطة الإسلام هي وحدها الرابطة، ونسب الإسلام هو وحده النسب، وصبغة الإسلام وحدها الصبغة. فالمسلمون لا تبتلعهم القوميات،كما ابتلعت أمماً كثيرة، إنما هي قبلة واحدة يتوجه إليها الشرقي والغربي والعجمي والعربي.
هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى فقد أمركم الله بذلك فقال جل من قائل عليماً: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب:56].