الحكم
كلمة (الحَكَم) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فَعَل) كـ (بَطَل) وهي من...
العربية
المؤلف | عبد الله بن علي الطريف |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - المنجيات |
وتكرير الدعاء عند الحاجة في المهمات والشدائد النازلة بالعبد إظهارٌ لموضع الفقرِ والتذللِ والخضوعِ لله -سبحانه-, قال ابن القيم -رحمه الله-: "ومن أنفعِ الأدويةِ الإلحاحُ في الدعاءِ"، وقال: "كلما ألحَ العبدُ على اللهِ في السؤالِ أحبَهُ وقربَهُ وأعطاه...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
الحمدُ لله برحمته اهتدى المُهتدونَ، وبعدلِهِ وحكمَتِهِ ضلَّ الضَالونَ، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُ الله ورسولُه, صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابِه وأتباعِه بإحسانٍ إلى يوم الدين, وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله؛ (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)[البقرة: 281].
أيها الإخوة: الدعاءُ ذلكم الحبلُ الموصولُ مع المولى -جل في علاه-, هو مفزعُ المحتاجِ, وسبيلُ المضطر, وعلامةُ صدق الاتصال بالله, وأدلُ دليلٍ على حاجةِ المرءِ لمولاه -تبارك وتعالى-, من فزعَ بالدعاءِ لمولاه سَعِدَ، ومن صُرف عنه شَقِي وخَسِر.
أحبتي: ومما يجب التفطن له في الدعاء تكراره ثلاثاً؛ فهو من هدي النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَدْ "كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا دَعَا دَعَا ثَلاثًا، وَإِذَا سَأَلَ سَأَلَ ثَلاثًا"(رواه مسلم عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-)؛ قال النووي- رحمه الله-: "فِيهِ اِسْتِحْبَابُ تَكْرِيرِ الدُّعَاءِ ثَلاثًا، وَقَوْلُه: "وَإِذَا سَأَلَ" هُوَ الدُّعَاء، لَكِنْ عَطَفَهُ لاخْتِلافِ اللَّفْظِ تَوْكِيدًا" اهـ.
وَقَالَتْ عَائِشَةُ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-: "سَحَرَ يَهُودِيٌّ مِنْ يَهُودِ بَنِي زُرَيْقٍ، يُقَالُ لَهُ: لَبِيدُ بْنُ الْأَعْصَمِ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- حَتَّى إِذَا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ، أَوْ ذَاتَ لَيْلَةٍ "دَعَا رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- ثُمَّ دَعَا، ثُمَّ دَعَا"(رواه مسلم)؛ أي: أنه كرر الدعاء, وتكرير الدعاء عند الحاجة في المهمات والشدائد النازلة بالعبد إظهارٌ لموضع الفقرِ والتذللِ والخضوعِ لله -سبحانه-, قال ابن القيم -رحمه الله-: "ومن أنفعِ الأدويةِ الإلحاحُ في الدعاءِ"، وقال: "كلما ألحَ العبدُ على اللهِ في السؤالِ أحبَهُ وقربَهُ وأعطاه، وفي الحديث: عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِنَّهُ "مَنْ لَمْ يَسْأَلِ اللَّهَ يَغْضَبْ عَلَيْهِ"(رواه الترمذي وحسنه الألباني عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-) أهـ.
أما ما نُسب إلى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- من قوله: "إِنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- يُحِبُّ الْمُلِحِّينَ فِي الدُّعَاءِ", فلا يصح عن النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-, وهو حديث باطل موضوع.
قال سماحة الشيخ ابن باز -رحمه الله-: "وعليه ينبغي للمرءِ أن يُكررَ الدعاءَ ويُحسِنَ الظنَ بالله -تعالى-، ويعلمَ أنه حكيمٌ عليم، قد يُعجلُ الإجابةَ لحكمةٍ وقد يُؤخرها لحكمةٍ، وقد يُعطي السائلَ خيراً مما سَأَلَ، قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو اللَّهَ بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا مَأْثَمٌ، وَلَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ؛ إِلَّا أَعْطَاهُ إِحْدَى ثَلَاثٍ: إِمَّا أَنْ يَسْتَجِيبَ لَهُ دَعْوَتَهُ، أَوْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا، أَوْ يَدَّخِرَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلَهَا", قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِذًا نُكْثِرُ!, قَالَ: "اللَّهُ أَكْثَرُ"(رواه الحاكم عَنْ أَبِي سَعِيدٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، وقال: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ, إِلَّا أَنَّ الشَّيْخَيْنِ لَمْ يُخَرِّجَاهُ, وقال الألباني: حديث حسن صحيح), وعلى المرءِ أن يرجو من ربِهِ الإجابة، ويُكثر من التوسلِ بأسمائِهِ وصفاتِهِ -سبحانه وتعالى-، مع الحذر من الكسب الحرام، والحرص على الكسب الطيبِ؛ لأن الكسبَ الخبيثَ من أسبابِ حِرمان الإجابة، ولا حول ولا قوة إلا بالله". أهـ.
أيها الإخوة: ينبغي للمرء أن يتحرى في الدعاء أوقاتَ الإجابة ومواضعها, مع الإخلاص لله والضراعة إليه, والانكسار والافتقار بين يديه -سبحانه وتعالى-، وكذا الإكثار من الثناء عليه، وأن يبدأ الدعاء بحمد الله والصلاةِ على النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فإن البداءةَ بحمدِ لله والثناءِ عليه والصلاةِ على النبي -صلى الله عليه وسلم- من أسبابِ الاستجابة؛ كما صح بذلك الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
وَأوقات الإجابة ومواطنها عديدة جاءت السنة ببيانِها؛ منها:
الأول: ما بين الأذانِ والإقامة؛ فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "الدُّعَاءُ لَا يُرَدُّ بَيْنَ الأَذَانِ وَالإِقَامَةِ"(رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه الألباني), فأين نحن من هذا العرض النبوي الكريم الذي يُعرض لنا خمس مرات باليوم والليلة؟! فهلا عرضنا حاجتنا بين يدي مولنا.!
الموطن الثاني: في السجود, سواء كان في فرضٍ أو نفل، قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ، وَهُوَ سَاجِدٌ؛ فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ"(رواه مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-), وقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "وَأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا فِي الدُّعَاءِ؛ فَقَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ"(رواه مسلم عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-).
الثالث من مواطن الإجابة: في التَّشَهُّدِ؛ فَقَدْ عَلَّمَ رَسُوْلُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- التشَهدَ ثم قَالَ لَهُ في آَخِرِهِ: "ثُمَّ يَتَخَيَّرُ مِنَ الدُّعَاءِ أَعْجَبَهُ إِلَيْهِ، فَيَدْعُو"(رواه البخاري), قال الشيخ ابن باز -رحمه الله-: "وهذا الوقت تُرجى فيه الإجابة؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما علَمهم التشهد قال: "ثُمَّ يَتَخَيَّرُ مِنَ الدُّعَاءِ أَعْجَبَهُ إِلَيْهِ، فَيَدْعُو".
ومن مواطن الإجابة: أدبار الصلاة المكتوبة؛ فَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَيُّ الدُّعَاءِ أَسْمَعُ؟ قَالَ: "جَوْفَ اللَّيْلِ الآخِرِ، وَدُبُرَ الصَّلَوَاتِ المَكْتُوبَاتِ"(رواه الترمذي وحسنه الألباني), قال شيخنا محمد العثيمين -رحمه الله-: "وليس المراد بأدبار الصلوات هي ما بعد السلام؛ لأن ما بعد السلام في الصلوات هو ليس محل دعاء, إنما هو محل ذكر, وعليه حري بنا أن نطيلَ التشهدَ الأخير ونتوسع بالدعاء، ومما يؤسف له عجلة بعض الناس, فتجده لو أطال الإمام قليلاً بدأ يتنحنح, ويظهر التبرم من عدم العجلة بالتشهد!".
الرابع من مواطن الإجابة: الدعاء في السُنَّةِ القبليّة لصلاة الظهر؛ فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّائِبِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يُصَلِّي أَرْبَعًا بَعْدَ أَنْ تَزُولَ الشَّمْسُ قَبْلَ الظُّهْرِ، وَقَالَ: "إِنَّهَا سَاعَةٌ تُفْتَحُ فِيهَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ، وَأُحِبُّ أَنْ يَصْعَدَ لِي فِيهَا عَمَلٌ صَالِحٌ"(رواه الترمذي وصححه الألباني), ومع الأسف كثير ما يثقلها علينا الشيطان.
والخامس من مواطن الإجابة: بعد الظهر من يوم الأربعاء، قَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: "دَعَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي مَسْجِدِ الْفَتْحِ ثَلاثًا يَوْمَ الاثْنَيْنِ، يَوْمَ الثُّلاثَاءِ، يَوْمَ الأَرْبِعَاءِ، فَاسْتُجِيبَ لَهُ يَوْمَ الأَرْبِعَاءِ بَيْنَ الصَّلاتَيْنِ"، قَالَ جَابِرٌ: فَلَمْ يَنْزِلْ بِي أَمْرٌ يَهُمُّ إِلا تَوَخَّيْتُ تِلْكَ السَّاعَةَ، فَأَدْعُو فِيهَا فَأَعْرِفُ الإِجَابَةَ"(رواه أحمد والبزار وحسنه الألباني).
أسأل الله -تعالى- ألا يحرمنا فضله وأن يوفقنا لإخلاص الدعاء وأن يكرمنا بالإجابة.
نفعني الله وإياكم بالكتاب والسنة, وبما فيهما من الهدى والحكمة, واستغفروا الله إنه كان غفارا.
الخطبة الثانية:
الحمد لله العليم الخبير, وصلى الله وسلم على البشير النذير والسراج المنير, وعلى آله وصحبه وأتباعه, أما بعد:
أيها الإخوة: أفضل أوقات إجابة الدعاء: الثلث الأخير من الليل، حين ينادي الرب -تبارك وتعالى- كما قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "يَنْزِلُ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ, يَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ, مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ"(رواه البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-), ولعل قول أبي بكر الطرطوشي -رحمه اللّه-: "ليس بفقيه من كانت له إلى الله حاجة ثم نام عنها في الأسحار", أبلغ بيان لفضله.
ومن مواطن الإجابة: الدعاء عند الاستيقاظ من النوم بالليل لأي سبب, وهذه فرصة تفوت علينا كثيراً ، قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ تَعَارَّ مِنَ اللَّيْلِ، فَقَالَ: لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، الحَمْدُ لِلَّهِ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ، وَلاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، أَوْ دَعَا؛ اسْتُجِيبَ لَهُ، فَإِنْ تَوَضَّأَ وَصَلَّى؛ قُبِلَتْ صَلاَتُهُ"(رواه البخاري عَنِ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-).
ومن مواطن الإجابة كذلك: الدعاء عند نزول الغيث، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "ثِنْتَانِ لَا تُرَدَّانِ"، أَوْ قَالَ: "قَلَّ مَا تُرَدَّانِ: الدُّعَاءُ عِنْدَ النِّدَاءِ، وَتَحْتَ الْمَطَرِ"(رواه الحاكم وأبو داود عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-).
أيها الإخوة: وأختم هذه المواضع بموضع يعرفه كل مسلم, ولا يستفيد منه إلا القليل!, وهو ساعة الإجابة يوم الجمعة؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ذَكَرَ يَوْمَ الجُمُعَةِ، فَقَالَ: "فِيهِ سَاعَةٌ لاَ يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ، وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي، يَسْأَلُ اللَّهَ -تَعَالَى- شَيْئًا؛ إِلَّا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ", وَأَشَارَ بِيَدِهِ يُقَلِّلُهَا, قيل: إنّها آخر نهار الجمعة إلى غروب الشمس, وورد أنّها من حين جلوس الإمام على المنبر، إلى قضاء الصلاة, قاله عُمَرُ بنْ الخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "هِيَ مَا بَيْنَ أَنْ يَجْلِسَ الْإِمَامُ إِلَى أَنْ تُقْضَى الصَّلَاةُ"(رواه مسلم), والأولى الجمع بينها.