الكريم
كلمة (الكريم) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل)، وتعني: كثير...
العربية
المؤلف | محمد بن فهد الأحمد |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - المنجيات |
أيها الكرام: الابتسامة لها مفعول السحر في التأثير على الآخرين، وطلاقةُ الوجه تُذيب ما في الصدور من الشحناء والبغضاء، وهي مطرقةٌ على رأس الشيطان، فتضربُ الابتسامةُ رأسَ الشيطان، فلا يجد حينئذ مدخلاً لها بين قلوب المبتسمين. أخي الكريم: ادخل على والديك وأنت مبتسم لتنالَ أجر الابتسامة، وأجر برِّك لهم بهذا الفعل. لا تجلس مع...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم على محمد بن عبدالله وعلى آله وصحبه أجمعين.
أَمَّا بَعْدُ: فمن رحمة الله بالمؤمنين أنه فرض عليهم شرائعه، ووضع لهم قاعدةً عامةً فيما يعمله المسلم، فقد قال لنا -صلى الله عليه وسلم-: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى"؛ فكلُّ عملٍ تعمله وتحتسبُ فيه النيةَ الصالحة والأجرَ من الله، فسوف تجدُها في صحيفة أعمال يوم العرض.
إخوة الإيمان: ذكرنا في خطبةٍ قبل شهر أن على المسلم أن لا يحتقر من العمل شيئاً؛ فرُبَّ عملٍ صغَّرَتْه الأعين، كان سببًا لرضا الرحمن، والفوز بالجنان.
أيها المسلمون: من الأعمال الصالحة التي يغفلُ عنها كثير من الناس، أو يغفل عن احتساب النية والأجر فيها، عملٌ يسيرٌ جداً، لا يُكلِّفُ المرءُ فيها نفسَه إلا ما هو كلمح البصر، إنَّه عمل جعلَه رسولنا -صلى الله عليه وسلم- من الصدقات، إلا أنها صارت صدقةً منسيةً في ظلِّ هذا الزمن الذي طغت فيه الماديات، والمصالحُ الشخصية، وامتلأت بعضُ القلوب بالشحناء على إخوةٍ لهم من المؤمنين.
أيها الإخوة الكرام: إنني أعني الابتسامة؛ ذلكم الهدي النبوي، والذي كان شعاراً للنبي -صلى الله عليه وسلم-. تنطلقُ الابتسامةُ من الشفتين بأيسر ما يكون؛ لا تحتاج إلى بذل مال ولا قوة جسد؛ لتمسَّ في المقابلِ قلباً فتخالطَه، وتمسحُ آلامَ من تُقابلُه وتداوي جراحَ من تُرافقه.
أيها الإخوة: يقول لنا -صلى الله عليه وسلم- مبيناً لنا عِظم هذا الفعل، وأنه من المعروف الذي تُكتب للإنسان بفعله صدقة: "تبسمك في وجه أخيك صدقة"(صححه الألباني في صحيح الأدب المفرد وفي الصحيحة، ح572).
فيا لله الكريم: جعلنا لنا في هذه الحركةِ التلقائية صدقةً تُكتَبُ لنا يوم القيامة لتكون في مثاقيل موازيننا، يتنافس فيها المتنافسون أيُّهم أكثرُ فعلاً لها لتزداد الحسنات في صحيفةِ العبد يوم القيامة بشرطِ أن نحتسبَ أجرها عند الله.
أيها الكرام: الابتسامة لها مفعول السحر في التأثير على الآخرين، وطلاقةُ الوجه تُذيب ما في الصدور من الشحناء والبغضاء، وهي مطرقةٌ على رأس الشيطان، فتضربُ الابتسامةُ رأسَ الشيطان فلا يجد حينئذ مدخلاً لها بين قلوب المبتسمين.
أخي الكريم: ادخل على والديك وأنت مبتسم لتنالَ أجر الابتسامة، وأجر برِّك لهم بهذا الفعل.
لا تجلس مع إخوتِك وأصحابِك إلا وقد سبقت ابتسامَتُك سلامَك، فتصفى القلوبُ حينئذ.
وليستقبلُك أبناؤك وزوجتُك وقد أكرمتَهم بابتسامتك، فتزدادَ الألفةُ فيما بينك وبينهم.
وإذا دخلتَ محلاً، أو أتيتَ عملك فلتكن الابتسامةُ هي عنوانُك وشعارك.
ابتسم لكلِّ من تلقاه عينك، عند الإشارة وأنت واقفٌ بسيارتك، وعند خروجك من المسجد، وعند لقياك للناس في أي مكان. تُذيب بها ما في القلوب، وتكسر الحواجز بينك وبين الآخرين، وتبدأ بها يوماً سعيداً.
أيها الكرام: لم تكن الابتسامةُ ضعفاً، بل هي عنوان القوةِ والكمالِ والثقةِ. ولذلك يقول لنا الصحابي الجليل عبدالله بن الحارث: "ما رأيتُ أحداً أكثر تبسماً من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "(صححه الألباني).
ولتبسمه وطلاقة وجهه كان يظن الرائي له أنه من أحب الناس إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. وكان يقول جرير بن عبدالله -رضي الله عنه-: "ما رآني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا تبسم في وجهي"(متفق عليه).
فانظر إلى حال أكمل الخلق في الدين والمروءة، كان دائم البِشْر والتبسم، مع أنه كان يحمل همَّ بيته وهمَّ أصحابه وهمَّ أمته وهمَّ الوحي، إلا أن ابتسامته -صلى الله عليه وسلم- كانت عنواناً له، يؤلِّف بها قلب من رآه، ويأسِرُ بها من نظر إليه، ويُكرِم بها أصحابه، يذيبُ بها النبي -صلى الله عليه وسلم- الجليد من الصدور، ويزيل الوحشةَ من النفوس. أيها الأحبة: يقول لنا -صلى الله عليه وسلم-: "إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم، ولكن يسعهم منكم بسطُ الوجه، وحسن الخلق"(قال الألباني صحيح الترغيب: حسن لغيره).
نعم -إخوةَ الإسلام-: كم نحن بحاجةٍ إلى هذا الخلق الكريم في حياتِنا كلِّها؟ فلن نملكَ أحداً من الناس؛ حتى أهلَنا وأصحابَنا بأموالنا أو بنفوذنا، ولكننا سنملكهم بطلاقة الوجه وحسن التعامل.
الابتسامة تَحْدُث في ومْضةٍ أقلَّ من الثانية، إلا أنه سيبقى أثرُها دهراً طويلاً على من تلقَّاها منك، وهي المفتاح الذي تفتح به أقسى القلوب، تُسرِّي عن القلب، وتَجْلِبُ البشر.
ابتسامتُك تزيدك بهاءً ونوراً، وألقاً وسروراً. الابتسامة تزيدك تفاؤلاً وهمةً للإنجاز والعمل، وبالابتسامة تتغلب على هموم الحياة، وكدر هذه الدنيا الدنيئة، وبالابتسامة توجد لك أملاً نحو الحياة السعيدة.
أيها الإنسان الكريم: تَسلُّحَك بالابتسامة والبشاشة تقتل من أمامك ممن يريد بك الشر، أو على الأقل يريد إهانتك، فقد روي في سيرة وترجمة الإمام موفق الدين ابن قدامة، أنه كان في مناظراته مع الآخرين، والتي قد تستلزم أو تجعلُ الإنسان غاضباً مكفهراً غضوباً إلا أنه -رحمه الله- لم يكن يناظر أحداً إلا وهو مبتسم، فيقولون: هذا الشيخ يقتل خصمه بتبسمه (ذيل طبقات الحنابلة، لابن رجب 3/288).
يقول الإمام الذهبي: "فهذا هو خلق الإسلام -يعني التبسم-، فأعلى المقامات من كان بكَّاء بالليل، بسَّامًا بالنهار"(سير أعلام النبلاء 10/141).
ذلك أن الابتسامة هي بوابة حسنِ الخلق، وحسنُ الخلق جعله النبي -صلى الله عليه وسلم- في مرتبةٍ عليا، وضمن لصاحبه بيتاً في أعلى الجنة: "أنا زعيمٌ ببيت في أعلى لمن حَسَّن خلقه"(حسنه الألباني في الصحيحة ح273).
بل قال -صلى الله عليه وسلم-: "إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم"(رواه أبو داود 4798).
فحينما يقبضُ ملكُ الموتِ روحَك، ونقف جميعاً أمام ربِّ العالمين، ستجد أثرَ هذه الابتسامة، وأثر الخلق الحسن في ميزان حسناتك إذا احتسبت هذا الفعل، يقول -صلى الله عليه وسلم-: "مَا شَيْءٌ أَثْقَلُ فِي مِيزَانِ الْمُؤْمِنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ خُلُقٍ حَسَنٍ"(رواه الترمذي 2120، وأبو داود 4799).
نعم -أخي المؤمن-: كما قال -صلى الله عليه وسلم-: "لَا تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ"(رواه مسلم 2626) أي: بوجهٍ سهل منبسطٍ بشوش.
قال ابن عبد البر -رحمه الله-: "ولا ينبغي للعاقل المؤمن أن يحتقر شيئاً من أعمال البر، فرُبَّما غُفِرَ له بأقلِّها"(التمهيد 5/273-274).
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه؛ إنَّه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على محمد خير النبيين وعلى آله ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فكثيرٌ من الناس يعتقد أن تقطيب الحاجبين، وتعبيس الوجه، هي من صفات القوة والرجولة، وما يدري هذا المسكين أن أصحاب الابتسامة وطلاقة الوجه قد سبقوه بمراحل كثيرةٍ في الحسنات، والدرجات العلى، واتباع سنةِ النبي -صلى الله عليه وسلم-.
بعضهم لا تعرف منظر أسنانه بسبب عبوسه وتجهمه: "وكأنه إذا ابتسم نقص عمره، أو قلَّ ماله"(استمتع بحياتك، للعريفي 300).
فأين هؤلاء من سنة التبسم في الإسلام، وهدي أحب الخلق إلى الرحمن؟! العبوس: "خلق مركَّبٌ من الكِبْر، وغلظ الطبع، فإن قلَّة البشاشة هي من استهانة بالناس، والاستهانة بالناس تكون من الإعجاب والكبر"(الجاحظ، نقلاً عن نضرة النعيم، ص4927).
أيها الكرام: الرجل الذي تهربُ منه البسْمة، ولا يجد الرائي له إلا وجهاً مُقطِّباً عبوساً، ينفرُ منه الناس، بل ينفرُ منه أهله وأقاربُه، ولا يجدون في أنفسهم قبولاً له. تجده في بؤسٍ من الحال، ووحشةٍ من النفس، وما ذاك إلا أنه خالف الهدي النبوي في البشاشة، وطلاقة الوجه. الرجل الكريم القوي: لا تجده عابساً حتى في أحلك الظروف، بل يتغلب على عواطفه، ويقدِّم الابتسامة ليتغلب على أسوأ المواقف.
يقول أنس بن مالك -رضي الله عنه-: "كُنْتُ أَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَعَلَيْهِ رِدَاءٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ الْحَاشِيَةِ -أطرافه كبيرة وخشنة-، فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ، فَجَبَذَهُ بِرِدَائِهِ جَبْذَةً شَدِيدَةً، وَقَدْ أَثَّرَتْ بِهَا حَاشِيَةُ الرِّدَاءِ مِنْ شِدَّةِ جَبْذَتِهِ، ثُمَّ قَالَ -انظر سبب هذه الحركة العنيفة- قال: يَا مُحَمَّدُ -لاحظ أنه لم يقل يا رسول الله- مُرْ لِي مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي عِنْدَكَ، فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَضَحِكَ، ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ"(متفق عليه، واللفظ للبخاري).
نعم لم يكفهرَّ وجهه، ولم يعبُس ولم يأمر الصحابةَ بضرب هذا الرجل، بل تغلب على الموقف كلِّه بابتسامة وضحك، ولبَّى له ما يريد. لم ينتصر النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- لنفسه أو ينتقم لوجاهته ومنصبه.
أيها الإخوة الأفاضل: "كم مِنْ مُقبلٍ أبعدته غِلظَةٌ وتقطيبُ جَبين؟! وكم مِنْ مُدبرٍ أعادَته ابتسامَةٌ وردَّته إلى حياضِ الخير؟! فما أعظمَها أجراً، وأثقلَها وَزناً، وأبلَغها أَثراً! وما أيسرَها أداءً، وأخفَّها فعلاً، وأسرعَها تأثيراً!؛ (وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيم)[فُصِّلَت: 34].
فاتّقِ الله، واترك التقطيب والعبوس، خصوصاً من أهل الفضل والمروءة؛ قال سعيد بن عبدالرحمن: "يعجبني من القراء كل سَهْل طَلْق؛ فأما أن تلقاه بِبِشْرٍ ويلقاك بعبوس فلا كثَّر الله في القراء ضرب هذا"(الثقات لابن حبان 8/260-261).
ولتُظهِر البشاشة والسرور، والتي تدلُّ على ما القلب من حبٍّ وارتياح. واحذر من التفريق في الابتسامة بين وجه الغني وبين وجه الفقير، أو الذي هو أقلُّ منك في مراتب الدنيا، فربَّ عبوسٍ ناتج عن كبر يكون في حسابك وعقابك يوم القيامة، وربَّ ابتسامةٍ لمسلم نتجت عن تواضع يكون فيه فلاحك يوم القيامة.
أخي الكريم: لا تجعل من شخصيتِك السابقة التي ليس لها حظ من هدي النبوة سبباً في عدم ابتسامتك، فالأمور تأتي بالدربة والمراس، جربها وتكلَّفها في الوقت الحالي، فلا يأتي عليك زمان إلا وستكون هذه الابتسامةُ النبوية رسْمكَ وشعارك.
قال الإمام الذهبي -رحمه الله-: "ينبغي لمن كان عبوسًا منقبضًا أن يتبسم، ويُحَسِّن خُلقه، ويمقت نفسه على رداءة خلقه، وكل انحراف عن الاعتدال فمذموم، ولا بد للنفس من مجاهدة وتأديب"(السير 10/141) وقبلها، قال: ينبغي لمن كان ضحوكًا بسّامًا أن يقصر من ذلك، ويلوم نفسه حتى لا تمجه الأنفس، وينبغي لمن كان عبوساً.
وصلوا وسلموا |