الرحمن
هذا تعريف باسم الله (الرحمن)، وفيه معناه في اللغة والاصطلاح،...
العربية
المؤلف | د عبدالله بن مشبب القحطاني |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التوحيد |
فَرَبُّنَا عَالِمٌ بِسَرَائِرِ عِبَادِهِ، وَضَمَائِرِ قُلُوبِهِمْ، لَا تَعْزُبُ عَنْهُ الْأَخْبَارُ الْبَاطِنَةُ، وَلَا يَجْرِي فِي الْمُلْكِ وَالْمَلَكُوتِ شَيْءٌ، وَلَا تَتَحَرَّكُ ذَرَّةٌ وَلَا تَسْكُنُ، وَلَا تَضْطَرِبُ نَفْسٌ وَلَا تَطْمَئِنُّ إِلَّا وَيَكُونُ عِنْدَهُ...
الخطبة الأولى:
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 70-71]، أَمَّا بَعْدُ:
عِبَادَ اللَّهِ: أَخْرَجَ النَّسَائِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ: "أَنَّ أَعْرَابِيًّا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَآمَنَ بِهِ وَاتَّبَعَهُ، ثُمَّ قَالَ: أُهَاجِرُ مَعَكَ؛ فَأَوْصَى بِهِ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَعْضَ أَصْحَابِهِ. فَلَمَّا كَانَتْ غَزْوَةُ خَيْبَرَ غَنِمَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سَبْيًا، فَقَسَمَ وَقَسَمَ لَهُ، فَأَعْطَى أَصْحَابَهُ مَا قَسَمَ لَهُ، وَكَانَ يَرْعَى ظَهْرَهُمْ، فَلَمَّا جَاءَ؛ دَفَعُوهُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالُوا: قَسْمٌ قَسَمَهُ لَكَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ فَأَخَذَهُ، فَجَاءَ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالَ: "قَسَمْتُهُ لَكَ" قَالَ: مَا عَلَى هَذَا اتَّبَعْتُكَ، وَلَكِنِّي اتَّبَعْتُكَ عَلَى أَنْ أُرْمَى إِلَى هَا هُنَا -وَأَشَارَ إِلَى حَلْقِهِ بِسَهْمٍ- فَأَمُوتَ فَأَدْخُلَ الْجَنَّةَ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنْ تَصْدُقِ اللَّهَ يَصْدُقْكَ" فَلَبِثُوا قَلِيلًا، ثُمَّ نَهَضُوا فِي قِتَالِ الْعَدُوِّ، فَأُتِيَ بِهِ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُحْمَلُ قَدْ أَصَابَهُ سَهْمٌ حَيْثُ أَشَارَ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَهُوَ هُوَ؟" قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: "صَدَقَ اللَّهَ فَصَدَقَهُ" ثُمَّ كَفَّنَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي جُبَّةِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ثُمَّ قَدَّمَهُ فَصَلَّى عَلَيْهِ، فَكَانَ فِيمَا ظَهَرَ مِنْ صَلَاتِهِ: "اللَّهُمَّ هَذَا عَبْدُكَ خَرَجَ مُهَاجِرًا فِي سَبِيلِكَ فَقُتِلَ شَهِيدًا؛ أَنَا شَهِيدٌ عَلَى ذَلِكَ".
أَعْمَالُ الْجَوَارِحِ تَتْبَعُ أَعْمَالَ الْقُلُوبِ فَإِذَا صَلُحَ الْقَلْبُ صَلُحَ الْجَسَدُ، وَإِذَا فَسَدَ الْقَلْبُ فَسَدَ الْجَسَدُ، وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ الْمُحَاسَبَةُ عَلَى مَا جَاءَ فِي الْقَلْبِ؛ (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)[الشُّعَرَاءِ: 88-89].
وَلَا يَعْلَمُ مَا فِي الْقُلُوبِ إِلَّا اللَّهُ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ، قَالَ اللَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَنْ نَفْسِهِ: (وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)[الْبَقَرَةِ: 234]، (وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ)[الْأَنْعَامِ: 18].
فَرَبُّنَا عَالِمٌ بِسَرَائِرِ عِبَادِهِ، وَضَمَائِرِ قُلُوبِهِمْ، لَا تَعْزُبُ عَنْهُ الْأَخْبَارُ الْبَاطِنَةُ، وَلَا يَجْرِي فِي الْمُلْكِ وَالْمَلَكُوتِ شَيْءٌ، وَلَا تَتَحَرَّكُ ذَرَّةٌ وَلَا تَسْكُنُ، وَلَا تَضْطَرِبُ نَفْسٌ وَلَا تَطْمَئِنُّ إِلَّا وَيَكُونُ عِنْدَهُ خَبَرُهَا.
أَحَاطَ عِلْمُهُ بِالظَّوَاهِرِ وَالْبَوَاطِنِ وَالْإِسْرَارِ وَالْإِعْلَانِ، وَبِالْوَاجِبَاتِ وَالْمُسْتَحِيلَاتِ وَالْمُمْكِنَاتِ، وَبِالْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ، وَالْمَاضِي وَالْحَاضِرِ وَالْمُسْتَقْبَلِ؛ فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنَ الْأَشْيَاءِ.
يُخْبِرُ بِعَوَاقِبِ الْأُمُورِ وَمَآلَاتِهَا وَمَا تَصِيرُ إِلَيْهِ، "يَعْلَمُ مَا كَانَ وَمَا يَكُونُ، وَمَا لَمْ يَكُنْ لَوْ كَانَ كَيْفَ يَكُونُ"؛ (الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا)[الْفُرْقَانِ: 59]؛ فَاللَّهُ عَلِيمٌ بِظَوَاهِرِ الْأُمُورِ، خَبِيرٌ بِبَوَاطِنِهَا.
خَبِيرٌ بِالْحَقَائِقِ وَالْمَعَانِي | عَلِيمٌ لَا يُمَارَى أَوْ يُجَارَى |
مُحِيطٌ لَا يَفُوتُ عَلَيْهِ شَيْءٌ | وَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ مَا تَوَارَى |
فَاللَّهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ بِأَنَّهُ الْخَبِيرُ، بَلْ رَبَطَ اسْمَهُ -جَلَّ وَعَلَا-: "الْخَبِيرَ" بِمَا يَفْعَلُهُ وَيَعْلَمُهُ وَيَصْنَعُهُ الْإِنْسَانُ فَوْقَ عِشْرِينَ مَرَّةً؛ لِيَحُثَّهُ عَلَى التَّقْوَى؛ (إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ)[الْمَائِدَةِ: 7].
وَحَثَّهُ أَنْ يَنْظُرَ لِأَعَمَالِهِ بَاطِنِهَا وَظَاهِرِهَا، فَمَنْ زَادَ إِيمَانُهُ بِهَذَا الِاسْمِ: "الْخَبِيرِ"؛ أَصْبَحَ خَبِيرًا بِمَا يَجْرِي فِي عَالَمِهِ، وَعَالَمُهُ هُوَ قَلْبُهُ وَبَدَنُهُ، وَالْخَفَايَا الَّتِي يَتَّصِفُ بِهَا الْقَلْبُ؛ مِنْ غِشٍّ وَخِيَانَةٍ، وَإِضْمَارِ الشَّرِّ.
وَاللَّهُ -جَلَّ وَعَلَا- لَا يَنْظُرُ إِلَى الصُّوَرِ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى الْقُلُوبِ وَالْأَعْمَالِ، فَلَا نَجَاةَ مَعَ الْخَبِيرِ إِلَّا لِمَنْ أَقْبَلَ عَلَيْهِ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ؛ (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)[الشُّعَرَاءِ: 88-89]، (أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ * وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ * إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ)[الْعَادِيَاتِ: 9-11].
وَإِنَّكَ لَتَرَى عَمَلًا صَالِحًا يَعْمَلُهُ الرَّجُلَانِ؛ فَيُتَقَبَّلُ مِنْ أَحَدِهِمَا، وَلَا يُتَقَبَّلُ مِنَ الْآخَرِ؛ فَهَذَا يُصَلِّي فَتُقْبَلُ صَلَاتُهُ، وَبِجَانِبِهِ آخَرُ يُصَلِّي فَلَا يَكُونُ لَهُ مِنْ صَلَاتِهِ إِلَّا مَا عَقَلَ مِنْهَا، قَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّ الرَّجُلَ لَيُصَلِّي الصَّلَاةَ، وَلَعَلَّهُ لَا يَكُونُ لَهُ مِنْهَا إِلَّا عُشْرُهَا، أَوْ تُسْعُهَا، أَوْ ثُمُنُهَا، أَوْ سُبُعُهَا، أَوْ سُدْسُهَا" حَتَّى أَتَى عَلَى الْعَدَدِ"(حَدِيثٌ صَحِيحٌ، رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ).
وَهَذَا يَتَصَّدَقُ، فَيَتَقَبَّلُهَا اللَّهُ وَيُنَمِّيهَا لَهُ -كَمَا يُنَمِّي أَحَدُنَا فُلُوَّهُ-، وَالْآخَرُ يَتَصَدَّقُ؛ فَيَرُدُّهَا اللَّهُ، بَلْ وَيُعَذَّبُ بِهَا؛ (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)[الْبَقَرَةِ: 271].
وَالرَّجُلُ الْغَنِيُّ الْكَرِيمُ الَّذِي يَسْأَلُهُ اللَّهُ -جَلَّ وَعَلَا-: "مَاذَا عَمِلْتَ؟ فَيَقُولُ: أَنْفَقْتُ فِي سَبِيلِكَ وَتَصَدَّقْتُ، فَيُقَالُ لَهُ: لَا، وَلَكِنَّكَ تَصَدَّقْتَ لِيُقَالَ: هُوَ مُحْسِنٌ، وَقَدْ قِيلَ، فَيُؤْخَذُ فَيُلْقَى فِي النَّارِ" كَمَا صَحَّ هَذَا فِي الْحَدِيثِ الطَّوِيلِ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ).
نَعَمْ؛ إِنَّهُ الْخَبِيرُ بِبَوَاطِنِ الْأُمُورِ، وَبَوَاعِثِ الْفِعْلِ.
ذَاكَ الَّذِي يَغُضُّ بَصَرَهُ أَمَامَ النَّاسِ وَيَتَصَنَّعُ، ثُمَّ إِذَا خَلَا بِنَفْسِهِ مَدَّ بَصَرَهُ إِلَى الْحَرَامِ وَانْتَهَكَ الْمُحَرَّمَاتِ هَلْ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَى قَلْبِهِ عَدَا الْخَبِيرَ الْبَصِيرَ؟ (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ)[غَافِرٍ: 19].
رَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنْ ثَوْبَانَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: "لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا، فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ -جَلَّ وَعَلَا- هَبَاءً مَنْثُورًا" قَالَ ثَوْبَانُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، صِفْهُمْ لَنَا؟ جَلِّهِمْ لَنَا؟ أَنْ لَا نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ؟ قَالَ: "أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ، وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ، وَيَأْخُذُونَ مِنَ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ؛ وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا"(حَدِيثٌ صَحِيحٌ)، وَقَالَ جَلَّ وَعَلَا مُنَبِّهًا أَهْلَ الرِّيَاءِ: (إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ)[النُّورِ: 30].
اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ.
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ؛ فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ لِلَّـهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
عِبَادَ اللَّهِ: مَنْ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِبَوَاطِنِ أَمْرِهِ، مُطَّلِعٌ عَلَيْهِ؛ اسْتَحْيَا أَنْ يَرَاهُ اللَّهُ فِيمَا لَا يُحِبُّ، ثُمَّ أَحْسَنَ عَمَلَهُ، وَأَخْلَصَ عِبَادَتَهُ؛ حَتَّى يَصِلَ بِهِ الْحَالُ إِلَى مَقَامِ الْإِحْسَانِ الَّذِي وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: "أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ"(أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ)؛ فَإِذَا بَلَغَ تِلْكَ الْمَرْتَبَةَ فَقَدْ حَصَلَ لَهُ أَطْيَبُ مَا فِي الدُّنْيَا.
قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: "مَسَاكِينُ أَهْلُ الدُّنْيَا؛ خَرَجُوا مِنَ الدُّنْيَا وَمَا ذَاقُوا أَطْيَبَ مَا فِيهَا، قِيلَ: وَمَا أَطْيَبُ مَا فِيهَا؟ قَالَ: مَحَبَّةُ اللَّهِ، وَالْأُنْسُ بِهِ، وَالشَّوْقُ إِلَى لِقَائِهِ، وَالتَّنَعُّمُ بِذِكْرِهِ وَطَاعَتِهِ".
وَقَالَ آخَرُ: "مَنْ قَرَّتْ عَيْنُهُ بِاللَّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- قَـرَّتْ بِهِ كُلُّ عَيْنٍ، وَمَنْ لَمْ تَقَرَّ عَيْنُهُ بِاللَّهِ تَقَطَّعَ قَلْبُهُ عَلَى الدُّنْيَا حَسَرَاتٍ".
فَهَؤُلَاءِ لَـمَّا عَلِمُوا أَنَّ اللَّهَ الْخَبِيرَ الْمُطَّلِعَ عَلَى خَلَجَاتِ الْأَنْفُسِ، وَخَوَاطِرِ الْقُلُوبِ، وَخَائِنَةِ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ اسْتَقَامَتْ حَيَاتُهُمْ، وَخَشَعَتْ جَوَارِحُهُمْ، وَطَابَتْ أَقَوَالُهُمْ، وَحَسُنَتْ سَرِيرَتُهُمْ.
وَالْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ إِذَا أَخَذَ حَظَّهُ مِنِ اسْمِ اللَّهِ: "الْخَبِيرِ" -جَلَّ وَعَلَا- أَصْبَحَ فِي مَعِيَّةِ اللَّهِ، وَإِذَا أَصْبَحَ فِي مَعِيَّتِهِ يَرْفَعُهُ وَيُطَهِّرُهُ، وَيَجْعَلُهُ مَشْغُولًا بِهَذِهِ الْمَعِيَّةِ عَنْ غَيْرِهَا، وَيَجْعَلُهُ فِي حَذَرٍ دَائِمٍ وَخَشْيَةٍ دَائِمَةٍ، وَيَكْفِيهِ اللَّهُ دُنْيَاهُ، وَيَجْعَلُهَا تَأْتِيهِ رَاغِمَةً، وَيَجْمَعُ شَمْلَهُ، وَيُبَارِكُ لَهُ فِي كُلِّ مَا رَزَقَهُ، وَلَا يَعْرِفُ الضِّيقُ وَالْهَمُّ وَالشَّيْطَانُ إِلَيْهِ سَبِيلًا؛ لِأَنَّ اللَّهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- قَالَ: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا)[الطَّلَاقِ: 2].
وَمَفَاتِحُ الْغَيْبِ خَمْسَةٌ لَا يَعَلَمُهَا إِلَّا اللَّهُ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)[لُقْمَانَ: 34].
وَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَنْ مَفَاتِحِ الْغَيْبِ، وَهِيَ غَيْبِيَّةٌ مُسْتَقْبَلِيَّةٌ، وَمَا سَيَقَعُ مِنْ أَهْوَالٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَحَالِ النَّاسِ بَيْنَ الشَّقَاءِ وَالسَّعَادَةِ: إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ الْعَلِيمِ الْخَبِيرِ؛ (وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ)[فَاطِرٍ: 14].
يَا مَنْ يَرَى مَا فِي الضَّمِيرِ وَيَسْمَعُ | أَنَتَ الْمُعِدُّ لِكُلِّ مَا يُتَوَقَّعُ |
يَا مَنْ يُرَجَّى لِلشَّدَائِدِ كُلِّهَا | يَا مَنْ إِلَيْهِ الْمُشْتَكَى وَالْمَفْزَعُ |
مَا لِي سِوَى فَقْرِي إِلَيْكَ وَسِيلَةٌ | فَبِالِافْتِقَارِ إِلَيْكَ فَقْرِيَ أَدْفَعُ |
مَا لِي سِوَى قَرْعِي لِبَابِكَ حِيلَةٌ | فَلَئِنْ رُدِدْتُ فَأَيَّ بَابٍ أَقْرَعُ |
حَاشَا لِمَجْدِكَ أَنْ تُقَنِّطَ عَاصِيًا | فَالْفَضْلُ أَجْزَلُ وَالْمَوَاهِبُ أَوْسَعُ |
اللَّهُمَّ الْطُفْ بِنَا يَا خَبِيرُ يَا عَالِـمًا بِالسَّرَائِرِ وَالضَّمَائِرِ.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْجَنَّةَ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالسَّدَادَ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالْعِفَّةَ وَالْغِنَى.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْجَنَّةَ، وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ، وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ مِنَ الْخَيْرِ كُلِّهِ؛ عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ، مَا عَلِمْنَا مِنْهُ وَمَا لَمْ نَعْلَمْ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنَ الشَّرِّ كُلِّهِ؛ عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ، مَا عَلِمْنَا مِنْهُ وَمَا لَمْ نَعْلَمْ، وَأَنْ تَجْعَلَ كُلَّ قَضَاءٍ قَضَيْتَهُ لَنَا خَيْرًا.
اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لَنَا دِينَنَا الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا دُنْيَانَا الَّتِي فِيهَا مَعَاشُنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا آخِرَتَنَا الَّتِي فِيهَا مَعَادُنَا، وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لَنَا فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَالْمَوْتَ رَاحَةً لَنَا مِنْ كُلِّ شَرٍّ.
اللَّهُمَّ أَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِنَا، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِنَا، وَاهْدِنَا سُبُلَ السَّلَامِ، وَأَخْرِجْنَا مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، وَبَارِكْ لَنَا فِي أَسْمَاعِنَا وَأَبْصَارِنَا وَقُوَّاتِنَا، وَأَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّتِنَا وَأَمْوَالِنَا، وَاجْعَلْنَا مُبَارَكِينَ أَيْنَمَا كُنَّا.
وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.