البحث

عبارات مقترحة:

العلي

كلمة العليّ في اللغة هي صفة مشبهة من العلوّ، والصفة المشبهة تدل...

الرحيم

كلمة (الرحيم) في اللغة صيغة مبالغة من الرحمة على وزن (فعيل) وهي...

الآخر

(الآخِر) كلمة تدل على الترتيب، وهو اسمٌ من أسماء الله الحسنى،...

الدين الحق

العربية

المؤلف سليمان بن حمد العودة
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات أركان الإيمان
عناصر الخطبة
  1. اختصاص القرآن الكريم بالحفظ إلى يوم القيامة .
  2. أنواع أناجيل النصارى ومدى ما فيها من تحريف .
  3. ختم الرسالات بالقرآن والنبيين بمحمد صلى الله عليه وسلم .
  4. شرائع الإسلام أعظم وأكمل مما في التوراة والإنجيل .
  5. الفرق بين الأمة الإسلامية وغيرها من الأمم .
  6. التعامل مع أخبار أهل الكتاب .

اقتباس

لا يسوغُ لأحد –مهما كان جنسه وديانته– أن يخرج عن شريعته ويتبع نبيًّا غيره، ومن فعل ذلك فهو من أهل النار، روى مسلم في صحيحه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "والذي نفسي بيده: لا يسمع بي أحد من هذه الأمة، يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلتُ به إلا كان من أهل النار".

 

 

 

 

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارض اللهم عن أصحابه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [الحشر: 18]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ) [لقمان: 33].

عباد الله: وفي سبيل استبانة سبيل المجرمين، ولبيان الحق في زمن صراع الحضارات، وغزو الأفكار، الذي بات ينتشر أكثر هذه الأيام، ومن المتوقع أن يزيد انتشاره مع بداية الألفية الثالثة، جرى في الجمعة الماضية حديث عن الإسلام مقارنًا بالأديان الأخرى –لا سيما اليهودية والنصرانية– وعُلم حكمُ الشرع وفتوى العلماء في دعوة وحدة الأديان، واليوم أستكمل الحديث عن القرآن مقارنًا بالكتب السماوية الأخرى، وعن محمد -صلى الله عليه وسلم- وحديث الأنبياء عنه، وعن الأمة المسلمة مقارنةً بالأمم الأخرى.

أيها الناس: ومن الإسلام بمفهومه الحق عبر القرون، إلى القرآن الكريم بوصفه آخر الكتب المنزلة، مصدقًا لما بين يديه من الكتب، ومهيمنًا عليها، اختصه الله من بين كتبه بالحفظ، فلا تستطيعه أيدي التحريف والتبديل، والوعد بذلك إلهي، والتأكيد رباني: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [الحجر: 9]، شملت آياتهُ وصايا السابقين، ولم تُغفل شرائع المرسلين، وزادت عليها أحكامًا وشرائع وهدى حتى أكمل اللهُ به الدين، وانقطع الوحي من السماء بعد موت المنزَّل عليه محمد -صلى الله عليه وسلم-.

فيه الهدى والنور والشفاء، وما به عوج ولا افتراء، بل قصّ الله فيه على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون، وحين استمع الجن إليه قالوا: (إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ) [الجن: 1، 2]. ما كان للقرآن أن يُفترى من دون الله، قصصُه أحسن القصص، ولو أن قرآنًا سُيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كُلِّم به الموتى لكان بهذا خليقًا.

منه السبعُ والمثاني، وكلّه قرآن عظيم، ولو أنزل على جبلٍ لرأيته خاشعًا متصدعًا من خشية الله، حوى من أخبار الأنبياء والأمم الماضية ما لم تحفل به الكتبُ السابقةُ عليه، ومن أخبار اليهود والنصارى ما لم يعلموا به من كتبهم، ولو لم يحفظ لنا القرآن هذه الأخبار والمغيبات لم نجده في أي كتاب آخر يُوثق به.

يقرأه الصغيرُ والكبير، والذكرُ والأنثى، ويتفق على ألفاظِه وكلماتِه وحروفه أهلُ المشرق وأهلُ المغرب، وتتواتر روايته عبر القرون، وأين هذا من الأناجيل والتوراة المختلفة والمحرفة، ماذا بقي منها يوثق به لم يُحرَّف؟! وأي فقرة من هذه الكتب يمكن الاطمئنان إليها على أنها من وحي السماء؟! والله يقول عن أصحابها: (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) [المائدة: 13]، ويقول عنهم أيضاً: (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ) [البقرة: 79].

عباد الله: ولو قارنّا كتاب الله -القرآن المحفوظ في الصدور والمحوط من الزيادة والنقصان- بآخر كتابٍ سماوي نزل قبله، وهو الإنجيل المنزل على عيسى –عليه السلام– لأدركنا الفرق في الحفظ بين الكتابين، فمَنْ كَتَبَ الإنجيل؟! وما الأناجيل الموجودة؟! وهل كتبها -أو أمر بكتابتها- المسيح -عليه السلام-؟!

يجيبُ عن ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في كتابه العظيم (الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح)، يقول في (الجزء الثاني ص11): وأما الأناجيلُ التي بأيدي النصارى، فهي أربعة أناجيل: إنجيل متى، ويوحنا، ولوقا، ومرقس، وهم متفقون على أن لوقا ومرقس لم يريا المسيح، وإنما رآه متّى ويوحنا، وأن هذه المقالات الأربعة التي يسمونها الإنجيل، وقد يُسمون كلَّ واحدٍ منها إنجيلاً، إنما كتبها هؤلاء بعد أن رُفع المسيح، فلم يذكروا فيها أنها كلامُ الله، ولا أن المسيح بلَّغها عن الله، بل نقلوا فيها أشياء من كلام المسيح، وأشياء من أفعاله ومعجزاته، وذكروا أنهم لم ينقلوا كل ما سمعوه منه ورأوه، فكانت من جنس ما يرويه أهل الحديث والسير والمغازي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من أقواله وأفعاله التي ليست قرآنًا... اهـ.

هذا إذا سلمت هذه الأناجيل من تحريف المحرفين وزيادات المبطلين عبر العصور.

وإذا قيل هذا عن الأناجيل –مع قرب العهد بها– فماذا يُقال عن التوراة والتلمود وهي أقدمُ عهدًا، واليهود أكثر تحريفًا؟! كيف وقد حوت هذه الكتب سوءَ أدبٍ مع الله، وإساءة للأنبياء -عليهم السلام- وإتهامًا لهم في أخلاقهم وأعراضهم؟! ومن نماذج ذلك تصويرُهم لوطًا عليه السلام سكيرًا وعاهرًا يزني بابنتيه في حال السكر. جاء ذلك في سفر التكوين، الإصحاح التاسع عشر.

ويصورون يعقوب –عليه السلام– بأنه محتالٌ، سرق النبوة من أخيه البكر بأسلوب قذر. كما جاء عندهم في سفر التكوين، الإصحاح السابع والعشرين.

أما عيسى -عليه السلام– فيقول اليهودُ في تلمودهم: إنه ابنٌ غيرُ شرعي، حملته أمه سفاحًا وهي حائض من العسكري باندارا... إلى غير ذلك من الخزعبلات، لولا بيانُ باطلهم لنزّهت أسماعكم وبيت الله من ذكرها، إن هذه الكتب لا يُمكن الاعتماد عليها على أنها كتب منزلة من السماء، وإذا نَهَرَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الفاروق وهو يُقلب صحيفةً من التوراة ويقولُ له: "والله لو كان أخي موسى حيًّا ما وسعه إلا اتباعي"، فماذا يُقال لغير عمر ممن هو أقل إيمانًا وفقهًا منه، حين يفكر في قراءة شيء من هذه الكتب المحرفة؟! أما كتابُ ربنا وعهدُه الأخيرُ للناس، والمعجزُ بحفظه، وبما حواه، فيكفيه شهادة الله له بالتصديق لما قبله، والهيمنة على الكتب السابقة عليه، قال تعالى: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَق) [المائدة: 48].

عباد الله: أما محمد -صلى الله عليه وسلم- فهو خاتم الأنبياء –عليهم السلام– وأفضلُهم، بَعثتُه للناس كافة، وبه ختم الله رسالاتِ السماء، هو دعوةُ أبيه إبراهيم -عليه السلام- حين قال وابنه إسماعيل: (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ) [البقرة: 129]، وهو بشارة عيسى –عليه السلام– حين قال: (وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) [الصف: 6].

والأنبياءُ كلهم أُخذ عليهم الميثاقُ لئن بُعث محمدٌ -صلى الله عليه وسلم- وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنّه، كما قال تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) [آل عمران: 81].

لا يسوغُ لأحد –مهما كان جنسه وديانته– أن يخرج عن شريعته ويتبع نبيًّا غيره، ومن فعل ذلك فهو من أهل النار، روى مسلم في صحيحه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "والذي نفسي بيده: لا يسمع بي أحد من هذه الأمة، يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلتُ به إلا كان من أهل النار".

ومن نواقض الإيمان –كما قرر الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله- أن من اعتقد أن بعض الناس يسعه الخروج عن شريعة محمد -صلى الله عليه وسلم-، كما وسع الخضر الخروج عن شريعة موسى -عليه السلام- فهو كافر.

وهل يعلم أهلُ الكتاب وغيرُهم أن عيسى –عليه السلام– حين ينزلُ آخرَ الزمان يحكم بشريعة محمد -صلى الله عليه وسلم-؟! روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "كيف أنتم إذا نزل فيكم ابن مريم فأمَّكم منكم". قال أحدُ الرواة في معنى "فأمكم منكم": قال: بكتاب ربكم، وسنة نبيكم.

قال الألباني -رحمه الله-: هذا صريح في أن عيسى –عليه السلام– يحكم بشريعتنا، ويقضي بالكتاب والسنة، لا بالإنجيل ولا غيره.

وأين حماةُ الصليب من هذا؟! ورسول الهدى -صلى الله عليه وسلم- يقسم: "والله لينزلن ابن مريم حكماً عادلاً، فليكسرنَّ الصليب، وليقتلن الخنزيرَ، وليضعنَّ الجزية...". [رواه مسلم برقم 2059].

بل وأين أهلُ الكتاب من شهادة بعضهم على بعضٍ بصدق رسولنا؟! وقد أخرج أبو حاتم في صحيحه عن عمرو بن العاص -رضي الله عنه- قال: خرج جيش من المسلمين -أنا أميرُهم– حتى نزلنا الإسكندرية، فقال عظيم من عظمائهم: أخرجوا إليَّ رجلاً يُكلمني وأكلمُه، فقلتُ: لا يخرج إليه غيري، قال: فخرجت إليه ومعي ترجماني ومعه ترجمانه، فقال: ما أنتم؟! قلت: نحن العرب... وأخبره عمرو عن حالتهم قبل البعثة وبعدها، وكيف ظهر عليهم محمدٌ -صلى الله عليه وسلم- فلما انتهى عمروٌ قال عظيم الإسكندرية: إن رسولكم قد صدق، قد جاءتنا رسلنا بمثل الذي جاءكم به رسولُكم، فإن أنتم أخذتم بأمر نبيكم، لم يقاتلكم أحدٌ إلا غلبتموه، ولن يشارككم أحدٌ إلا ظهرتم عليه، وإن فعلتم مثل الذي فعلنا وتركتم أمر نبيكم، لم تكونوا أكثرَ عددًا منا، ولا أشد منا قوة. [الجواب الصحيح (1/100)].

أيها المسلمون: ولم تكن بعثتُه –عليه الصلاة والسلام– نعمةً على المسلمين وحدهم، بل بعثته نعمةٌ على أهل الأرض كلِّهم، ففي شريعته -صلى الله عليه وسلم- من اللين والعفو والصفح ومكارم الأخلاق أعظمُ مما في الإنجيل، وفيها من الشدة والجهاد وإقامة الحدود على الكفار والمنافقين، أعظم مما في التوراة، وهذا هو غاية الكمال، كذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-، وأضاف يقول: ومن استقرأ أحوال العالم تبين له أن الله لم ينعم على أهل الأرض نعمةً أعظم من إنعامه بإرساله -صلى الله عليه وسلم-، وأن الذين ردوا رسالته، هم ممن قال الله فيهم: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ) [إبراهيم: 28]. [الجواب الصحيح (3/243-244)].

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) [آل عمران: 144].

 

 

الخطبة الثانية:

الحمدُ لله رَبِّ العالمين، أرسل إلينا أفضل رسله، وأنزل علينا خير كتبه، وجعل أمتنا خير الأمم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين.

إخوة الإيمان: وإذا تقرر أن ديننا خيرُ الأديان، وكتابنا مهيمنٌ على الكتب قبله، ونبينا خاتمُ الرسل، وقد أمَّ الأنبياء في رحلة الإسراء، وعُرج به إلى السماوات العُلى، فماذا يُقال عن أمةِ الإسلام؟! وما الفرقُ بينها وبين الأمم الأخرى؟!

لقد حكم الله بخيريَّة هذه الأمة، إذا استقامت على شرع الله، وقامت بواجبات الأمر والنهي، فقال: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ) [آل عمران: 110].

وفي الحديث: "أنتم تُوفون سبعين أُمًّة، أنتم خيارُها وأكرَمُها على اللهِ"، أو كما قال -صلى الله عليه وسلم-. وجعلها أمة وسطًا شاهدة على الناس بالعدل: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاس) [البقرة: 143]. وهذه الوسطية والشهادةُ على الناس ينبغي أن تُثير فينا الاعتزاز والشعور بالكرامة، والمسؤولية والتبعة في آنٍ واحد، ولا ينبغي أن يتخلف الشاهدُ عن مستوى المشهود عليه.

وإليك نموذجًا لشهادة هذه الأمة على الأمم السابقة: أخرج البخاري في صحيحه عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يدعى نوح عليه السلام يوم القيامة، فيقول: لبَّيك وسعديك يا رب، فيقول: هل بلّغت؟! فيقول: نعم، فيُقال لأُمَّته: هل بلَّغكم؟! فيقولون: ما أتانا من نذير، فيقول: من يشهد لك؟! فيقول: محمدٌ وأمته، فيشهدون أنه قد بلّغ".

ومن عدلِ أمةِ الإسلام عدلُها ونظرتُها لأخبار أهل الكتاب، فهي لا تردها جملة وتفصيلاً، ولا تقبلُ بها دون تمحيص، بل تذكرها للاستشهاد، لا للاعتقاد، وتصنفها على ثلاثة أقسام:

1- أحدها: ما علمنا صحته مما بأيدينا مما يشهد له بالصدق، فذاك صحيح.

2- والثاني: ما علمنا كذبه بما عندنا مما يخالفه، فذاك كذب.

3- والثالث: ما هو مسكوت عنه، لا من هذا القبيل ولا من ذاك، فلا نؤمن به ولا نكذبه، وتجوز حكايته؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "... وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج".

عبادَ الله: وتمتاز أمةُ محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- على أمم اليهود والنصارى بصحة النقل؛ إذ النقلُ عن محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- مدتُه قريبة، والناقلون عنه أضعاف أضعاف من نقل دين المسيح عنه، وأضعافُ أضعافِ أضعاف من اتصل به نقلُ دين موسى -عليه السلام-، فإن أمة محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- ما زالوا كثيرين منتشرين في مشارق الأرض ومغاربها، وما زال فيهم من هو ظاهرٌ بالدين، منصور على الأعداء، بخلافِ بني إسرائيل، فإنهم زال ملكهُم في أثناء المدة لما خُرب بيتُ المقدس الخراب الأول بعد داود عليه السلام، ونقص عددُ من نقل دينهم، حتى قيل: إنه لم يبق من يحفظ التوراة إلا واحد، والمسيحُ عليه السلام لم ينقل دينه إلا عدد قليل. [الجواب الصحيح (1/127، 128)].

أيها المسلمون: كما تمتاز هذه الأمةُ المسلمة على الأمم الأخرى بالعفو والتسامح والمغفرة، والله يقول لهم: (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [الجاثية: 14]، ويقول في صفاتهم: (وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً) [الفرقان: 63]، ويدعوهم إلى الصبر والتقوى في مقابل فتنة الآخرين وأذيتهم: (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) [آل عمران: 186].

أجل، إن الأمة أُمرت بقتال الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا يُحَرِّمون ما حرَّمه الله ورسولُه، ولا يدينون دين الحق من الذين أتوا الكتاب حتَى يُعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، لكن هذا القتال ليس تعصبًا ولا استعلاءً في الأرض بغير الحق، ولكنه الرحمةُ بالخلق لدعوتهم للحق، ولذا فقبل القتال تكون الدعوةُ وتكون المجادلة بالحسنى، وفي وفد نصارى نجران علّق ابن حجر بقوله: وفيه من الفوائد: جواز مجادلة أهل الكتاب، وقد تجب إذا تعينت مصلحتُه. [الفتح (8/95)]. فإذا قامت الحُجة لم تغن المجادلة، فكان الجهاد أو دفعُ الجزية.

وأين هذه الأخلاقُ الإسلامية والآدابُ كالعفو والصفح والمجادلة بالحسنى، أين هذا من تعصب أهل الكتاب وانغلاقهم، وشعورهم بتميزهم، ودونية غيرهم؟! يقول الأمير شكيب أرسلان: إن الروح الصليبية لم تبرح كامنة في صدور النصارى كُمونَ النار في الرماد، وروحُ التعصب لم تنفك معتلجةً في قلوبهم حتى اليوم كما كانت في قلب بطرس الناسك من قبل، وإن ما يدعوه الفرنجةُ عندنا في الشرق تعصبًا مذمومًا هو عندهم في بلادهم العصبية الجنسية المباركة، والقومية المقدسة.

عبادَ الله: إن على المسلم أن يعلم موقعه في هذا العالم، وإذا أُعجب كلُّ ذي رأي برأيه، وكل أصحاب نحلة أو دين بنحلتهم وديانتهم، فحسب المسلم أن يرضى بالله ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد -صلى الله عليه وسلم- نبيًّا رسولاً، وأن يكون القرآن دليله وهاديه، وأن يكون في عداد الأمة المرحومة، أمة الخير والعدل والوسط، وعلى المسلم أن يحذر من الشعارات الخادعة، والدعوات الفاتنة التي يُلبَّس الحقُّ فيها بالباطل، ويتفوق فيها المُبطل على المحق، في زمنٍ ضعفت فيه مقدرات المسلمين، وغزاهم في قعر دارهم الكافرون، وبات الغزو مقننًا عبر الفضائيات والشبكات ونحوها، بل أصبح التأثيرُ العقدي يمارس عبر دهاليز السياسة، ومن بوابات الاقتصاد، ويغطى بمصطلحات العولمة، والنظام العالمي، ويمرر عبر قرارات الهيئات والمنظمات المُسَيَّسة، فهل يواجه المسلمون التحدي؟! وهل يحسون بحساسية المرحلة؟! وهل يتجاوزون التبعية؟! ذاك المأمول والمرتجى، والله غالب على أمره.