الكريم
كلمة (الكريم) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل)، وتعني: كثير...
العربية
المؤلف | عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
أيها المؤمنون: إنَّ مبدأ أعمال المرء خيرها وشرها صالحها وفاسدها من خطراتٍ تجول في قلبه، وخواطر تدور في نفسه، ثم تتحول تلك الخطرات إلى إراداتٍ وعزوم، ثم تتحول إلى أعمال. ولهذا -عباد الله- من ضبط خواطر نفسه وخطراتها، وأحسن رعايتها، وكان بوابًا على قلبه يحوطه ويحرسه من خطرات وخواطر السوء صدًا لها وإبعادًا لها عن قلبه سلِم قلبه من الهلكة والعطب، ومن ترك -عباد الله- خطرات السوء وخواطر الشر تجول في قلبه، وتتردد في نفسه، ثم أخذ يستجلبها وينمِّيها في قلبه تولَّد عنها شرٌ عظيم، وفسادٌ كبير، وقد...
الخطبة الأولى:
إنَّ الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا؛ من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله؛ صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمَّا بعد: أيها المؤمنون: اتقوا الله؛ فإنَّ من اتقى الله وقاه، وأرشده إلى خير أمور دينه ودنياه.
وتقوى الله: عملٌ بطاعة الله على نورٍ من الله رجاء ثواب الله، وتركٌ لمعصية الله على نورٍ من الله خيفة عذاب الله.
أيها المؤمنون: إنَّ مبدأ أعمال المرء خيرها وشرها صالحها وفاسدها من خطراتٍ تجول في قلبه، وخواطر تدور في نفسه، ثم تتحول تلك الخطرات إلى إراداتٍ وعزوم، ثم تتحول إلى أعمال.
ولهذا -عباد الله- من ضبط خواطر نفسه وخطراتها، وأحسن رعايتها، وكان بوابًا على قلبه يحوطه ويحرسه من خطرات وخواطر السوء صدًا لها وإبعادًا لها عن قلبه سلِم قلبه من الهلكة والعطب، ومن ترك -عباد الله- خطرات السوء وخواطر الشر تجول في قلبه وتتردد في نفسه، ثم أخذ يستجلبها وينمِّيها في قلبه تولَّد عنها شرٌ عظيم وفسادٌ كبير، وقد قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: "أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ؛ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ".
أيها المؤمنون: وأنفع ما يكون للعبد في هذا الباب أن يحصر خواطر قلبه في أمور أربعة: خواطر يستجلب بها منافع دنياه، وخواطر يستدفع بها مضار دنياه، وخواطر يستجلب بها منافع آخرته، وخواطر يستدفع بها مضار آخرته، فإذا حصرها في هذا الباب أفلح وأنجح، وسعد في دنياه وأخراه.
أيها المؤمنون: وأعلى الخواطر وأنفع الفِكَر؛ ما كان لله -تبارك وتعالى- والدار الآخرة، وما كان كذلك ينحصر في أنواع: الأول منها: فكرة في آيات الله المنزلة؛ كلامه جل وعلا الذي أنزله سبحانه هدى للناس، وبينات من الهدى والفرقان، أنزله هدايةً للعباد ورشادًا وفلاحًا وسعادةً في الدنيا والآخرة، والله -عز وجل- إنما أنزل هذا القرآن لتُتدبر آياته، وليُهتدى بهداياته، وليُعمل ببيناته: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ)[ص: 29] أنزله سبحانه لذلك إلا أن عددًا من الناس جعل حظه من هذا القرآن مجرد التلاوة دون الفهم والعمل، قال الحسن البصري -رحمه الله-: "أُنزل القرآن ليعمل به فاتخذ الناس قراءته عملا".
الثاني -عباد الله-: فكرة وتأمل في آيات الله المشهودة ومخلوقاته العظيمة وكونه الفسيح؛ فإن هذا التأمل في هذه الكائنات وهذه المخلوقات يهدي قلب العبد إلى تعظيم من خلقها جل في علاه، وتهدي قلب المتفكر إلى معرفة الله -عز وجل- ومحبته ورجائه وخوفه والعمل فيما يرضيه جل وعلا، قال الله -تعالى-: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[آل عمران: 190-200].
الثالث -عباد الله-: فكرةٌ وتفكرٌ في نِعم الله العظيمة وآلائه الجسيمة وعطاياه التي لا تُعد ولا تحصى؛ فإذا شغل المرء فكره في ذلك تحول إلى عبدٍ شاكرٍ لأنعم الله ذاكرٍ لله حامدٍ له مثنيًا عليه جل في علاه، والله -جل وعلا- لما عدَّد نعمه العظيمة، وآلائه الكثيرة في سورة النحل التي تُعرف بسورة النِّعم، قال في خاتمة عده لها: (كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ)[النحل: 81]، وهذا فيه إلماحةٌ وإشارة إلى أن تبصُّر العبد وتفكره في نعم الله يهديه إلى الإسلام لله، والخضوع له جل في علاه.
أيها المؤمنون: والرابع من هذه الفكر: أن يتفكر المرء في عيوب نفسه وتقصيره في حق ربه وتفريطه في جنب الله -جل في علاه-، يتفكر في ذلك؛ فإذا أعمل فكره في ذلك أفضى إلى كسر النفس الأمارة بالسوء، وأفضى أيضا إلى طرد العجب والغرور، ونحو ذلك من القلب؛ إلى أن يتحول إلى قلب منكسر خاضع لله -جل في علاه-، مدركٍ تفريطه في حق الله، مجتهدٍ في الوصول والبلوغ، وطلب مرضاة الله -جل في علاه-.
أيها المؤمنون: الخامس من هذه الفكر النافعة: الفكرة في واجب الوقت وفريضته؛ فإن كثيرًا من الناس يسبح في فكره في منًى باطلة، وتمنياتٍ زائفة، وينسى يومه، منهم من يخطط إلى أعمال تمتد إلى عشرات السنوات وهو مضيع لواجب اليوم وفريضته، وقد قيل قديما "الإنسان ابن يومه"؛ فيتفكر في عمل اليوم وواجبه، ويجمع همته وقلبه على ذلك، مجاهدًا نفسه على أن لا تغيب شمس يومه إلا وقد أدى واجب الله فيه، وأنهاه مبتعدًا عن كل ما يسخط الله، ولا يزال كذلك مع تكرر الأيام ومر الأوقات فتكون الأيام تلو الأيام زيادة له في الرفعة والعلو عند الله -جل في علاه-، وتكون كذلك أيامه زيادةً له في كل خير ورفعة عند الله -جل وعلا-.
أيها المؤمنون: وما سوى هذه الفكر إنما هي وساوس في الصدور وأمانٍ باطلة وخدع كاذبة لا ينال منها صاحبها نفعا، بل هي وبال ومضرة عليه في دنياه وأخراه أصلح الله قلوبنا أجمعين وزكى نفوسنا وهدانا إليه صراطا مستقيما.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله كثيرا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله؛ صلى الله وسلَّم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: أيها المؤمنون: اتقوا الله ربكم.
أيها المؤمنون: من الدعوات المأثورة عن نبينا -عليه الصلاة والسلام-: "اللَّهُمَّ آتِ نَفْسِي تَقْوَاهَا وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلاَهَا".
وفي هذه الدعوة -عباد الله- سؤال الرب -جل في علاه- أن يزكي القلب وأن يطهره، وزكاة القلب وطهارته إنما تكون بسلامته من خواطر السوء، وخطرات الفساد، وإراداتِ الشر، فإذا سلِم القلب من ذلك، وعُمِر بالطاعة والإيمان؛ كان قلبا زكيا طاهرا نقيا؛ وهو الناجي يوم لقاء الله -سبحانه وتعالى-، فإنما النجاة لمن أتى الله بقلب سليم.
أيها المؤمنون: وهذا المقام يتطلب من العبد في تزكيته لقلبه وصيانته له أن يكثر من دعاء الله؛ فإن القلوب بيده جل في علاه، وأن يجاهد نفسه على صيانة القلب ورعايته وإصلاحه وإبعاده عن كل ما يفسده، والقلب فساده من الواردات، وهي ترِد عليه إما من خلال السمع أو البصر، فإذا صان نفسه وكان بوابًا وحارسًا لها حُفظت بإذن الله، والحافظ الله وحده جل في علاه.
نسأله أجمعين أن يحفظ علينا قلوبنا وأسماعنا وأبصارنا، وأن يصلح لنا شأننا كله وأن لا يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين.
وصلُّوا وسلِّموا -رعاكم الله- على محمد بن عبد الله كما أمركم الله بذلك في كتابه، فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: ٥٦]، وقال صلى الله عليه وسلم: "مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى الله عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا".
اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد كما صلَّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنَّك حميدٌ مجيد، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنَّك حميدٌ مجيد. وارضَ اللهمَّ عن الخلفاء الراشدين؛ أبى بكرٍ وعمرَ وعثمانَ وعلي، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بمنِّك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم انصر من نصر دينك وكتابك وسنَّة نبيك محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، اللهم آت نفوسنا تقواها، زكِّها أنت خير من زكاها، أنت وليُّها ومولاها.
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، والموت راحةً لنا من كل شر.
اللهم أعنا ولا تعن علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا، وامكر لنا ولا تمكر علينا، واهدنا ويسِّر الهدى لنا، وانصرنا على من بغى علينا، اللهم اجعلنا لك ذاكرين لك شاكرين، إليك أواهين منيبين، لك مخبتين لك مطيعين، اللهم تقبل توبتنا، واغسل حوبتنا، وثبِّت حجتنا، واهد قلوبنا، وسدد ألسنتنا، واسلل سخيمة صدورنا.
اللهم آمِنَّا اللهم في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفِّق ولي أمرنا لهداك، اللهم وأعِنه على طاعتك، وسدِّده في أقواله وأعماله، اللهم وفِّقه وولي عهده لما تحبه وترضاه من سديد الأقوال وصالح الأعمال.
(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[البقرة: 201].
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.