الفتاح
كلمة (الفتّاح) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعّال) من الفعل...
العربية
المؤلف | عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
أيها المؤمنون: القرآن شفاء لكل الأدواء وجميع الأسقام لمن وفقه الله -عز وجل- لحسن الاستشفاء بالقرآن، فهو شفاء للقلوب من أمراضها المتنوعة من شبهات وشهوات، فإن دواءها وطبَّها وعلاجها في كتاب الله -عز وجل- لمن أحسن مداواة قلبه به، قراءةً للقرآن، وتدبرًا لهداياته، وعملًا بدلالاته العظيمة، وإرشاداته القويمة. وهو طبٌّ للعباد في الأمراض بعمومها لمن أحسن مداواة نفسه بالقرآن، وكان...
الخطبة الأولى:
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، وقيوم السموات والأرضين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيُّه وخليلُه، الصادق الوعد الأمين، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمَّا بعدُ: أيها المؤمنون: اتقوا الله، فإنَّ من اتقى الله وقاه، وأرشده إلى خير أمور دينه ودنياه.
أيها المؤمنون: الاستشفاء بالقرآن أنفع الطب وأحسنه وأقومه، وهو خير ما يُستشفى به، قال الله -تعالى-: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا)[الإسراء: 82]، وقال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ)[يونس: 57]، وقال الله -تعالى-: (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ)[فصلت: 44].
أيها المؤمنون: القرآن شفاء لكل الأدواء وجميع الأسقام لمن وفقه الله -عز وجل- لحسن الاستشفاء بالقرآن، فهو شفاء للقلوب من أمراضها المتنوعة من شبهات وشهوات، فإن دواءها وطبَّها وعلاجها في كتاب الله -عز وجل- لمن أحسن مداواة قلبه به، قراءةً للقرآن، وتدبرًا لهداياته، وعملًا بدلالاته العظيمة، وإرشاداته القويمة.
وهو -يا معاشر العباد- طبٌّ للعباد في الأمراض بعمومها لمن أحسن مداواة نفسه بالقرآن، وكان نبينا -عليه الصلاة والسلام- يداوي نفسه وأهل بيته بكتاب الله -تبارك وتعالى-، ففي الصحيحين عن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كَانَ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا اشْتَكَى يَقْرَأُ عَلَى نَفْسِهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ وَيَنْفُثُ"، وفي صحيح مسلم عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا مَرِضَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِهِ نَفَثَ عَلَيْهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ"(والمعوذات: ثلاث سور: سورة الإخلاص، وسورة الفلق، وسورة الناس).
ومن أنفع ما يكون العلاج في هذا الباب بفاتحة الكتاب التي هي أعظم سور القرآن وأجلُّها، وقد جاء في الصحيح في قصة رواها أبو سعيد -رضي الله عنه-، وحاصلها أنه رقى سيد قوم لدغته عقرب فشفاه الله، قرأ عليه بفاتحة الكتاب، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "وَمَا يُدْرِيكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ"، وقد قال ابن القيم -رحمه الله-: "لو أحسن العبد مداواة نفسه بفاتحة الكتاب لرأى لها تأثيرًا عجيبا!".
أيها المؤمنون: ما أحوجنا في هذا الباب "باب الاستشفاء" إلى العودة إلى كتاب ربنا، وهداياته العظيمة؛ لننال الشفاء التام من كل الأسقام بإذن الله -جل وعلا-، وإذا كان الله يقول جل في علاه عن هذا القرآن العظيم: (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ)[الحشر: 21] فكيف بتأثيره إذًا في مداواة الأمراض والشفاء منها بإذن الله -تبارك وتعالى-.
أيها المؤمنون: نعم ما أحوجنا إلى عودة صادقة لكتاب الله -عز وجل- ليتحقق لنا الشفاء من الأسقام، وأن نحذر في هذا الباب مما يروِّجه أهل الأوهام والخرافة والدجْل والشعوذة مستغلِّين أمراض الناس وأسقامهم وعِللهم، وهم من خلال ذلك يأكلون أموال الناس بالباطل، ويوقعون الناس في أنواع من الأوهام والخرافات مع أكلهم لأموالهم بالباطل.
والحري بالمؤمن أن ينأى بنفسه عن هذه المسالك، وأن يبتعد بها عن هذه المهالك، وأن يعود إلى كتاب الله -جل وعلا-، وإذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال في شأن السبعين ألف الذين يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب، فذكر من أوصافهم "أنهم لا يسترقون" أي لا يذهبون إلى من يرقيهم رقيةً صحيحة، فكيف بالحال -عباد الله- بمن يذهب بنفسه أو أهله أو ولده إلى أولئك المبطلين الظالمين الآثمين المعتدين الذين يستغلون أمراض الناس بحجة أنهم يرقونهم، وهم في الواقع يوقعونهم في أمراض وعلل مع أكلهم لأموال الناس بالباطل؟
أيها المؤمنون: ما عُرف في هدي السلف الصالح -رحمهم الله- من يجلس متصديًا للرقية لا لغيرها؛ يفتح بابه ويستقبل العائدين والزوار من كل فج وصوب، لا يُعرف ذلك في حال سلفنا الصالح -رحمهم الله-، نعم قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْيَفْعَلْ" إحسانا وطلبا لمرضاة الله -تبارك وتعالى-، وتقربا إليه.
أما هذه الطريقة المعهودة عند بعض من يعالجون الناس بالرقية فهي طريقةٌ غير معهودة عن السلف -رحمهم الله -رضي الله عنهم وأرضاهم-، ناهيك عما يكون عند كثير من هؤلاء من أمورٍ هي مخالفات شرعية بيِّنة يدركها أهل العلم والبصيرة بدين الله، ولا سيما أن كثيرًا من هؤلاء الرقاة جهلةٌ بدين الله لا حظَّ لهم من العلم الشرعي ولا نصيب.
أيها المؤمنون: عودة صادقة إلى كتاب الله نستشفي وندعو ربنا ونصدُق معه في سؤالنا، فإن هذا هو عين الشفاء، دخل طاووس بن كيسان -رحمه الله- على رجل مريض يعوده، فقال المريض: ادع لي، فقال له طاووس: "ادع لنفسك: (أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ)[النمل: 62].
نفعنا الله أجمعين بهدي كتابه، ووفقنا أجمعين لاتباع سنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، وأصلح الله لنا شأننا كله، وهدانا إليه صراطًا مستقيما.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله كثيرا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلَّم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: أيها المؤمنون: اتقوا الله -تعالى- وراقبوه في أعمالكم كلها مراقبة من يعلم أن ربه يسمعه ويراه.
أيها المؤمنون: إن أعظم الاستشفاء بالقرآن: أن نهتدي بهداياته العظيمة؛ كما قال الله -جل وعلا-: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ)[الإسراء: 9]، فلابد في هذا الباب "باب الاستشفاء بالقرآن" من عناية بالقرآن تدبرًا لآياته، وتأملًا في هداياته، وعملًا بمقتضياته، ليتحقق للمرء حينئذ حُسن الاستفادة، وحُسن الاستشفاء، وقد قال الله -تعالى-: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ)[ص: 29].
نسأل الله -جل وعلا- أن يجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وجلاء أحزاننا، وشفاء أسقامنا وأمراضنا، وأن يذكِّرنا منه ما نُسِّينا، وأن يعلِّمنا منه ما جهلنا، وأن يرزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار على الوجه الذي يرضيه عنا، وأن يجعلنا من أهل القرآن أهل الله وخاصته.
وصلُّوا وسلِّموا -رعاكم الله- على محمد بن عبد الله كما أمركم الله بذلك في كتابه، فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56]، وقال صلى الله عليه وسلم: "مَنْ صَلَّى عَلَىَّ صَلاَةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا".
اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد كما صلَّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد. وارضَ اللهم عن الخلفاء الراشدين، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وارضَ اللهم عن الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بمنِّك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم انصر من نصر دينك وكتابك، وسنة نبيك محمد -صلى الله عليه وسلم-.
اللهم انصر إخواننا المسلمين المستضعفين في كل مكان، اللهم كن لهم ناصراً ومُعينا وحافظاً ومؤيِّدا.
اللهم آمنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك، واتَّقاك واتَّبع رضاك يا ربَّ العالمين.
اللهم وفِّق ولي أمرنا لهداك، وأعنه على طاعتك، وسدده في أقواله وأعماله. اللهم وفقه وولي عهده لما تحبه وترضاه من سديد الأقوال، وصالح الأعمال.
اللهم آت نفوسنا تقواها، زكها أنت خير من زكّاها، أنت وليُّها ومولاها. اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفة والغنى.
اللهم فرِّج هم المهمومين من المسلمين، ونفس كرب المكروبين، واقض الدين عن المدينين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين، وارحم موتانا وموتى المسلمين.
ربنا إنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[البقرة: 201].
عباد الله: اذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ)[العنكبوت: 45].