الخبير
كلمةُ (الخبير) في اللغةِ صفة مشبَّهة، مشتقة من الفعل (خبَرَ)،...
العربية
المؤلف | ياسر دحيم |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الصيام |
وأكثروا من الذكر ومن تلاوة القرآن, وأكثروا من الصدقة على قدر المستطاع, ولا تتكاسلوا عن صلاة التراويح, والمحافظة على نوافل الصلوات؛ فرمضان لا يأتي إلا في العام مرة, ولا ندري: أندرك رمضان آخر, أم يكون هذا هو آخر رمضان من عمرنا؟...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
إنَّ الحَمْدَ للهِ؛ نحْمَدُه ونَسْتَعينُه ونَسْتَغْفِرُه، ونَعُوذُ باللهِ مِنْ شُرورِ أَنْفُسِنَا وسيِّئَاتِ أعمالِنا، مَنْ يهدِه اللهُ فَلا مُضِلَّ له، ومَنْ يُضلِلْ فلا هَادِيَ لهُ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ، وأشهدُ أنَّ مُحمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى اللهُ عَلَيْه وعَلَى آلِه وأصحَابِهِ، ومَنْ سارَ على نهجِه، واقْتَفى أثَرَهُ إِلَى يومِ الدِّينِ، وسلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أيها المسلمون: إن أفضل ما يُستقبل به شهر رمضان, ويستعد المسلم به للصيام التفقه في الدين, ومعرفة أحكام هذه العبادة العظيمة؛ فإنه "مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ"(متفق عليه).
فاعلموا أن الصيام: هو التعبد لله -تعالى- بالإمساك عن الأكل والشرب وجميع المفطرات، من طلوع الفجر الصادق إلى غروب الشمس.
والنية ركن من أركان الصيام, ولا بد أن تكون النية في صيام الفرض من الليل؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "من لم يُبيِّتِ الصيام قبل الفجر؛ فلا صيام له"(رواه أبو داؤود والترمذي والنسائي), والنية محلها القلب, فلا يشرع التلفظ بها.
عباد الله: وقد بين الله -تعالى- أحوال بعض الناس مع الصيام في قوله -تعالى-: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ)[البقرة: 184].
فيجب الصيام على المسلم البالغ العاقل المقيم الصحيح, القادر على الصيام, السالم من الموانع.
فأما الصغير غير البالغ فإنه لا يطالب به فرضاً، ولكنه يُرغّب فيه، ويُحث عليه إذا لم يكن الصوم يشق عليه ويضرّ به؛ حتى ينشأ محباً للصيام, وقد كان الصحابة يُصوِّمون صبيانهم, فعن الرُّبَيِّع بنت مُعوِّذ -رضي الله عنها- قالت: "...فكنا نصومه بعدُ ونُصوِّم صبيانَنا، ونجعل لهم اللعبةَ من العِهْن؛ فإذا بكى أحدُهم على الطعام أعطيناه ذلك, حتى يكون عند الإفطار"(متفق عليه).
وفاقد العقل لا صوم عليه؛ لحديث: "رفع القلم عن ثلاثة: ...وعن المجنون حتى يعقل أو يفيق"(ابن ماجه), ويلحق به من فقد ذاكرته ككبير السن المخرِّف، الذي لا يتصوّر الواقع، ولا يميّز من حوله، فهذا لا شيء عليه، لا إطعام ولا صيام؛ لأن التكليف مرفوع عنه.
وأما كبير السن الذي يشق عليه الصيام ولا يستطيعه وهو يعقل، أو المريض بمرض دائم لا يرجى شفاؤه, وقد عجز عن الصيام, فإن الله يقول: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ)[البقرة: 184]؛ قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "هُوَ الشَّيْخُ الْكَبِيرُ وَالْمَرْأَةُ الْكَبِيرَةُ لا يَسْتَطِيعَانِ أَنْ يَصُومَا؛ فَيُطْعِمَانِ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا"(رواه البخاري), فهؤلاء لا صوم عليهم, ويطعمون عن كل يومٍ أفطروه مسكيناً.
وأما المسافر، فله أن يفطر في السفر أو يصوم, قال أنس بن مالك -رضي الله عنه-: "كنا نسافر مع النبي -صلى الله عليه وسلم- فلم يَعِب الصائمُ على المفطر، ولا المفطرُ على الصائم"(متفق عليه), وعن حمزة الأَسلمي -رضي الله عنه- قال: قلت: يا رسول الله! إني صاحب ظَهْرٍ أُعالِجُه, أُسافر عليه وأُكْرِمُه، وإنه ربما صادفني هذا الشهر -يعني رمضان- وأنا أجد القوةَ وأنا شاب, وأجد بأن أصوم -يا رسول الله- أهون عليَّ من أن أُؤخِّره؛ فيكون دَيْناً, أَفأَصومُ -يا رسول الله- أعظمُ لأجري أو أُفطر؟, قال: "أيَّ ذلك شئتَ يا حمزة"(رواه أبو داود). فخيّره بين الصيام والفطر.
فالأصل جواز الفطر للمسافر، ولكن إن شق عليه الصوم في السفر فالأفضل أن يفطر آخذاً برخصة الله، يقول -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله يحب أن تُؤْتَى رُخَصُهُ؛ كما يحب أن تُؤْتَى عزائمُهُ"(رواه ابن حِبَّان), ولكن إن شق الصوم عليه مشقة تضره فيجب عليه الفطر؛ لقوله -عليه الصلاة والسلام-: "لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ"(متفق عليه).
وأما المريض فله حالات:
الحالة الأولى: أن يكون مرضه يسيراً كصداع خفيف، ووجع في الضرس، لا يؤثر عليه في صيامه ولا يضره، فالواجب عليه أن يصوم.
والحالة الثانية: أن يُتعبه الصوم ويشق عليه حال مرضه, من غير أن يُخاف عليه من الهلكة, فإن السنة له أن يفطر أخذاً برخصة الله: (وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)[البقرة: 185].
والحالة الثالثة: إن كان الصوم مع هذا المرض يُهدد حياته, أو يكون سبباً لتأخر شفائه, وزيادته والإضرار به فإن الواجب عليه أن يفطر؛ لأن الله يقول: (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا)[النساء: 29].
أيها المسلمون: في أثناء الصيام يجب أن يجتنب الصائم المفطرات؛ لئلا يبطل صومه, وهي:
الجماع: وإذا حصل من الصائم في نهار رمضان بطل صومه, وعليه كفارة مغلظة, وهي عتق رقبة, فإن لم يجد فعليه أن يصوم شهرين متتابعين, فإن لم يستطع يطعم ستين مسكيناً.
ومنها: إنزال المني بفعل من الصائم؛ أي: هو الذي تسبب في إخراجه, فيبطل صومه؛ ففي الحديث القدسي: "يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِن أَجْلِي"(متفق عليه), وإنزال المني من الشهوات, أما لو نزل عن طريق الاحتلام فلا يبطل الصوم؛ لأنه ليس باختياره.
ومن المفطرات: الأكل والشرب, سواء كان الطعام الذي أكله الصائم قليلاً أم كثيراً, وسواء كان نافعاً للجسم أم ضارا كالدخان, وسواء دخل عن طريق الفم أو عن منفذ آخر.
ويدخل في معنى الطعام والشراب الإبر المغذية والتي تسمى (المغذيات)؛ إذ إن من تعاطاها استغنى بها عن الطعام والشراب, وكذا حقن الدم في الصائم، كمن يصاب بنزيف ويحتاج إلى إمداده بالدم فيُحقن به, فإنه يفطر؛ لأن الدم هو غاية الغذاء بالطعام والشراب, وكون الإنسان لم يتناولها عن طريق الفم فهذا لا يهم؛ لأن المقصود من الطعام والشراب متحقق في هذا النوع من الإبر المغذية وحقن الدم.
وأما الإبر التي تستخدم كعلاج فقط فلا تضر, سواء أخذها عن طريق العضلات أو عن طريق الوريد, لكن الأولى تأخيرها إلى بعد الإفطار إن استطاع المريض ذلك.
وأما قطرات العين والأذن فلا تؤثر على الصيام؛ لأن العين والأذن ليستا منفذاً إلى الجوف, وأما قطرة الأنف فتبطل الصيام؛ لأنها منفذ مباشر إلى الحلق, والنبي -صلى الله عليه وسلم- قال للقيط بن صبرة: "وَبَالِغْ فِي الِاسْتِنْشَاقِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ صَائِمًا"(في السنن).
ومن المفطرات: إخراج القيء عمداً, كأن يدخل الصائم أصبعه إلى حلقه ليخرج القيء, أما إذا هاجت نفسه, وخرج الطعام عن غير عمد منه فلا يفطر؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "من ذرعه الْقَيْء وَهُوَ صَائِمٌ فَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءٌ, وَمَنِ اسْتَقَاءَ عَمْدًا فَلْيَقْضِ"(رواه أبو داود والترمذي).
ومن المفطرات: خروج دم الحيض أو دم النفاس من المرأة, فإن خرج منها وهي صائمة بطل صومها, وعليها القضاء.
أيها المؤمنون: وللصوم سنن وآداب، يستحب للصائم المحافظة عليها؛ ليحصل في صيامه على الثواب الأكمل, والأجر الأعظم، منها:
السَّحور: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "تسحَّروا فإن في السَّحور بركة"(متفق عليه), وقال -صلى الله عليه وسلم-: "السحور أكله بركة فلا تدعوه، ولو أن يجرع أحدكم جُرعةً من ماء؛ فإن الله -عز وجل- وملائكته يصلون على المتسحرين"(مسند أحمد).
والسنة في السحور التأخير وفي الفطر التعجيل, قال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْفِطْر"(متفق عليه), وقال: "إنا معشر الأنبياء أُمرنا بتعجيل فطرنا، وتأخير سحورنا، ووضع أيماننا على شمائلنا في الصلاة"(رواه الطبراني).
والسنة الإفطار على رطب، فإن عُدِمَ فتمر، فإن عدم فماء؛ لحديث أنس قال: "كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يفطر قبل أن يُصلِّي على رطبات، فإن لم تكن رطبات فعلى تمرات، فإن لم تكن تمرات حسا حسوات من ماء"(أبو داؤود).
ويستحب أن يدعو عند فطره لحديث: "إن للصائم عند فطره لدعوةً ما تُردُّ"(رواه ابن ماجه), والدعاء يكون قبل الإفطار وبعده؛ لأن كلمة (عند) تشمل الحالتين, وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا أفطر قال: "ذهب الظمأ، وابتلَّت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله"(أبو داؤود).
أقول ما تسمعون, واستغفر الله لي ولكم ولوالدي ولوالديكم؛ فاستغفروه.
الخطبة الثانية:
الحمد لله, والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه ومن تبعه, وبعد:
أيها المسلمون: حافظوا على صيامكم من البطلان, وعلى ثوابه من النقصان, واحذروا المعاصي في نهار وليل رمضان, وأكثر المعاصي التي يتساهل فيها الناس معاصي اللسان؛ كالغيبة والنميمة والكذب, والسب والشتم واللعن والكلام البذيء, قال -عليه الصلاة والسلام-: "من لم يدع قول الزور والعمل به؛ فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه"(البخاري), وقال: "رُبَّ صائمٍ حظّه من صيامه الجوع والعطش، ورُبَّ قائمٍ حظّه من قيامه السهر"(ابن خزيمة)، وقال: "ليس الصيام من الأكل والشرب؛ إنما الصيام من اللغوِ والرَّفث"(ابن خزيمة)؛ لذلك نُهي الصائم أن يجاري من يجهل عليه ويسفه, ففي الصحيحين قال -صلى الله عليه وسلم-:"إذا كان يومُ صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب, فإن سابه أحد أو قاتله؛ فليقل: إني صائم".
وتجنبوا ما يغضب ربكم مما يكثر في ليالي رمضان من الاستماع إلى الحرام أو مشاهدة النساء المتبرجات, ومناظر العري والفسق والمنكرات, مما تعرضه الشاشات والقنوات, عن طريق الأفلام والمسلسلات, والأغاني الماجنات.
جملوا صيامكم بالطاعات, وأكثروا من الدعاء في نهار رمضان ووقت السحر, والزموا الذكر وتلاوة القرآن, وأكثروا من الصدقة على قدر المستطاع, ولا تتكاسلوا عن صلاة التراويح, والمحافظة على نوافل الصلوات؛ فرمضان لا يأتي إلا في العام مرة, ولا ندري: أندرك رمضان آخر, أم يكون هذا هو آخر رمضان من عمرنا؟.
استغلوا أوقات رمضان فيما يقربكم من الرحمن, ويرفع درجاتكم في الجنان, فمن لم يغفر له في رمضان فمتى سيغفر له؟!, عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رَقِيَ المنبر فقال: "آمين، آمين، آمين"، فقيل: يا رسول الله! ما كنت تصنع هذا؟, فقال: "قال لي جبريل - عليه السلام -: رَغِمَ أنفُ عبدٍ دخل عليه رمضان؛ فلم يُغفر له، فقلت: آمين، ثم قال: رَغِمَ أنفُ عبدٍ ذُكِرتَ عنده؛ فلم يصلِّ عليك، فقلت: آمين، ثم قال: رَغِمَ أنفُ عبدٍ أدرك والديه أو أحدهما؛ فلم يدخل الجنة، فقلت: آمين"(أحمد).
نسأل الله أن يوفقنا للصيام والقيام وتلاوة القرآن, وأن يجعلنا ووالدينا من عتقائه من النيران, وأن يجعل رمضان شاهداً لنا لا شاهداً علينا, وأن يجعل طاعاتنا فيه مقبولة, تبلغنا أعلى الدرجات في الجنان؛ إنه سميع مجيب منان.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ؛ حَيْثُ أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ؛ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ؛ فاذكروا اللهَ يذكُرْكم، واشكُروه على نعمِه يزِدْكم، ولذِكْرُ اللهِ أكبر، واللهُ يعلمُ ما تصنعون.