الودود
كلمة (الودود) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فَعول) من الودّ وهو...
العربية
المؤلف | عبد الله بن عواد الجهني |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات - الصيام |
المعوَّلُ على القَبول لا على الاجتهاد، والاعتبارُ بِبِرِّ القلوب لا بعمَل الأبدان، رُبَّ قائم حظُّه من قيامه السهرُ، كم من قائم محروم، وكم من نائم مرحوم؛ هذا نام وقلبُه ذاكِر، وذاك قام وقلبُه فاجِر...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَنْ يهدِه اللهُ فلا مضلَّ له، ومَنْ يضلِلْ فلا هاديَ له، وأشهدُ ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ نبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 70-71].
أما بعدُ: فإنَّ أصدقَ الحديثِ كتابُ اللهِ، وأحسنَ الهديِ هديُ محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ محدَثةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ، وكلَّ ضلالةٍ في النار.
أيها الناسُ: اتقوا الله -تعالى-؛ فإن تقواه أربحُ تجارةٍ وبضاعةٍ، واحذَرُوا معصيتَه، فقد خاب عبدٌ فرَّط في أمر ربه وأضاعه.
أيها الصائمون: مضى جُلُّ رمضان وكأنه ساعات بل كأن لحظات، وما زال سائرًا ولن يتوقف لتوقُّف متكاسِل أو متثاقِل أو متباطِئ، وقافلتُه ماضيةٌ لا تنتظر قاعدًا، ولا تُوقِظ راقدًا، ولم يبقَ منه إلا القليلُ، والقليلُ الباقي فيه الخيرُ العميمُ، والأجرُ العظيمُ، والأعمالُ بالخواتيم.
أخي الصائم: لا تنسَ شرفَ زمانك الذي تعيشه الآن، فاعمره بكل ما تستطيع من القربات، فإن ضَعُفَتْ نفسُكَ فتدبَّرْ قولَه -تعالى-: (وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ)[الشَّرْحِ: 8]، وإن تكاسلتَ فتأمَّلْ قولَه -تعالى-: (وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ)[الْمُدَّثِّرِ: 7].
نسأل الله أن يصلح لنا ما مضى وما بقي، وأن يجعله شاهدًا لنا لا علينا، شاهدٌ للمؤمن بطاعته وعبادته، وقُربِه من ربه -عز وجل-، وشاهدٌ على مَنْ قصَّر بتقصيره وتفريطه، وقُطبُ رحى سعادة المرء في الدنيا والآخرة أن يشغَل نفسَه بالقبول لا بالأعمال، قال ابن رجب -رحمه الله-: "المعوَّل على القَبول لا على الاجتهاد، والاعتبار بِبِرِّ القلوب لا بعمل الأبدان، رُبَّ قائم حظُّه من قيامه السهرُ، كم من قائم محروم، وكم من نائم مرحوم؛ هذا نام وقلبُه ذاكر، وذاك قام وقلبه فاجِر، إن المقادير إذا ساعدَتْ ألحقَتِ النائمَ بالقائم، لكنَّ العبد مأمور بالسعي في اكتساب الخيرات، والاجتهاد في الأعمال الصالحات، وكلٌّ ميسَّر لِمَا خُلِقَ له" انتهى كلامه -رحمه الله-.
ها هو إبراهيم الخليل وابنه إسماعيل -عليهما الصلاة والسلام- يرفعان قواعدَ بيت الله الحرام، ويَفزَعانِ بعد التمام إلى طلب القَبول من رب العالَمِينَ؛ مخافةَ ألا يتقبَّل منهما، قال تعالى: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)[الْبَقَرَةِ: 127]، فاجتهِدوا يا -رعاكم الله- في الإخلاص في طاعته -سبحانه وتعالى-، وخُصُّوا ما بقي منه بمزيد من الدعاء أن يتقبل منكم، وتعرَّضوا لنفحات الله -سبحانه وتعالى- بكثرة القراءة والتكبير والركوع والسجود والتهليل والتسبيح والتحميد، وأكثِروا في أيامه من الصدقة والإحسان إلى الفقراء والمساكين، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَمَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)[الْبَقَرَةِ: 148].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذِّكْر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفِروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد إلا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا مزيدًا.
أما بعدُ: فاعلموا -رحمكم الله- أن أفضل شهركم هذا عُشْرُه الأخيرُ، فيه ليلة مباركة، هي (خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ)[الْقَدْرِ: 3-5]، (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ)[الدُّخَانِ: 4]، تُكتَب الحوادث والتدبير، يَصِلُ فيها الربُّ ويَقطَعُ، ويُعطِي ويَمنَع، ويَخفِض ويَرفَع، ويُمِيت ويُحيِي، ويُسعِد ويُشقِي، وتجري أقلام القضاء والتقدير، وقد كان من هديه -عليه الصلاة والسلام- أن يجتهد في هذه العشر ما لا يجتهد في غيرها، قالت أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا دخَل العشرُ أحيا الليلَ، وأيقَظ أهلَه، وشدَّ المئزرَ"(رواه البخاري -رحمه الله تعالى-).
وأخرَج الترمذي وابن ماجه، والنسائي وأحمد عن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- قالت: "قلتُ: يا رسولَ اللهِ، أرأيتَ إن علمتُ أيُّ ليلةٍ ليلةُ القدرِ ما أقول فيها؟ قال: قولي: اللهم إنكَ عفوٌّ تحب العفوَ فاعفُ عني"، وهذا الهديُ النبويُّ الكريمُ، يدلُّ على اهتمامه بطاعة ربه، ومبادَرَتِه الأوقات، واغتنامه الأزمنةَ الفاضلةَ، فينبغي للمسلم الاقتداء بالنبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فإنه هو الأسوة والقدوة، والجِدِّ والاجتهادِ في عبادة الله، وألَّا يُضَيِّعَ ساعاتِ هذه الأيام والليالي؛ فإنه لا يدري لعله لا يُدرِكُها مرةً أخرى، باختطاف هادم اللذات، ومفرِّق الجماعات، والموتُ الذي هو نازلٌ بكل امرئ إذا جاء أجَلُه وانتهى عُمرُه، فحينئذٍ يندَم حيث لا ينفع الندمُ.
ثم اعلموا أن الله أمركم بأمر عظيم، بدأ فيه بنفسه، وثنَّى بملائكته المسبِّحة بقُدسِه، وثلَّث بكم -أيُّها المؤمنون- من جِنِّه وإنسِه، فقال قولًا كريمًا: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56]، وقال صلى الله عليه وسلم: "مَنْ صلَّى عليَّ صلاةً واحدةً صلَّى اللهُ عليه بها عَشْرًا"، اللهم صلِّ على محمد، وعلى آل محمد، كما صليتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنكَ حميد مجيد، وارضَ اللهم عن الخلفاء الراشدين، الذين قَضَوْا بالحق وبه كانوا يعدلون، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة أجمعينَ، ومَنْ تَبِعَهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنَّا معهم أجمعينَ بفضلكَ وجُودِكَ يا كريمُ.
اللهم أعزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، واخذُلِ اللهمَّ مَنْ خذَل الإسلامَ والمسلمينَ، واجعَلْ هذا البلدَ آمِنًا مطمئنًّا، رخاءً سخاءً، وسائرَ بلاد المسلمين، اللهم واغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، اللهم اشفِ مرضانا ومرضى المسلمين، واحفظ أطبَّاءنا وأعوانَهم وسدِّدهم وارفع عنا هذا الوباءَ يا أرحم الراحمين، اللهم انصر جنودنا على الحدود، اللهم سدِّد رميَهم، وثبِّت أقدامَهم، وانْصُرْهُم على عدُوِّكَ وعدُوِّهم أجمعينَ، اللهم وفِّق إمامَنا خادمَ الحرمينِ الشريفينِ ووليَّ عهدِه لِمَا تُحِبُّ وترضى، وخُذْ بناصيتهما للبِرِّ والتقوى، ووفِّقْ جميعَ ولاة أمور المسلمين لكل خير وصلاح.
اللهم إنك عَفُوٌّ تحب العفوَ فاعفُ عنا، اللهم اجعلنا ممَّن صام رمضان إيمانًا واحتسابًا، اللهم واجعلنا ممَّن يُوفَّق لقيام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا، اللهم أغثنا، اللهم اسقنا الغيثَ ولا تجعلنا من القانطين، اللهم اسقنا وأغثنا، اللهم إنا نستغفركَ إنكَ كنتَ غفَّارًا، فأرسل السماء علينا مدرارًا يا ربَّ العالمينَ.
(رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[الْأَعْرَافِ: 23].
عباد الله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)[النَّحْلِ: 90]، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على آلائِه ونِعَمِه يَزِدْكُمْ، (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ)[الْعَنْكَبُوتِ: 45].