التواب
التوبةُ هي الرجوع عن الذَّنب، و(التَّوَّاب) اسمٌ من أسماء الله...
العربية
المؤلف | خالد بن سعد الخشلان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الصيام |
إن مما ينبغي أن يعلمه الصائم أن الواجب عليه أن يصوم رمضان إيمانًا واحتسابًا، لا يصومه رياء ولا سمعة، ولا تقليدًا للناس؛ أهله وأهل بلده ومجتمعه، وإنما يجب أن يكون حامله على الصوم ودافعه وباعثه إليه إيمانه بأن الله -عز وجل- قد فرض عليه ذلك واحتسابه الأجر من الله -سبحانه وتعالى- على ذلك. وعلى الصائم أن يجتهد في حفظ صومه؛ فإن الصوم أمانة بين العبد وبين ربه، لا يطَّلع على حقيقة أمره إلا الله -عز وجل- فيحفظ العبد صومه من كل ما يبطله..
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وصفيه وخليله وأمينه على وحيه وخيرته من خلقه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أئمة الهدى ومصابيح الدجى ومن تبعهم واكتفى وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله! اتقوا الله -عز وجل- واجتهدوا رحمكم الله في تحقيق التقوى؛ فإنها وصية الله لعباده الأولين والآخرين، هي أعظم وصية، وأكرم وصية، وأنفع وصية للعبد في دنياه وآخراه، ما أوصاكم ربكم -عز وجل- بها إلا لعظيم نفعها وكبير أثرها وشدة حاجة العبد إليها.
ألا فاتقوا الله عباد الله؛ بفعل ما أمركم به ربكم، واجتناب ما نهاكم عنه؛ فهذه حقيقة التقوى لتقم حياتكم على العمل بموجب التقوى وتحقيقها فيما تأتون وتزرون في أقوالكم وأفعالكم وتصرفاتكم حتى تكون تقوى الله حاكمة على ذلك كله، وضابطة لحياتكم كلها؛ فإذا ما تحقَّق للعبد ذلك، وصارت حياته محكومة بالتقوى فلا يفعل إلا ما هو تقوى لله، ولا يتكلم إلا بما هو تقوى لله، ولا يتصرف أي تصرف، ولا يتخذ أي موقف إلا كان ذلك كله من تقوى الله إذا تحقق للعبد ذلك، فعندها يا سعادة هذا العبد ويا هناءته في دنياه وأخراه؛ في الدنيا يحظى بالطمأنينة، يحظى باليقين، يحظى براحة النفس وانشراح الصدر (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [يونس: 62- 64].
وفي الآخرة يحظى العبد المتقي لربه بالقرب من الرب الكريم العظيم في جنات النعيم والنجاة من العظيم المقيم (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ) [القمر: 54- 55].
ألا فاتقوا الله عباد الله، واجعلوا من أيام شهر رمضان فرصة لتحقيق التقوى وتقويتها وترسيخها في نفوسكم وقلوبكم، فما شرع الله -عز وجل- الصيام وأوجبه على عباده إلا لتحقق التقوى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة:183].
وفقنا الله جميعًا لتحقيق التقوى، وأعاننا على العمل بموجبها ومقتضاها، وجعلنا من أهلها في الدنيا والآخرة إنه سميع قريب.
عباد الله: إن مما ينبغي أن يعلمه الصائم أن الواجب عليه أن يصوم رمضان إيمانًا واحتسابًا، لا يصومه رياء ولا سمعة، ولا تقليدًا للناس؛ أهله وأهل بلده ومجتمعه، وإنما يجب أن يكون حامله على الصوم ودافعه وباعثه إليه إيمانه بأن الله -عز وجل- قد فرض عليه ذلك واحتسابه الأجر من الله -سبحانه وتعالى- على ذلك.
ولهذا جاء في الحديث الصحيح "من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدم من ذنبه".
وعلى الصائم -يا عباد الله- أن يجتهد في حفظ صومه؛ فإن الصوم أمانة بين العبد وبين ربه، لا يطَّلع على حقيقة أمره إلا الله -عز وجل- فيحفظ العبد صومه من كل ما يبطله، من كل ما يفسده من الأكل والشرب والجماع وإخراج المني باختياره باستمناء أو تعمد نظر ومشاهد لما لا يحل له مشاهدته.
وأما ما يعرض للصائم من جرح، أو رعاف أو قيء، أو ذهاب الماء إلى حلقه بغير اختياره أو أكله أو شربه ناسيًا؛ فكل هذه الأمور لا تفسد الصوم ولا تبطله، لكن على الصائم البعد عن تعمد القيء فإن من تعمد القيء فقاء فسد صومه ولزمه القضاء؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: " مَنْ ذَرَعَهُ القيءُ –أي: غلبه- فلا قضاء عليه, ومَن استقاء –أي: تعمَّد إخراج القيء- فعليه القضاء".
ولا يشترط لصحة الصوم الطهارة من الجنابة أو الغسل من الحيض؛ فإذا رأت المرأة الطهر قبل الفجر فيحصل منهم جميعا الصوم ولو أخروا الغسل إلى ما بعد طلوع الفجر، لكن يحرم عليهم تأخير الغسل إلى ما بعد خروج وقت صلاة الفجر. بل الواجب المبادرة إلى الاغتسال حتى يتمكنوا من أداء صلاة الفجر في وقتها.
ومن الأمور التي لا تفسد الصوم "تحليل الدم"، إذا كان المأخوذ من الإنسان قدرًا يسيرًا، وكذلك استعمال الإبر العلاجية سواءً كانت في العضل أو الوريد، وأما الإبر المغذية فإنها تفطر وتفسد الصوم؛ لأنها في معنى الأكل والشرب، ويتحقق بها ما يتحقق للصائم من الأكل والشرب.
ولا حرج على الصائم في تنظيف أسنانه بالمعجون، لكن عليه التحرز من ذهاب شيء منه إلى جوفه، ولو استعمل ذلك قبل أذان الفجر بعد سحوره فهو أولى وأحوط، ومثل ذلك قطرة العين والأذن؛ فإنهما لا يفطران، لأن العين والأذن ليسا منفذين معتادين للطعام والشراب، ومتى ما وجد الصائم طعم قطرة العين أو الأذن في الحلق فعليه أن يلفظ ذلك ويبصقه.
وأما قطرة الأنف فلا يجوز للصائم استعمالها في النهار؛ لأن الأنف منفذ للأكل والشرب وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائمًا".
ولا حرج على الصائم في استعمال الطيب باختلاف أنواعه، وكذا البخور لكن لا يستنشقه.
ومن الأمور التي لا تؤثر على الصوم: اللعاب؛ لأنه من الريق فلو بلعه لا يفسد صومه، وأما النخامة أو النخاعة وهو البلغم العظيم الذي يخرج من الرأس أو الصدر إذا وصل إلى الفم فيجب على الإنسان بصقه وعدم ابتلاعه؛ لأنه من الأذى والقذر الذي يجب التخلص منه، بل هو عند جماعة من أهل العلم إذا ابتلعه بعدما يصل إلى فمه يكون مفسدًا من مفسدات الصيام.
ومن الأمور التي تفسد الصوم: "الغسيل الكلوي" للمصاب بالفشل الكلوي، سواءً الغسيل الدموي المعتاد أو الغسيل البريتوني، وأما إبر الأنسولين التي يستعملها مريض السكر فلا تفسد الصوم، وهكذا البخاخ الذي يستعمله مريض الربو؛ لأنه لا ينفذ للمعدة منه شيء، وإن نفذ فشيء يسير جدًّا لا يضر -إن شاء الله-، ومثله غاز الأكسجين لا يُفسِد الصوم؛ لأنه لا يصل إلى المعدة منه شيء، ولأنه ليس طعام ولا شراب، ولا في معنى الطعام والشراب، وكذلك استعمال الكريمات على الجلد لا تفسد الصوم وإن امتصها الجلد.
هذه بعض أحكام الصيام ما يفسده وما لا يفسده، وعلى العبد أن يحتاط لصومه، ويسأل عما أشكل عليه قبل الإقدام عليه، ولاسيما إذا لم يكن في حال ضرورة.
أسأل الله -عز وجل- أن يفقّهنا في دينه وأن يرزقنا إتباع سنة خليله -صلى الله عليه وسلم-.. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ) [الحج:32].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه، وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن أفضل الحديث كتاب الله وخير الهدى هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله مع جماعة المسلمين ومن شذ عنهم شذ في النار.
عباد الله: اتقوا الله حق التقوى، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، واحذروا المعاصي كلها صغيرها وكبيرها؛ فإن أجسادكم على النار لا تقوى.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، وحافظوا على صيامكم، واحرصوا على اغتنام شهركم بالطاعات والقربات، فإن أيام شهركم سريعة التقضي والمرور، غدًا تُوَفَّى النفوس ما عملت، ويحصد الزارعون ما زرعوا؛ إن أحسنوا فلأنفسهم، وإن أساؤوا فبئس ما صنعوا.
ما تقدمه في هذا الشهر من طاعة وقربة؛ فإن ما تقدمه لنفسك والله -عز وجل- غني عن طاعتك، وعن طاعتنا كلها، لا تنفعه طاعة المطيع، ولا تضره معصية العاصي، ولكنَّ العبد وحده هو الذي ينتفع بالطاعة والقربة وهو الذي يتضرر بالمعصية والإساءة.
فأكثروا -رحمكم الله- في شهركم هذا المبارك الفضيل، أكثروا من الطاعات، أكثروا من القربات، أكثروا من سائر الأعمال الصالحة، فغدًا ستجدون أجر ذلك وثوابه مدخرًا لكم أحسن ما يكون موفرًا لكم أكثر ما يكون عند ربكم الجواد الكريم.
عباد الله: تجنبوا في شهركم هذا كل ما يجرح صومكم، وينقص أجره، ويغضب ربكم -عز وجل- من سائر المعاصي كالربا والزنا، والسرقة، وشرب الخمر، وأكل أموال اليتامى، وظلم الآخرين، والتعدي عليهم في أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، وغشهم في معاملاتهم وخيانتهم في أماناتهم، تجنبوا -رحمكم الله- عقوق الوالدين وقطيعة الأرحام والشحناء والبغضاء، والتهاجر والتدابر، والغيبة والنميمة، والكذب وشهادة الزور، وغير ذلك من المعاصي.
تجنّبوا -رحمكم الله- تأخير الصلاة عن وقتها؛ فإن كثيرًا من الناس في هذه الأزمنة وللأسف الشديد ينامون عن صلاة الظهر وصلاة العصر، فيؤخرون صلاة الظهر حتى يخرج وقتها، ولا يؤدون صلاة العصر مع الجماعة، بل لا يؤدونها إلا آخر وقتها؛ وقت غروب الشمس، ولا شك أن ذلك كبيرة من كبائر الذنوب؛ تعمُّد تأخير الصلاة حتى يخرج وقتها من أعظم الذنوب وأكبر الكبائر، بل ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن من تعمد تأخير الصلاة حتى يخرج وقتها لم تقبل منه الصلاة ولو قضاها؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد"، أي: مردود عليه، وأداء الصلاة بعد خروج وقتها مع التعمد ليس عليه أمر النبي ولا هديه.
أيها الأخ الصائم: إذا لم تحافظ على صلاتك في شهر الصوم، فمتى تحافظ عليها؟! إذا لم يدفعك صومك وشهرك المبارك إلى تعظيم حدود الله وأداء الصلاة في وقتها مع جماعة المسلمين فمتى تفعل ذلك.
هذه الأمور المحرمة وغيرها من الأمور المحرمة وإن كانت محرمة في سائر شهور العام إلا أنها في رمضان أشد تحريمًا وأعظم إثمًا، وذلك لفضل الزمان وشرفه وحرمته.
فاحرصوا -رحمكم الله- على حفظ جوارحكم، لا تطلقوا أبصاركم لمشاهدة الحرام ولا أذانكم لسماع الحرام ومن أعظم الحرام يا عباد الله مشاهدة وسماع ما فيه استهزاء بالدين واستهزاء بشعائر الإسلام أو سخرية من أهل الدين وحملته كما هو حال كثير من المسلسلات التي تبث في هذا الشهر الفضيل في التليفزيونات والقنوات الفضائية من قبل المنافقين أعداء الله وأعداء رسوله.
تجنَّبوا ذلك لا تجعلوا من ليالي الشهر مجالاً لكسب مزيد من السيئات والآثام وإنقاص أجر صومكم.
نسأل الله -عز وجل- أن يأخذ بنواصينا جميعًا إلى البر والتقوى، وأن يعيننا على طاعته وذكره وشكره وحسن عبادته، وأن يوفقنا لاغتنام أيام شهرنا ولياليه إن رب سميع مجيب.
هذا وصلوا وسلموا على نبيكم محمد بن عبدالله؛ فقد أمركم ربكم بهذا في كتابه فقال -عز من قائل-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56]، وقال عليه الصلاة والسلام: "من صلى عليَّ صلاة صلى الله عليه بها عشرًا"، اللهم صل وسلم وبارك...