الحسيب
(الحَسِيب) اسمٌ من أسماء الله الحسنى، يدل على أن اللهَ يكفي...
العربية
المؤلف | محمود بن أحمد الدوسري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات - صلاة العيدين |
فالله -تعالى- لا يُحب الفرحَ الذي ينقلب إلى فِسْقٍ وفُجور, وفَسادٍ واعتداء, وإنما المطلوب هو الفَرَحُ المُعتدل المُنْضَبِط بضوابط الشرع والعقل, فالإنسان في حال الفرح محتاج إلى السكينة؛ لئلاَّ يتحوَّل فرحُه إلى فَرَحٍ يُبغضه الله -تعالى-, ولا يُحبه ولا يحب أهله...
الخطبة الأولى:
الحَمدُ للهِ الَّذِي هَدَانَا لِلإِسلامِ، وبَلَّغَنَا شَهرَ الصِّيَامِ وَالقِيَامِ، وَوَفَّقَنَا بِفَضلِهِ لِلتَّمَامِ, وَأَشهَدُ أَن لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ المَلِكُ القُدُّوسُ السَّلامُ، وَأَشهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبدُهُ وَرَسُولُهُ الَّذِي بَيَّنَ الحَلالَ وَالحَرَامَ، صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحبِهِ البَرَرَةِ الكِرَامِ.
اللهُ أَكبرُ اللهُ أَكبرُ، لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَاللهُ أَكبرُ، اللهُ أَكبرُ وَللهِ الحَمدُ.
أما بعد: فَرَحُ المؤمِنُ بإيمانه وإسلامه والتوفيق لطاعة ربِّه لا يُوازيه شيء, فهي النِّعمة الكبرى, والمِنَّة العُظمى التي هدانا الله إليها, وكيف لا يفرح المؤمن بإيمانه وعمله الصالح وبه النجاة غداً من أهوال يوم القيامة؟! (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ)[آل عمران:106]، (وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ)[آل عمران:185]، قال ابن القيم -رحمه الله-: "الْفَرَحُ بِاللَّهِ، وَبِرَسُولِهِ، وَبِالْإِيمَانِ، وَبِالسُّنَّةِ، وَبِالْعِلْمِ، وَبِالْقُرْآنِ: مِنْ أَعْلَى مَقَامَاتِ الْعَارِفِينَ".
واللهُ -تعالى- أمَرَ المؤمنين بالفرح بالأمور العظيمة المُتعلِّقة بمرضاة الله والدار الآخرة الباقية, قال -سبحانه-: (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ)[يونس:58]؛ فالعاقل هو الذي يفرح بثابتٍ وباقٍ, ويكون فرحُه تبعاً لرضا الله -تعالى-.
ونهاهم أنْ يفرحوا بزخرف الدنيا ومتاع الحياة الزائل: (وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ)[الرعد:26]؛ أي: فرحوا بالحياة الدنيا فَرَحًا؛ أوجب لهم الاطمئنانَ بها, والغفلةَ عن الآخرة, وذلك لنقصان عقولهم. وحذَّر الله -سبحانه- من الفرح بغير الحق: (ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ)[غافر:75]. كانوا يفرحون في الأرض بالشرك والمعاصي, ويمرحون بالتوسع في الفرح؛ لأنَّ المَرَحَ هو شدة الفرح.
اللهُ أَكبرُ اللهُ أَكبرُ، لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَاللهُ أَكبرُ، اللهُ أَكبرُ وَللهِ الحَمدُ.
عباد الله: إنَّ كثيراً من الناس يُنعم الله -تعالى- عليهم بنعمٍ شتَّى, ولكنهم لا يلتزمون السكينة حال الفرح؛ بل يتجاوزون في ذلك إلى ما لا يُحبه الله -تعالى-؛ كما قال قوم قارون له: (لاَ تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْفَرِحِينَ)[القصص:76]؛ فالله -تعالى- لا يُحب الفرحَ الذي ينقلب إلى فِسْقٍ وفُجور, وفَسادٍ واعتداء, وإنما المطلوب هو الفَرَحُ المُعتدل المُنْضَبِط بضوابط الشرع والعقل, فالإنسان في حال الفرح محتاج إلى السكينة؛ لئلاَّ يتحوَّل فرحُه إلى فَرَحٍ يُبغضه الله -تعالى-, ولا يُحبه ولا يحب أهله.
وقدوتنا هو النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- الذي كان فرحُه منضبطاً بضوابط الشرع الحنيف, فليس بالضَّاحِك الذي أسرف على نفسه, وليس بالذي تقمَّص شخصيةَ الحُزْنِ والكآبة, فهو وسطٌ في الحزن والفرح, وفي كل شيء.
ومن هنا نعلم أن الفرح المحمود هو الفرح بنعمة الله -تعالى- وتوفيقه للطاعات والقربات, أو بانتصار الحق على الباطل؛ كما قال -سبحانه-: (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)[الروم:4-5].
ومن ذلك فَرَحُ الصائمين والصائمات بفطرهم؛ الذي أرشد إليه النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا؛ إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ، وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ"(رواه البخاري). فالفرحة الأُولى فرحة دنيوية عاجلة؛ حيث أباح الله لهم الأكلَ والشُّربَ والجِماع الذي تركوه طاعةً لله -تعالى-, وفَرِحوا أيضاً لإتمام صيام شهر رمضان, وأمَّا الفرحة الكبرى فهي عند لقاء ربه -تبارك وتعالى-, نسأل الله -تعالى- من فضله ورحمته, وكرمه وإحسانه.
اللهُ أَكبرُ اللهُ أَكبرُ، لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَاللهُ أَكبرُ، اللهُ أَكبرُ وَللهِ الحَمدُ.
والمؤمن يفرح أيضاً ويبتهج إذا نال نعمةً خالصة أو أُمْنِية تُعينه على طاعة الله -تعالى-, أو مَنَّ الله -تعالى- عليه بتمام الصحة والعافية, أو بنعمة الولد, أو رَزَقَه رزقاً حلالاً من حيث لا يحتسب, لكنه يعمر فرحته بذكر الله -تعالى- الذي أتمَّ عليه هذه النعمة والمنة, ورَزَقه من الطيبات, وهيَّأ له كثيراً من أسباب البهجة والسرور.
ومن مظاهر الفرح المحمود: فرح المؤمن بشريعة ربه, وأمْرِه ونهيه, وعدم التقديم بين يديه الله -سبحانه-, ورسوله -صلى الله عليه وسلم-؛ فهو يفرح أشد الفرح إنْ كان مِمَّن عناه الله -تعالى- بقوله: (وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ)[الرعد:36].
اللهُ أَكبرُ اللهُ أَكبرُ، لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَاللهُ أَكبرُ، اللهُ أَكبرُ وَللهِ الحَمدُ.
الخطبة الثانية:
الحمد لله..
إنَّ من أعظم الفرح أن يفرح المسلم حينما يُسلم عبد أو يتوب عاصٍ؛ كما فَرِحَ الصحابة -رضي الله عنهم- بإسلام الفاروق عمر -رضي الله عنه- أو غيره من الصحابة, وكفرح أبي هريرة بإسلام أُمِّه.
وأمَّا الفرح المذموم هو الذي يُوَلِّد الأشَرَ والبَطَرَ؛ كما يفعله البعض في عيد الفطر المبارك, فمثل هذا الفرح المذموم لا يُرضي الله -تعالى-؛ إذ يتجاوز فيه الفِرحون إلى المعاصي والمنكرات, والتي تكون وبالاً على أصحابها في الدنيا والآخرة, وليس من شأن المسلم أن يكون مِفراحاً إلى درجة الإسراف.
وأسوأ من ذلك فَرَحُ المرء بعمله الصالح وإظهاره للناس والتسميع والمراءاة به, ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "مَنْ سَمَّعَ؛ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ, وَمَنْ رَاءَى؛ رَاءَى اللَّهُ بِهِ"(رواه مسلم).
ومثل ذلك في الخطورة فَرَحُ الإنسان بتقصيره في طاعة الله, أو بتخلُّفِه عن ركب الصلاح والاستقامة (فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ * فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)[التوبة:81-82].
اللهُ أَكبرُ كَبِيرًا، وَالحَمدُ للهِ كَثِيرًا، وَسُبحَانَ اللهِ بُكرَةً وَأَصِيلاً.