العربية
المؤلف | تركي بن علي الميمان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
العَبْدُ مِنْ حِيْنِ اسْتَقَرَّتْ قَدَمُهُ في هذهِ الدَّارِ فَهُوَ مُسَافِرٌ إلى ربِّه؛ ومُدَّةُ سَفَرِهِ هي عُمُرُه وَوَقْتُهُ الذي كُتِبَ لَه! قال الحَسَن: "ابْنَ آدَمَ إِنَّمَا أَنْتَ أَيَّامٌ؛ كُلَّمَا ذَهَبَ يَوْمٌ، ذَهَبَ بَعْضُكَ...
الخُطْبَةُ الأُوْلَى:
أَيُّهَا الأَحِبَّة: يَعِيْشُ كُلُّ إِنْسَانٍ حَيٍّ في نِعْمَةٍ عَظِيْمَة، لا يَعْلَمُ قَدْرَها حقًا إلا الموتى! وهذه النِّعْمَةُ سَبَبٌ للفلاح، لِمَن اغْتَنَمَهَا، وسَبَبٌ لِلْخَسَارِ لِمَنِ ضَيَّعها، إِنَّهَا نِعْمَةُ الوَقْت!
وَلِشَرَفِ الوقت؛ أَقْسَمَ اللهُ بِهِ في كتابِه؛ فَأَقْسَمَ بالفَجْر، والضُّحَى، والعصر؛ بل أَقْسَمَ بالزَّمَنِ كُلِّه: لَيْلِه ونَهَارِه، قال سبحانه: (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى)[الليل:1-2].
واللهُ يُقَلِّبُ الوقتَ مِنْ ظُلْمَةٍ إلى إشراقٍ؛ لإيقاظِ القلوبِ؛ لِذِكْرِ عَلَّامِ الغيوب! قال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا)[الفرقان:62].
وأَمَرَ النبيُّ باغْتِنَامِ الوقتِ بالعَمَلِ الصالحِ؛ فقال -صلى الله عليه وسلم-: "احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ"(رواه مسلم)، وكانَتْ حَيَاةُ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- وأَوْقَاتُه كُلُّها لله؛ (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)[الأنعام: 162].
والعَبْدُ مِنْ حِيْنِ اسْتَقَرَّتْ قَدَمُهُ في هذهِ الدَّارِ فَهُوَ مُسَافِرٌ إلى ربِّه؛ ومُدَّةُ سَفَرِهِ هي عُمُرُه وَوَقْتُهُ الذي كُتِبَ لَه! قال الحَسَن: "ابْنَ آدَمَ إِنَّمَا أَنْتَ أَيَّامٌ؛ كُلَّمَا ذَهَبَ يَوْمٌ، ذَهَبَ بَعْضُكَ!"(رواه أحمد).
وَمِنْ أَعْظَمِ نِعَمِ اللهِ على العَبْدِ: طُولُ العُمُر مَعَ صَلاحِ العَمَل؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: "خيرُ الناسِ مَنْ طالَ عُمرهُ، وحَسُنَ عَمَلُه"(رواه الترمذي وصححه).
وكانَ السَّلَفُ يَغْتَنِمُونَ أَعْمَارَهُم، وَيَعْمُرُونَ أَوْقَاتَهُم بما يُرْضِي رَبَّهُم؛ قال الحَسَنُ البصريُّ: "أَدْرَكْتُ أقوامًا، كانوا على أوقاتِهِم أَشَدَّ مِنْكُمْ حِرْصًا على دراهِمِكم ودنانيرِكُم!"، قال عبد الرحمن بنُ مهديٍّ: "لَوْ قِيْلَ لِحَمَّادِ بنِ سَلَمَةَ: إِنَّكَ تَمُوْتُ غَدًا، مَا قَدِرَ أَنَّ يَزِيْدَ فِي العَمَلِ شَيْئًا!"، قال الذهبي: "كَانَتْ أَوْقَاتُهُ مَعْمُوْرَةً بِالتَّعَبُّدِ وَالأَوْرَادِ".
والرَّابِحُ في هذهِ الدنيا؛ مَنِ اغْتَنَمَ أَوْقَاتَه، والمغْبُونُ مَنْ فرَّطَ في لحَظَاتِه، قال -صلى الله عليه وسلم-: "نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ، وَالفَرَاغُ"(رواه البخاري).
يقولُ ابنُ الجَوْزِي: "رأيتُ عُمُوْمَ الخلائقِ يَدْفَعُونَ الزَّمَانَ دَفْعًا عجيبًا! إنْ طالَ الليل فَبِحَدِيثٍ لا يَنْفَع، وإنْ طالَ النَّهارَ فَبِالنَّوم! فَشَبَّهْتُهُم بالمُتَحَدِّثِينَ في سفينة، وهي تَجْرِي بِهِم، وما عِنْدَهُم خَبَر، ورَأَيْتُ النَّادِرِينَ قَدْ فَهِمُوا معنى الوجود، فَهُمْ في تعبئةِ الزَّاد، والتَّأَهُّبِ للرَّحِيل؛ فاللهَ اللهَ في مَوَاسِمِ العُمُر، والبِدَارَ البِدَارَ قَبْلَ الفوات!".
وَلَئِنْ كانَ العَمَلُ مَجْهدةً؛ فإنَّ الفراغَ مَفْسَدَةٌ، ونَفْسَكَ إِنْ لَمْ تَشْغَلْها بالحق، شَغَلَتْكَ بالباطل، والمُوفَّقُ مَنِ اغْتَنَمَ وَقْتَه، وسَارَعَ إلى جَنَّةِ رَبِّه، والمَحْرُوْمُ مَنْ حُرِمَ بَرَكَةُ وَقْتِه، وكان أَمْرُه فُرُطًا، يقولُ الشيخُ ابنُ عثيمين: "إذا رَأَيْتَ وَقْتَكَ يَمْضِي، وعُمُرَكَ يَذْهَبُ وَأَنْتَ لَمْ تُنْتِجْ شَيئًا مُفِيْدًا ولا نَافِعًا، وَلَمْ تَجِدْ بَرَكَةً في الوقت؛ فاحْذَرْ أَنْ يَكُوْنَ أَدْرَكَكَ قَوْلُه تعالى: (ولا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلنا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هواهُ وَكانَ أَمرُهُ فُرُطًا)[الكهف: 28]".
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
أَمَّا بَعْدُ: الدُّنيا وَقْتُها قصيرٌ؛ فَكُنْ غَيُوْرًا على وَقْتِكَ، بَخِيْلًا بِزَمَانِك، وإلا سَتَنْدَم حِيْنَ لا يَنْفَعُ النَّدَم!
قال ابنُ مسعود: "ما نَدِمْتُ على شيءٍ، نَدَمِي على يومٍ غرَبَتْ شَمْسُه، نَقَصَ فِيهِ أَجَلِي، ولم يَزِدْ فيه عَمَلِي". وقال ابْنُ القَيِّم: "إِضَاعَةُ الوقت؛ أَشَدُّ مِنَ الموت؛ لأَنَّ إِضَاعَةَ الوَقْتِ تَقْطَعُكَ عن اللهِ والدارِ الآخرة، وأَمَّا الموتُ فَيَقْطَعُكَ عن الدنيا وأَهْلِها".
واعْلَمُوا أَنَّكُمْ غدًا بَيْنَ يَدِي اللهِ مَوْقُوْفُون، وَعَنْ أوقاتِكُمْ مَسْؤُوْلُوْن؛ و"لاَ تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ القِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ"( رواه الترمذي وصححه).
وَكُلُّ غَائِبٍ قَدْ يَعُوْد، إلا الوَقْتَ المَفْقُود! فَهُوَ أنفاسٌ لا تَعُوْد، فَاغْتَنِمُوا أَعْمَارَكُم بِجَمْعِ الحَسَنَات، وَرَفْعِ الدَّرَجَات، فالأَيَّامُ مَعْدُوْدَة، والأَنْفَاسُ مَحْدُوْدَة! (وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)[المنافقون:11].
اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا في أوقاتِنا و أعمارِنا، واسْتَعْمِلْنَا في طاعتِك، ولا تُشْقِنَا بِمَعْصِيَتِك.