القهار
كلمة (القهّار) في اللغة صيغة مبالغة من القهر، ومعناه الإجبار،...
العربية
المؤلف | رضا بن محمد السنوسي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات - أركان الإيمان |
إن للإيمان طعمًا يفوق كل الطعوم، وله مذاق يعلو على كل مذاق؛ لأن حلاوة الإيمان حلاوة روحية نفسية قلبية، تسري سريان الماء في العود، وتجري جريان الدم في العروق، فتشع على صاحبها بالأنوار والأمان، فلا قلق ولا أرق ولا ضيق ولا نكد، بل رحمة واسعة ورضا ونعمة. وأول باب من أبواب الوصول إلى حلاوة الإيمان هو أن يرضى الإنسان بالله ربًّا؛ لأنه رب كل شيء ومليكه، ولأنه القائم على كل نفس بما كسبت، ولأنه...
الخطبة الأولى:
أما بعد:
أحبابنا في الله: في هذه الحياة المليئة بالتعب والشقاء، وفي هذه الدنيا الفانية التي بها النكد والضيق والبلاء، يقف الإنسان حائرًا: أين النجاة؟! وأين الطريق؟! وكيف يكون الخلاص من هذا البلاء الذي يعصف بالأمان والاطمئنان؟! في دنيا أصبح الحال فيها الضجر والأرق والاضطرابات النفسية والعصبية، وأصبح حال الناس الشكوى من هذه الحال، التي صار إليه الناس.
والباحث في أسباب هذه الحال يجد أن الإجابة تكمن في أننا ضيعنا طريق الإيمان، طريق الأمان، ولو عدنا إليه لاستقامت لنا الحياة، ولكنا في خير وأمان وإيمان، وسيد الإنسانية رسول البشرية -صلوات الله وسلامه عليه- يرسم لنا هذا الطريق الموصل إلى الإيمان والأمان في الدنيا، وإلى النعيم المقيم في الآخرة، ويقول -صلى الله عليه وسلم-: "ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد رسولاً". أخرجه مسلم والترمذي.
نعم إن للإيمان طعمًا يفوق كل الطعوم، وله مذاق يعلو على كل مذاق؛ لأن حلاوة الإيمان حلاوة روحية نفسية قلبية، تسري سريان الماء في العود، وتجري جريان الدم في العروق، فتشع على صاحبها بالأنوار والأمان، فلا قلق ولا أرق ولا ضيق ولا نكد، بل رحمة واسعة ورضا ونعمة.
وأول باب من أبواب الوصول إلى حلاوة الإيمان هو أن يرضى الإنسان بالله ربًّا؛ لأنه رب كل شيء ومليكه، ولأنه القائم على كل نفس بما كسبت، ولأنه رحمن الدنيا والآخرة، والرضا به يستلزم الرضا بعبادته ورجائه والخوف منه والانقطاع إليه والنزول عند أوامره وأحكامه والكف عن محارمه ونواهيه، سواء أدركنا الحكم في الأمر والنهي أم لم ندرك ذلك، بل علينا التسليم المطلق، والرضا الكامل، وتقديم أوامر الله على هوى أنفسنا الأمارة بالسوء، وعدم الاعتراض على ذلك باللسان أو بالقلب، بل يسلم وجهه إلى ربه مؤمنًا بعدالته وحكمته، راجيًا لرحمته، خائفًا من نقمته، ولنا في الرحمة المهداة والنعمة المسداة الأسوة والقدوة، فمن دعائه قوله: "اللهم إني أعوذ بمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بك منك، اللهم لا أستطيع ثناءً عليك، ولو حرصت، ولكن أنت كما أثنيت على نفسك". النسائي - عمل اليوم والليلة.
فهذا هو مع عظيم قدره ورفعة مكانته يسأل ربه رضاه، والسلامة من السخط والعقوبة، مع أنه قد غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، لكنها مرتبة الرضا بالله ربًا التي تتمثل فيه.
وكان يلح في دعائه لربه -سبحانه وتعالى- أن يكون راضيًا بقضائه مستسلمًا لأمره سبحانه، فكان يقول: "اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق، أحيني إذا كانت الحياة خيرًا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرًا لي، وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وأسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، وأسألك القصد في الفقر والغنى، وأسألك نعيمًا لا ينفد، وقرة عين لا تنقطع، وأسألك الرضا بعد القضاء، وأسألك الشوق إلى لقائك من غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة". سنن النسائي.
إنه دعاء خالص لرب كريم بالرضا والإنابة والإيمان، ما أحرانا أن ننهج هذا النهج في حياتنا ودعائنا لربنا، ولقد أدرك سلفنا الصالح -رضوان الله عليهم- هذه المرتبة، الرضا بالله ربًّا، فعاشوا حياتهم في جهاد وعمل ورضا بالله سبحانه كل الرضا، فهذا عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- يترجم معنى الرضا فيقول: الفقر والغنى مطيتان، ما أبالي أيهما ركبت: إن كان الفقر فإن فيه الصبر، وإن كان الغنى فإن فيه البذل.
إنه حال المؤمن الصادق الذي لا يبالي بالحياة ما دامت تدله على رضا الله، ويبلغ بها السعادة.
ولو نظرنا لحالنا اليوم لرأينا الحال عجبًا: فرح عند الغنى، حزن وغم عند الفقر، مع التسخط والتبرم. نسأل الله السلامة والعافية.
وهذا أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- كان يكثر من قوله: اللهم رضني بقضائك، وبارك لي في قدرك؛ حتى لا أحب تعجيل شيء أخرته، ولا تأخير شيء عجلته.
وقيل ليحيى بن معاذ -رحمه الله-: متى يبلغ العبد مقام الرضا؟! فقال: إذا أقام نفسه على أربعة أصول فيما يعامل به ربه يقول: إن أعطيتني قبلت، وإن منعتني رضيت، وإن تركتني عبدت، وإن دعوتني أجبت.
ولو أننا أقبلنا على الله، ورضينا بما قسم لنا، لعشنا في بهجة وفرح وسرور، وكنا في حفظ الله ورعايته. ومن رضي عن الله رضي الله عنه، قال الله تعالى: (هَـاذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّـادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّـاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنْهَـارُ خَـالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَّضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [المائدة: 119]، (إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّـالِحَـاتِ أُوْلَـئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ * جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ جَنَّـاتُ عَدْنٍ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَـارُ خَـالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رّضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِىَ رَبَّهُ) [البينة:7-8].
اللهم إنا نسألك رضاك والجنة، ونعوذ بك من سخطك والنار.
والمرتبة الثانية من أبواب حلاوة الإيمان ولذة اليقين هي الرضا بالإسلام دينًا؛ لأن الإسلام منبع الضياء، ومصدر الهداية: (إِنَّ الدّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلَـامُ) [آل عمران:19]، (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلَـامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى الآخِرَةِ مِنَ الْخَـاسِرِينَ) [آل عمران:85].
والحق أن الرضا بالإسلام دينًا يستلزم منا الدفاع عن هذا الدين، والجهاد من أجله، ونشره في الدنيا، وعدم التفريط، وأن يكون شعارًا ظاهرًا لنا في كل أفعالنا وأقوالنا، وواقعًا نعيشه في كل أمور حياتنا.
ولا يضرنا أن هناك من يتنكرون لإسلامهم، أو يعرضون عنه، أو لا يعتنون بتقوية روابطهم الإسلامية؛ فإن هؤلاء قد خسروا الدنيا والآخرة. نعوذ بالله من ذلك.
ولقد أدرك سلفنا الصالح هذه المرتبة، فكان همهم الحفاظ على هذا الدين في قلوبهم وحياتهم، ويبذلون كل شيء في سبيل الحفاظ عليه، لا يهمهم شيء من الدنيا إلا أن يحافظوا على هذا الدين.
حدث أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- غضب يومًا على زوجته عاتكة، فقال لها: "والله لأسوأنك، فقالت: أتستطيع أن تصرفني عن الإسلام بعد إذ هداني الله إليه؟! فقال: لا، قالت: فأي شيء تسوؤني به إذن؟!".
فهي واثقة أنها ستظل راضية النفس هادئة البال ما دامت مسلمة مستمسكة بدينها، حتى ولو صب عليها البلاء صبًّا، ولقد كان حال الواحد منهم كما قال:
ولست أبالي حين أقتل مسلمًا | على أي جنب كان في الله مصرعي |
والحال لو أن واحدًا منا قال له رئيسه، أو أن زوجًا قال لزوجته: لأسوأنك، فإن أول ما يخطر ببالها أنه يطلقها أو أن يتزوج عليها، وأما الموظف فإن ما يخطر في باله أن يحرمه من العلاوة، أو أن ينقص له الراتب. همنا في الدنيا، وهمهم في الآخرة، وشتان بين الحالين.
فاتقوا الله -عباد الله-، وليكن رضانا بالله ربًّا وبالإسلام دينًا واقعًا ملموسًا في حياتنا، نرتقي به في درج الإيمان حتى نصل إلى مرتبة اليقين، ونفوز بدار النعيم في الآخرة وبالسعادة التامة في الدنيا.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (لْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلاَمَ دِيناً) [المائدة:3].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. اللهم إني أسألك الصبر عند القضاء، والفوز عند اللقاء، وعيش السعداء، ونزول الشهداء، والنصر على الأعداء.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمدًا كثيرًا.
أما بعد:
أحبابنا في الله: وحلاوة الإيمان ولذة الرضا أن تكون بالرضا بهذا النبي الكريم سيد ولد عدنان -صلوات الله وسلامه عليه-؛ لأنه المبلغ عن ربه، المبين لدينه، ولأن الله يقول: (وَمَا ءاتَـاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَـاكُمْ عَنْهُ فَنتَهُواْ) [الحشر: 7]. والحبيب –صلوات الله وسلامه عليه– يؤكد على هذا فيقول: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وولده، وأهله والناس أجمعين".
والرضا بالرسول يتضمن الاقتداء به، والاهتداء بهديه، ومحبته، والعمل بقوله وفعله، وتقديم طاعته ، وبذل النفس والنفيس في الدفاع عن سنته، وتقديم حكمه على كل شيء يخالفه، والاقتداء به في دعائه ورجائه، في صلاته وصيامه، في دخوله وخروجه، وحفظ الأدعية والأذكار التي رويت عنه، وتحقيق ذلك في واقع الحياة.
إنها مرتبة المحبين المتبعين الذين يحرصون على الاقتداء به -صلى الله عليه وسلم-. اللهم ارزقنا كمال الاتباع لنبيك محمد -صلى الله عليه وسلم-.
إخوة الإسلام: يقول الرحمة المهداة: "من قال حين يسمع المؤذن: وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله، رضيت بالله ربًا وبمحمد رسولاً وبالإسلام دينًا، غفر له ذنبه". عمل اليوم والليلة – النسائي، ومسلم.
فاتقوا الله -عباد الله- واسلكوا نهج نبيكم تفلحوا وتسعدوا، ثم صلوا وسلموا على البشير النذير والسراج المنير.