البحث

عبارات مقترحة:

الرب

كلمة (الرب) في اللغة تعود إلى معنى التربية وهي الإنشاء...

المقيت

كلمة (المُقيت) في اللغة اسم فاعل من الفعل (أقاتَ) ومضارعه...

العزيز

كلمة (عزيز) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعيل) وهو من العزّة،...

من دروس الصوم

العربية

المؤلف خالد بن سعد الخشلان
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات المنجيات - الصيام
عناصر الخطبة
  1. تحقيق التقوى من الصيام وكيفية ذلك .
  2. حفظ الجوارح أثناء الصيام وكيفية ذلك .
  3. محاسبة النفس على تقصيرها .
  4. نعمة الجوارح والواجب نحوها .
  5. الاستمرار على الطاعة بعد رمضان .

اقتباس

إن من أوجه تحصيل التقوى لله رب العالمين: أن يتخرج الصائم من مدرسة الصيام، وهو أشد حرصا على حفظ جوارحه، والسعي لاستقامتها على صراط الله -عز وجل-. فلا يستعمل الصائم بعد صومه لسانه وسمعه وبصره إلا في محاب الله -عز وجل- ومراضيه، ذلك؛ لأن المسلم يدرك أن حقيقة الصيام التي قضاها في مدرسة الصوم ليست في...

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل ،له ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، وأمينه على وحيه، وخيرته من خلقه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أئمة الهدى، ومصابيح الدجى، ومن تبعهم واكتفى، وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء: 1].

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 70-71].

أما بعد:

فيا عباد الله: اجتهدوا في عبادة ربكم، واستعدوا -رحمكم الله- لما أمامكم من أهوال الاحتضار والقبر، وشدائد البعث والنشور التي لم ينجو منها أحد إلا بتحقيق التوحيد لله رب العالمين، وكمال الانقياد، وتمام الاستجابة لله ولرسوله -صلى الله عليه وسلم- بعد فضل الله ورحمته.

ألا فاتقوا الله -عباد الله-: واجعلوا من أيام حياتكم وأعماركم فترة للتزود من الأعمال الصالحة، والتقرب إلى الله -عز وجل- بالقربات النافعة التي تكون سببا في دخول جنة الله -عز وجل-، بعد فضل الله ورحمته، والنجاة من عذابه وناره.

أسأل الله -عز وجل- أن يجعل حياتنا عامرة ،بطاعته وأوقاتنا مملوءة بذكره وشكره، وحسن عبادته، وأن يقبل منا صيامنا وقيامنا، وصالح أعمالنا، وأن يجعلنا ربنا -سبحانه وتعالى- ممن كتب لهم العتق من النار في شهر رمضان.

أيها الإخوة في الله: إن من أعظم الدروس التي يجب أن يكون المسلم قد استفادها من مدرسة الصيام والقيام، وقراءة القرآن: تحقيق التقوى لله رب العالمين.

التقوى بشمولها وعمومها التي تشمل فعل كل ما يحبه الله -عز وجل- ويرضاه، والحذر من الوقوع في كل ما يغضب الله ويسخطه.

هذه هي حقيقة التقوى التي من أجلها شرع الله الصيام، ليستفيد الصائمون من صيامهم وقيامهم، مزيدا من التقوى لله رب العالمين: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)[البقرة: 183].

ألا وإن من أوجه تحصيل التقوى لله رب العالمين: أن يتخرج الصائم من مدرسة الصيام، وهو أشد حرصا على حفظ جوارحه، والسعي لاستقامتها على صراط الله -عز وجل-.

فلا يستعمل الصائم بعد صومه لسانه وسمعه وبصره إلا في محاب الله -عز وجل- ومراضيه، ذلك؛ لأن المسلم يدرك أن حقيقة الصيام التي قضاها في مدرسة الصوم ليست في الإمساك عن الطعام والشراب والجماع فحسب، بل تشمل –كذلك- الإمساك عن سائر المحرمات، مما يكون سببها السمع، أو البصر، أو اللسان.

كما جاء عن بعض السلف أنه قال: "إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك".

ولذلك جاء في الحديث: أن امرأتان صامتا وأخذتا تتكلم في أعراض الناس، فلما علم صلى الله عليه وسلم، بخبرهما أنكر عليهما صنيعهما، وقال معرضا بقبح فعلهما: "صامتا عما أحل الله، وأفطرتا على ما حرم الله؛ جلست إحداهما إلى الأخرى تأكلان لحوم الناس".

ومن هذا المبدأ سارع الراغبون في حفظ صيامهم إلى جوارحهم؛ فراقبوها في شهر الصوم، وألزموها بطاعة الله، والحذر من الوقوع في معاصيه ومساخطه.

فكانوا يشغلون ألسنتهم طيلة أيام الصيام بقراءة القرآن الكريم، والتسبيح والتحميد والتهليل والتكبير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وسائر فعال الخير وخصاله، نفروا من الغيبة والنميمة والفحش والتفحش، وكذلك خصال السوء.

وكذلك الحال بالنسبة للسمع، فلم يكونوا يسمحون بدخول ما حرم الله -عز وجل- إلى مسامعهم، بل كل همهم كان متوجها إلى سماع القرآن والذكر والمواعظ.

وأما الأبصار، فقد كانت همة كثير من الصائمين في حفظها قوية، فلا التفات إلى ما حرم الله، ولا إرسال للطرف في تتبع ما يسخط الله، سواء في الشارع أو السوق، أو على صفحات الجرائد والمجلات أو على شاشات القنوات الفضائية وغيرها، حتى وصل الحد ببعض الناس إلى إغلاق هذه الأجهزة في شهر رمضان، لعلمهم أن كثيرا مما كان يعرض فيها منقص للإيمان، خارق للصيام، مع ما فيه من قتل للمروءة، وتحريك للفتنة، وغير ذلك من الشرور والسموم.

هذا الموقف من الجوارح في مدرسة الصيام؛ يرسخ في نفس المسلم، ويغرس في قلبه، ويعمق فيه: الشعور بالمسئولية عن هذه الجوارح، وأنه مؤتمن عليها، وأن واجب القيام بالأمانة يتطلب من المسلم أن يكون دائما وأبدا محافظا على جوارحه، صارفا لها في طاعة مولاه، مسخرها في فعل ما يحب ربه ويرضاه، حذرا كل الحذر من أن تكون هذه الجوارح التي وهبه الله إياها أسلحة لعدوه الشيطان اللعين، تعود على صاحبها بكل شر ومصيبة في الدنيا والآخرة.

غير أن مما يؤسف المسلم: أن نرى كثيرا من الناس لم يستفيدوا من مدرسة الصيام في هذا الميدان، ألا وهو حفظ الجوارح، فما إن انتهت أيام رمضان ولياليه المباركة الشريفة، حتى تغيرت حال كثير من الناس، واستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير، فأطلقوا العنان لجوارحهم، تخوض في كل ميدان دون نظر إلى حلال وحرام، فعاد بعض الناس مباشرة صبيحة العيد إلى ممارسة الغيبة والنميمة، والوقوع في أعراض المسلمين، والكلام البذيء، والقول الفاحش، وضعفت حالهم مع قراءة القرآن من آخر الشهر، وتسبيح الله وتمجيده، وتهليله وتحميده.

حتى غلب الخبيث من الأقوال طيبها عند كثير من الناس، وشرها خيرها، وضارها نافعها، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

وكذا الشأن بالنسبة للسمع، فسمحوا بالدخول إلى مسامعهم كل شيء، فالغيبة والنميمة يتلذذ بسماعها، والسخرية والاستهزاء من عباد الله، وسماع الغناء والمعازف محببة إلى الآذان، تهدر بها كثيرا من الأوقات في المنازل والحفلات والسيارات، وغير ذلك.

بل بعضهم يسمح للسماع لما يتنقص من الشريعة، أو بعض أحكامها، أو يسخر من بعض شرائعها بكل هدوء واسترخاء، وتبلد إحساس، يسمع هذه الكلمات، والله -عز وجل- يقول: (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)[الأنعام: 68].

وأما جارحة البصر، فإلى الله المشتكى من حالها عند كثير من الناس، فما إن أعلن انتهاء شهر الصيام، حتى أعلن كثير من الناس انتهاء الفترة الإيمانية الروحانية، وإذا بصبيحة العيد وأول أيامه تطل على المسلمين بالأفلام الساقطة الهزيلة، حتى في مضمونها ومحتواها، فضلا عن شكلها وأدائها.

بل حرص كثير من الصائمين: أن يفطروا على آخر ما توصل إليه أعوان الشيطان في مجال الأفلام الخبيثة، فها هي أعداد كبيرة من الناس تتنقل من قناة فضائية إلى قناة فضائية، بحثا عن كل جديد من هذه الأفلام التي تخدش الحياء، وتزعزع الإيمان، وتثير الشهوات، ويجد عشاق الرذيلة، ومحاربي الفضيلة، هذه الأيام سوقا لترويج هذه الأفلام النتنة.

فإلى الله المشتكى من حال كثير من الناس، أهذا هو تأثير الصيام في نفوسهم؟ أهذه هي استفادتهم من مدرسة الصوم والقيام وقراءة القرآن؟ أهؤلاء الذين يرجى لأعمالهم القبول؟

ومن علامات القبول: استمرار الأعمال الصالحة، وإتباع الحسنة الحسنة.

إنني أذكر نفسي وهؤلاء بمحاسبة أنفسهم ومراجعاتها قبل فوات الأوان، فإن العمر -والله- قصير، والأجل قريب، والموت يأتي بغتة، والقبر صندوق العمل: (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [الزلزلة: 7- 8].

وما يدري الإنسان أيمن الله -عز وجل- عليه بإدراك شهر رمضان مرة أخرى أو لا؟!

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ)[آل عمران: 30].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه وتوبوا إليه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله حمدا طيبا كثيرا كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه، وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.

أما بعد:

فيا عباد الله: اتقوا الله -عز وجل-، اتقوا الله، واستجيبوا لوصية مولاكم، هذه الوصية التي تقرع أسماعنا دائما وأبداً، وفي كل خطبة جمعة: أن اتقوا الله.

فاتقوا الله -عباد الله-: واعلموا أن فلاحكم وسعادتكم في الدنيا والآخرة بأن تكونوا من عباد الله المتقين، الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون: (الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [يونس: 63-64].

فاتقوا الله -عباد الله-: وجاهدوا أنفسكم في أن تنظموا وأن تكونوا في عباد الله المتقين.

تلمسوا كل فعل يحبه الله فافعلوه، فإن ذلك من التقوى، وانتبهوا إلى كل فعل وقول يغضب الله ويسخطه؛ فاتركوه واجتنبوه، فإن ذلك من التقوى.

وإذا سرتم في حياتكم على هذا النهج، وهذا المنوال، في تتبع كل ما يحبه الله ويرضاه، والبعد والحذر عن كل ما يغضب الله ويسخطه، فثقوا أنكم ستكونون من عباد الله المتقين، الموعدين بأصناف الكرامات، وأنواع النعيم في الدنيا والآخرة: (إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ)[الإنفطار: 13].

قال بعض السلف: "هم في نعيم في الدنيا، ونعيم في القبر والبرزخ، ونعيم يوم القيامة يوم العرض على الله -عز وجل-".

أسأل الله -عز وجل- أن يجعلنا من عباده المتقين، وأوليائه المفلحين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.

أيها الإخوة المسلمون: إن الجوارح نعمة عظيمة من رب العالمين.

ولكي تدرك -أخي المسلم-: عظم هذه النعمة انظر إلى حال من فقدها من الناس؛ لترى عظيم فضل الله عليك.

أفيكون جزاء المنعم عليك  سبحانه وتعالى أن تقابل نعمته بالجحود، وإحسانه إليك بالإساءة، وحلمه ولطفه بك بالاستمرار في الغي والضلالة؟!.

أدرك نفسك -يا مسكين-: قبل فوات الأوان، وحاسب نفسك قبل أن تعرض على من لا تخفى عليه خافية.

واعلم أن واجب نعمة الله -عز وجل- عليك بهذه الجوارح: أن تسخرها في طاعة الله، وفعل كل ما يحبه ربك ويرضاه.

أرأيت -أخي المسلم-: لو أن ملكا من ملوك الدنيا أعطاك مالا وخيرا، ثم سخرته في محاربة الملك، وفعل كل ما يسخطه ويغضبه، ترى ماذا يقال عنك؟ وماذا يفعل الملك بك؟

إن أقل ما يقال عنك: أنك جاحد للنعمة، مفرط في حفظها، وأن أقل ما تستحقه: أن تسحب هذه النعم منك؛ لأنك لست أهلا لها.

فكذلك الحال -ولله المثل الأعلى- بالنسبة لهذه الجوارح التي حباك الله إياها.

ثم اعلم -يا عبد الله-: أنك ستسأل عن هذه الجوارح، ستسأل عن سمعك: ماذا عملت فيه؟ وفي ما استخدمت سمعك؟ وعن بصرك؟ وعن لسانك؟: (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً)[الإسراء: 36].

فماذا سيكون موقفك حينما تُسأل عن هذه الجوارح، وقد استخدمتها في كل ما يغضب الله ويسخطه.

أليست الغيبة والنميمة والكذب والكلام البذيء؛ مما يغضب الله؟ أليس النظر إلى عورات المسلمين، ومشاهدة الصور المحرمة، والأفلام الخبيثة؛ مما يغضب رب الأرباب -سبحانه وتعالى-؟ أليس سماع الغناء والمعازف؛ مما يغضب الرب -سبحانه وتعالى-؟!

هل تظن أنك ستجد حيلة، أو مخرجا يوم القيامة؛ إذا سألت هذه الأسئلة؛ عن جوارحك في أي شيء عملت فيها؟ وفي أي شيء استخدمتها؟: (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا)[الكهف: 49].

اعلم -أخي المسلم-: أن هذه الجوارح التي اؤتمنت عليها، فضيعت الأمانة؛ ستكون شاهدة عليك يوم القيامة بكل ما عملت، سيشهد عليك سمعك، وسيشهد عليك بصرك، وسيشهد عليك لسانك، وستشهد عليك يداك ورجلاك.

جاء في الأثر: أن العاصي إذا قرر يوم القيامة بما عمل ينكر، ويقول: يا رب لا أرضى إلا شاهدا من نفسي؟ فيختم على فيه، فلا يتكلم، ثم يقال لجوارحه: انطقي، فتنطق الجوارح بما عملت، تنطق يداه بما بطشت، ورجلاه إلى أي موضع مشت، فعندئذ يقول: "سحقا لكن وبُعدا، فعنكن كنت أنافح.

وهذا معنى قول الله -عز وجل-: (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)[يس: 65].

وفي الآية الأخرى: (وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)[فصلت: 21].

فاستحضر -­يا عبد الله-: هذه المعاني، ولتكن مراقبا لهذه الجوارح التي ائتمنك الله -عز وجل- عليها، فلا تستثمرها إلا فيما يحب ربك ويرضاه، إلا فيما يعود عليك بالنفع في الدنيا والآخرة.

إذا كان هذا -أيها الإخوة المسلمون-: حال كثير من الناس بعد انتهاء الصوم مع جوارحهم، ولم يستفيدوا شيئا من مدرسة ،الصيام فإن هناك فئام من عباد الله الموفقين، فإن هناك فئام من عباد الله المتقين؛ أدركوا عظم نعمة الله -عز وجل- عليهم؛ بإدراك شهر الصوم والقيام والقراءة، فجعلوا من شهر رمضان؛ فرصة لتجديد التوبة، فرصة لكسب مزيد من الحسنات، فرصة لكسب مزيد من الطاعات والقربات، فقوي إيمانهم، وتعمقت وتجذرت التقوى في أفئدتهم.

واصطحبوا ذلك بعد انتهاء شهر الصوم، فهم بعد شهر الصوم أشد حرصا على فعل الطاعة وفعل الخير، فها هم ملازمون للصلوات مع جماعة المسلمين، لم يفتتحوا شهر شوال بتفويت صلاة الفجر، أو النوم عنها، ولم يفتتحوا شهر شوال بترك صلاة الوتر، أو تضييعه وإهماله، ولم يفتتحوا شهر شوال بالإعراض عن كتاب الله -عز وجل-، بل كان لهم حظ من كتاب الله -عز وجل- في شوال، كما كان لهم حظ من قراءة القرآن العظيم في شهر رمضان.

هؤلاء عباد الله الموفقون، هؤلاء هم الموعودون بفضل الله ورحمته بالنعيم في الدنيا والآخرة.

أسأل الله -عز وجل- بمنه وكرمه أن يمن علينا جميعا بالتوبة والإنابة، وأن يوفقنا لما يحب ربنا ويرضى، وأن يأخذ بنواصينا إلى البر والتقوى، وأن يسيرنا لليسرى، وأن يجنبنا العسرى، وأن يجعل أحوالنا وأعمالنا وأقوالنا وأفعالنا بعد شهر رمضان خيرا منها قبل شهر رمضان.

نسأل الله -عز وجل- أن يعجل بنصره لعباده المجاهدين في كل ؛مكان إنه على كل شيء قدير.

هذا، وصلوا وسلموا على نبيكم محمد بن عبد الله، فقد أمركم ربكم بهذا في كتابه، فقال عز من قائل: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].

وقال عليه الصلاة والسلام: "من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا".

اللهم صل وسلم وبارك...