المليك
كلمة (المَليك) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فَعيل) بمعنى (فاعل)...
العربية
المؤلف | عبدالله بن حسن القعود |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - المنجيات |
ما خاف مقام الله من أمن بطشه وعقابه، ما خاف مقام الله من أظهر الخير أمام الناس، وأعلن الشر أمام الله الذي لا تخفى عليه خافية، ما خاف الله من علم حرمة الزنا والربا مثلاً، حرمة الكذب والمخادعة، حرمة المحاباة والإيثار، حرمة الخيانة والفسق، ثم ارتكب هذه المحارم ..
الحمد لله الذي لا ربّ لنا سواه، ولا نعبد إلاَّ إيَّاه، الحمد لله مؤمن من خافه، ومعطي من رجاه، أحمده سبحانه لا أُحصي ثناءً عليه، وأستعفيه وأستغفره وأتوب إليه، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، قال في كتابه الكريم: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) [الأنعام:82].
وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله؛ أفضلُ من جُمعت له أعلى مقامات الخوف والرجاء، قال عنه ربه: أنه قال: (إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) [الأنعام:15] صلى الله وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه الذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنّهم إلى ربِّهم راجعون، وسلّم تسليماً كثيراً.
أمَّا بعد: فقد جاء في الحديث الشريف قوله -صلى الله عليه وسلم-: "الإيمان بضعٌ وسبعون أو بضع وستون شعبة أفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان" متفق عليه.
وإنَّ هناكم دعامتين عظيمتين من دعائم الإيمان التي يقوى بوجودهما، ويضعف بضعفهما، ويُفقد بفقدانهما، دعامتين حثَّ عليهما القرآن، ورغّب في الاتصاف بهما أعظمَ ترغيب، وبشَّر أهلهما بالمغفرة والأجر الكبير، وهما خوف الله ورجاؤه. يقول الله سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) [الملك:12] ويقول: (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ) [الرحمن:46] ويقول عن أهل الجنة: (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ) [الطور:25-27]
أيُّها المسلمون: لقد جاءت هذه البشرى العظيمة لمن يخاف مقام ربه، ولمن يخشى ربه، ولمن يدعو ربه ويعبده خوفاً وطمعاً. فاتَّقوا الله وخافوا مقام الله؛ خافوا الوقوف بين يديه تعالى يوم القيامة في ذلكم الموقف الهائل العظيم الذي يشيب من هوله المولود، وتضع في الحوامل أحمالها، وتخرج الأرض فيه أثقالها، وتحدّث أخبارها، ويتخلّى فيه عن الإنسان كل أحد (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ* إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الشعراء:88-89]
واعلموا أنَّ كل خوف لا يمنع صاحبه من الوقوع في محارم الله لا يُعَدّ خوفاً، فما خاف مقامَ الله ووعيده من بارزه بالمعاصي، مع علمه باطلاع الله وإشرافه عليه، وأنَّه سيقام بين يديه يوم القيامة.
ما خاف مقام الله من أمن بطشه وعقابه، ما خاف مقام الله من أظهر الخير أمام الناس، وأعلن الشر أمام الله الذي لا تخفى عليه خافية، ما خاف الله من علم حرمة الزنا والربا مثلاً، حرمة الكذب والمخادعة، حرمة المحاباة والإيثار، حرمة الخيانة والفسق، ثم ارتكب هذه المحارم.
ما خاف الله ولا مقام الله، فالخوف الحقيقي الذي يؤمن صاحبه يوم القيامة؛ هو الذي يحول بين المرء وبين انتهاك حرمات الله كخوف من قال فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله"، وذكر منهم: "رجلاً دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إنِّي أخاف الله".
وكل خوفٍ خلا من الرجاء فهو يأس وقنوط. قال تعالى: (إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) [يوسف:87] وقال: (وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ) [الحجر:56]
فاتَّقوا الله -أيُّها المسلمون-، وخافوا خوفاً بجانبه رجاءٌ وأمل وتحسين ظنٍ بالله، رجاءُ عبد عمل بطاعة الله على نور من الله يرجو ثواب الله، رجاء من قال الله تعالى فيه: (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ) [الزمر:9] (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) [السجدة:16]
واعلموا أن كل رجاء لا يحمل صاحبه على فعل المأمورات لا يعد رجاءً بل هو مغالطة، وأمنٌ من مكر الله (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ) [الأعراف:99]
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها
فالرجاء الصادق هو الذي يدفع صاحبه إلى فعل الخير والاستزادة في أعمال البر، يقول سبحانه: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) [الكهف:110] ويقول: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ) [البقرة:218] ويقول عن آل زكريا: (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) [الأنبياء:90]
وبهذه النصوص -أيُّها المسلمون- يعلم المؤمن أنَّه يجب عليه أن يكون دائماً في جميع أحواله؛ خائفاُ وراجياً يخاف عذاب الله ويرجو ثوابه، يخاف على المسيئين من أُمَّة محمد، ويرجو للمحسنين، ولا خوف نافع بدون رجاء ولا رجاء بدون خوف.
يقول العلامة ابن القيم -رحمه الله-: "إنَّ الخوف والرجاء للمؤمنين كجناحي الطائر للطائر، إن فُقدا أو فقد أحدهما عرض الطائر للهلاك، وإن سلما تمَّ للطائر والطيران، وفي الصحيح أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "يقول الله تعالى: أنا عند ظنّ عبدي بي فليظن بي ما شاء".
وروى مسلم عن جابر -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبل أن يموت بثلاث يقول: "لا يموتن أحدكم إلاَّ وهو يحسن الظنَّ بالله" وروى الترمذي وابن أبي الدنيا عن أنس قال: "دخل -صلى الله عليه وسلم- على شاب يعوده فقال: "كيف تجدك" قال: أرجو الله يا رسول الله، وأخاف ذنوبي، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يجتمعان في قلب عبد من مثل هذا الموطن؛ إلا أعطاه الله ما يرجو وأمّنه مما يخاف".
اللهم آمنا من أفزاع يوم القيامة، واجمع لنا بين الخوف الصادق والرجاء النَّافع، واغفر لنا وللمؤمنين والمؤمنات، إنك أنت الغفور الرحيم.