القيوم
كلمةُ (القَيُّوم) في اللغة صيغةُ مبالغة من القِيام، على وزنِ...
العربية
المؤلف | عبد الرحمن بن علي العسكر |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات - أركان الإيمان |
حلاوة الإيمان -عباد الله- هي التي ذكرها الرسول لخباب حينما طلب منه أن يدعو الله أن يكشف عنهم أذى الكفار، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "إن كان الرجل ممن كان قبلكم ينشر بالمنشار ما بين جلده وعظمه ما يرده ذلك عن دينه". حلاوة الإيمان هي التي تكون سلاحًا للمؤمن خلال أيامه ضد...
الخطبة الأولى:
أما بعد:
فاتقوا الله أيها الناس، فإنها خير الوصية، في كل وقتٍ وفي كل حالٍ: "اتق الله حيثما كنت"، ليس هناك شيء أفضل من الوصية بها. إن تقوى الله تورث المرء في الدنيا انشراحًا وانبساطًا، وفي الآخرة فوزًا وسرورًا: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) [الطلاق:2، 3]، (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا) [الطلاق:4]، (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا) [الطلاق:5].
عباد الله: انظروا إلى الشمس؛ كلَّ يوم تطلع من مشرقها ثم تغيب في مغربها، وفي ذلك أعظم العبرة، (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) [يس: 38-40].
إن طلوع الشمس ثم غيابها مؤذِن بأن هذه الدنيا ليست بدار قرار، وإنما هي طلوع ثم غياب ثم زوال، ألم تروا هذه الشهور تهلّ فيها الأهلة صغيرةً كما يولد الطفل صغيرًا، ثم تنمو رويدًا كنمو الأجسام، حتى إذا تكامل نموها واشتدت قوتها وكبر جسمها بدأت النقص إلى الاضمحلال؟! وهكذا عمر الإنسان سواء بسواء، (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ) [الروم:54].
عباد الله: مضى عام وبدأ عام، والأيام تطوى والأعمار تقضَى، يبدأ العام وينظر أحدنا إلى آخره نظر البعيد، ثم تمر الأيام عجلى، فينتهي العام كلمح البصر، فإذا هو في آخره، وهكذا عمر الإنسان يتطلع إلى آخره تطلع البعيد، وما يدري إلا وقد هجم عليه الموت.
أيها الناس: إن في مرور الأيام وتصرّم الأعوام عبرًا يجب أن تكون عظةً للمتعظين، كما أن العام تكون فيه مُثُل كريمة تبدو واضحة من مناهج الصالحين في دروسٍ رسموها ومناهج سلكوها ليصلوا بها إلى الغاية الكريمة من رضوان الله وكريم ثوابه.
عباد الله: أما العبر التي توجب عند المرء اعتبارًا فلا يحويها بيان ولا تقع في حدودٍ، كم من نكباتٍ للمسلمين وقعت، حروب طاحنه، وقتل وتشريد، انتهاك للحقوق وهضم للكرامات وإماتة للفضيلة. كم مرّ بالأسماع -أيها الناس- خلال العام المنصرم من أخبارٍ لزلازل عنيفة وفيضانات جامحة مروّعة، كلها مشعرة بعجز المخلوق وافتقاره إلى رحمة الخالق العظيم القادر، كم مر بالأسماع -عباد الله- من ظروف حرجة مرت بها الأمة الإسلامية كانت مختبرًا لصدق الإيمان وقوة العقيدة!!
ورد عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: "كل عام ترذلون"، يقول ابن كثير: "وهذا الكلام وإن كان لعائشة إلا أنه صحيح واقع يشهد له حديث الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "لا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه إلى أن تقوم الساعة".
يمر بالناس كلَّ عام ما يشهد لقول الله سبحانه: (أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ) [التوبة:126].
يمر بالناس كلَّ عام ما يشهد لقول الرسول الذي رواه البخاري عن مرداس الأسلمي قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يذهب الصالحون الأول فالأول، ويبقى حفالة كحفالة الشعير أو التمر، لا يعبأ الله بهم".
عباد الله: أشد الناس حرصًا على تتبع أيام العام وانتظارها يومًا بعد يوم هو المزارع، يعيش كل عام حياة عجيبة، يحرث ثم يزرع ثم يهتمّ ويرعى ثم يحصد، وما ألذها من ساعةٍ تلك الساعة التي يحصد فيها ما زرع، وهكذا الواجب على المسلم أن تكون حياته كلّها ميدان عملٍ لا يضيع منها ساعة أو لحظة.
إن أشدَّ ما يحرص عليه بنو آدم الاهتمام بصحّتهم وسلامتهم، في الشتاء يدفّئونها ويحمونها من البرد وشدته، وفي الصيف يراعون أجسامهم حتى لا تتأثّر بحرارة الشمس، وهم فيما بين ذلك يمشون مع رغبات أنفسهم، لكن أفلا يكون لقلوبهم مقياس يقيسون به قوّة إيمانهم ليعرفوا به زيادته من نقصه؟!
عباد الله: إن فيما أثر عن الرسول حديث هو كالمعيار لإيمان المرء يقيس به مقدار الإيمان في قلبه، روى البخاري ومسلم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان". نعم، للإيمان حلاوة وطعم، حلاوة تجعل المؤمن دائمًا في سعيٍ لما يرضي الله سبحانه وسعي دائم في الابتعاد عما يسخطه، حلاوة الإيمان التي منعت ذلك الرجل من مواقعة الحرام فنال ما نال، جاء في الحديث الصحيح: "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله"، وذكر منهم: "رجل دعته امرأة ذات منصبٍ وجمال فقال: إني أخاف الله".
حلاوة الإيمان -عباد الله- هي التي ذكرها الرسول لخباب حينما طلب منه أن يدعو الله أن يكشف عنهم أذى الكفار، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "إن كان الرجل ممن كان قبلكم ينشر بالمنشار ما بين جلده وعظمه ما يرده ذلك عن دينه". حلاوة الإيمان هي التي تكون سلاحًا للمؤمن خلال أيامه ضد المغريات والشهوات والشبهات.
الخصلة الأولى -عباد الله-: "أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما". إن العبادة الحقيقية هي التي تجعل علاقة العابد مع المعبود فوق كل شيءٍ، جاء عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- إلى رسول الله فقال: يا رسول الله: "والله إني لأحبك أكثر من كل شيءٍ إلا من نفسي"، فقال: "لا يا عمر، حتى من نفسك"، فقال عمر: "والله، إني لأحبك أكثر من كل شيءٍ حتى من نفسي"، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "الآن يا عمر".
هذه المحبة التي متى ما خلت منها قلوب الناس فإن الله قد توعدهم بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [المائدة:54].
عباد الله: ما منكم أحد إلا وهو يقول: أنا أحب الله ورسوله، ولكن المصيبة –أيها الناس- أن مثل ذلك لا يكفي، فلا يكفي أن تكون محِبًّا، بل لا بد أن تكون محبوبًا.
روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "يقول الله سبحانه: ما تقرب إلى عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيءٍ أنا فاعله ترددي عن نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأنا أكره مساءته"، ولقد جاء في حديث آخر عند البخاري: "إذا أحب الله عبدًا نادى جبريل: إن الله يحب فلانًا فأحبوه، فيحبه جبريل، وينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يحب فلانًا فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض". فطوبى لعبدٍ نال هذه المنزلة.
أيها الناس: لا بد للمرء في حياته من تعامل مع الآخرين، وحب الناس بعضهم لبعض إما لدنيا أو وظيفة أو مكانة، ولكن قاعدةً عظيمة بناها لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في التعامل مع الناس في جميع حياتنا وهي الخصلة الثانية في الحديث: "أن يحب المرء لا يحبه إلا لله".
نعم -أيها الناس- لو بنينا معاملاتنا وتعاملنا مع الناس على قاعدة الحب لله والبغض في الله لم نجد غشًّا ولا حسدًا، ولم نرَ ظلمًا ولا اضطهادًا، إننا متى ما جعلنا الدنيا هي أساس علاقاتنا فإنما نبني على جرفٍ هارٍ ما أسرع ما يسقط، ولهذا وجدنا أصدقاء في الرخاء بعداء في الشدة.
إن المحبة في الله هي التي تنزل المرء منازل رفيعة، جاء في ذلك الحديث السابق في السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: "ورجلان تحابا في الله، اجتمعا عليه وتفرقا عليه".
جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "خرج رجل يزور أخًا له في قرية أخرى، فأرصد الله بمدرجته ملكًا، فلما مرّ به قال: أين تريد؟! قال: أريد فلانًا، قال: لقربة؟! قال: لا، فلنعمة له عندك تربها -يعني تردّها- إليه؟! قال: لا، قال: فلم تأتيه؟! قال: إني أحبه في الله، قال: فإني رسول الله إليك أن الله يحبك بحبك إياه".
أترون شخصًا جعل مثل هذه المحبة مقياسًا له في معاملته يرضى لأخيه بنقص أو ظلم؟! أوَتظنونه يتكلم في عرض أخيه، أم تحسبونه سيؤذيه؟!
جاء في الحديث: "أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله"، وروى الإمام أحمد والطبراني بأسانيد صحيحة أن رسول الله قال: "أيها الناس: اسمعوا واعقلوا واعلموا أن لله -عز وجل- عبادًا ليسوا بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم النبيون والشهداء على منازلهم وقربهم من الله"، فجثا رجل من الأعراب من قاصية القوم وألوى إلى النبي فقال: يا رسول الله: ناس من المؤمنين ليسوا بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء على مجالسهم وقربهم!! انعتهم لنا يا رسول الله، فسرّ وجه الرسول بسؤاله فقال: "هم أناس من بلدان شتى ومن نوازع القبائل، لم تصل بينهم أرحام متقاربة، تحابوا في الله وتصافوا، يضع الله لهم يوم القيامة منابر من نورٍ فيجلسهم عليها، فيجعل وجوههم نورًا وثيابهم نورًا، يفزع الناس ولا يفزعون، وهم أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون".
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعنا بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمدًا كثيرًا كما أمر، يطلب القليل ويكافئ بالكثير، يتفضل على عباده وهو الغني الحميد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فاتقوا الله أيها الناس.
إن جميع المخلوقات مهما بلغوا من القوة والصلابة فإنهم مجمعون على الخوف من النار، بل إن أحدًا قد يصبر على أنواع من العذاب إلا أن يعذَّب بالنار، (كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ) [النساء:56].
إن الخوف من النار أمر مفطور عليه ابن آدم، وقد رسّخ هذه القاعدة رسول الله في الخصلة الثالثة، فقال: "وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار".
عباد الله: كما يكره المرء النار ويبغضها ويخاف منها ينبغي أن يكره المعصية والرذيلة والكفر بالله، كما تخاف من النار خف من الوقوع في المعصية، ميزان دقيق وحكم عدل لو استشعره كل امرئ مقدم على معصية لما وقع فيها.
انظروا -عباد الله- إلى ذلك الحديث المعروف الدائر على الألسنة: "من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل". إن القلب الذي لا يجد تنكرًا للمعصية عديم من الإيمان، ولا يجتمع حب المعصية والإيمان أبدًا.
بنو إسرائيل كانوا إذا فعل أحدهم المنكر قالوا: يا عبد الله: اتق الله ودع ما تصنع، فإذا جاء من الغد لم يمنعهم ذلك أن يكون هذا العاصي أكيلهم وجليسهم، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم بعض ولعنهم: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) [المائدة:78].
إن الناس -عباد الله- متى ما استهانوا بهذه القاعدة وهي كراهية المعصية وكراهية أهلها، متى ما استهانوا بذلك فلا عليهم من الله أن يعاقبهم بما أراد، وإنك لتعجب من تعوُّد الناس على الجلوس مع أصحاب معاصٍ ومنكرات كنا في سالف من الزمن نعد الجلوس معهم من أكبر المعاصي، ومن جالسهم فهو منهم، وما وقع ذلك إلا لما انتزعت هذه القاعدة من القلوب.
عباد الله: هذا الحديث مقياس الإيمان في قلب كل مؤمن، فلينظر كلٌّ ما قوة إيمانه.
اللهم صل على محمد...