البحث

عبارات مقترحة:

الرءوف

كلمةُ (الرَّؤُوف) في اللغة صيغةُ مبالغة من (الرأفةِ)، وهي أرَقُّ...

الأول

(الأوَّل) كلمةٌ تدل على الترتيب، وهو اسمٌ من أسماء الله الحسنى،...

تأملات في سورة الفاتحة

العربية

المؤلف إسماعيل القاسم
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات القرآن الكريم وعلومه
عناصر الخطبة
  1. فضائل سورة الفاتحة .
  2. تأملات في معاني الفاتحة .
  3. أهمية الهداية إلى الصراط المستقيم .
  4. تفسير مختصر جامع لسورة الفاتحة. .

اقتباس

وسميت بأم الكتاب، لأنه يبدأ بكتابتها في المصاحف، ويبدأ بقراءتها في الصلاة، وسميت بذلك أيضًا لرجوع معاني القرآن الكريم كلِّه إلى ما تضمنته، مع أن عدد كلماتها خمسٌ وعشرون كلمة، كما نقل ذلك ابن كثير -رحمه الله-.

الخطبة الأولى:

أنزل الله -تعالى- في كتابه الكريم سورًا وآياتٍ، وفاضل بينها، وأفضل سورة في القرآن الكريم سورةُ الفاتحة، هي الفاتحة، وأم الكتاب، وأم القرآن، والسبع المثاني، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- فيها: "الحمد لله رب العالمين، أم القرآن، وأم الكتاب، والسبع المثاني"(رواه أبو داود)، وهي كافية، ووافية، وشافية، لا يقبل الله صلاة عبد إلا بها.

وسورة الفاتحة يقال لها: الرُّقية، فعندما رُقي سيدُ القوم بفاتحة الكتاب من أثر لدغة، كما في الصحيح من حديث أبي سعيد -رضي الله عنه-: فكأنما نشط من عقال، فانطلق يمشي، فقال له رسول الله: "وما يدريك أنها رقية".

 وسماها سفيان بن عيينة -رحمه الله- بالوافية، وسماها يحيى بن أبي كثير -رحمه الله- بالكافية. ويقال لها: سورة الصلاة والكنز.

وسميت بأم الكتاب، لأنه يبدأ بكتابتها في المصاحف، ويبدأ بقراءتها في الصلاة، وسميت بذلك أيضًا لرجوع معاني القرآن الكريم كلِّه إلى ما تضمنته، مع أن عدد كلماتها خمسٌ وعشرون كلمة، كما نقل ذلك ابن كثير -رحمه الله-.

ومن فضائلها ما ذكره النبي -صلى الله عليه وسلم-: "والذي نفسي بيده! ما أنزلت في التوراة، ولا في الإنجيل، ولا في الزبور، ولا في الفرقان، مثلَها وإنها السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أعطيته"(رواه الترمذي).

فعلى كل مسلم عَلِم فضائلَ هذه السورة، أن يُعظِّم كلام الله عمومًا، وأن يتأمل في معانيها العظيمة، فيستعيذَ بالله من الشيطان الرجيم عند البدء بالتلاوة، كما أمر الله -عز وجل- بقوله: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ)[النّحل: 98]، وفي حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: "كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا قام من الليل فاستفتح صلاته وكبر، قال: سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك، ثم يقول: أعوذ بالله السميع العليم، من الشيطان الرجيم، من همزه ونفخه ونفثه"(رواه أصحاب السنن).

والبسملة، ليست من الفاتحة كما في الحديث القدسي: "قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، قال الله: حمدني عبدي، وإذا قال: الرحمن الرحيم، قال: أثنى علي عبدي، وإذا قال: مالك يوم الدين، قال: مجدني عبدي، فإذا قال: إياك نعبد وإياك نستعين، قال: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال: اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم، غير المغضوب عليهم ولا الضالين، قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل"(رواه مسلم). قال النووي -رحمه الله-: إن هذا الحديث أوضح ما يُحتج به على أن البسملة ليست من الفاتحة.

بدأ الله -عز وجل- هذه السورة العظيمة بـ (الْحَمْدُ لِلَّهِ)[الفَاتِحَة: 2]، فالألف واللام لاستغراق جميع المحامد، وهو وصف المحمود بالكمال مع المحبة والتعظيم، وهي ثناءٌ عليه بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، قال ابن جرير -رحمه الله-: "الحمد لله ثناء أثنى به على نفسه، وفي ضِمْنه أمر عباده أن يثنوا عليه، فكأنه قال: قولوا الحمد لله".

وعَرَّف ابن عباس -رضي الله عنهما-: "الحمد لله" بأنها: كلمة الشكر، وإذا قال العبد الحمد لله، قال: "شكرني عبدي"(رواه ابن أبي حاتم)، وعند النسائي من حديث الأسودِ بنِ سَرِيعٍ -رضي الله عنه- قال: "قلت يا رسول الله: ألا أَنْشُدُك مَحَامِد حَمِدْتُ بها ربي -تبارك وتعالى-، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أما إن ربك يحب الحمد".

والنبي -صلى الله عليه وسلم- يحمد الله في سرائه وضرائه فإذا أتى ما يُحب قال: "الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وإذا أتى خلاف ذلك قال: الحمد لله على كل حال"(رواه ابن ماجه).

ولم يذكر -سبحانه- لحمده هنا ظرفًا مكانًا ولا زمانًا، ولكن ذكرها -سبحانه- في سورة الأنعام أن من ظروفه المكانية قوله -تعالى-: (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ)[الرُّوم: 18]، وفي سورة القصص ذكر الزمانية الدنيا والآخرة في قوله -تعالى-: (وَهُوَ اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُوْلَى وَالآخِرَةِ)[القَصَص: 70].

و(لِلَّهِ) في (الْحَمْدُ لِلَّهِ) هو اسم ربنا، لا يُسمَّى به غيرُه، إلهنُا لا إله لنا سواه، ولا ربَّ لنا غيره، نحمده -سبحانه-، حمدًا يليق بجلال وجه وعظيم سلطانه.

و(رَبِّ الْعَالَمِينَ)، الرب: هو ما اجتمعت فيه ثلاثة أوصاف: الخلق والملك والتدبير، والعالمين ما سوى الله فهو من العَالَم، لأن وجود العَالَم علامةٌ لا شك فيها على وجود خالقٍ لها، متضمنًا صفات الكمال والجلال (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا)[الأنبيَاء:22].

فهو -سبحانه- مربيهم بالنعم، وخالقُهم، ومالكُهم، والمدبِّرُ لهم كما شاء -سبحانه-.

وهو -عز وجل-: (الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ) وهما اسمان من أسمائه الحسنى، وهما مشتقان من الرحمة على وجه المبالغة، فالرحمن أوسع من الرحيم، لأن الرحمن ذو الرحمة الشاملة لجميع الخلائق في الدنيا وللمؤمنين في الآخرة، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "جعل الله الرحمة مائة جزء، فأمسك عنده تسعة وتسعين، وأنزل في الأرض جزءًا واحدًا، فمن ذلك الجزء تتراحم الخلائق حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه"(رواه مسلم).

والرحيم: ذو الرحمة للمؤمنين في يوم القيامة كما قال -سبحانه-: (وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا)[الأحزَاب: 43].

وهو -سبحانه- (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ)[الفَاتِحَة: 4]، وهو يوم الجزاء والحساب، فهو -سبحانه- مالك ذلك اليوم: الذي يجازي فيه الخلائق، ففيه يظهر ملكُ الله وحده، فالله ينادي في ذلك اليوم (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ)[غَافر: 16]، فلا يجيب أحد فيقول: (لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ)[غَافر: 16].

بعدها ذكر المولى -سبحانه- ملخصًا لأعمال الخلق في قوله: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)[الفَاتِحَة: 5]، فنعبده ونخلص له العمل، فالعبادة قائمة على فعل ما أمر الله به، وتركِ ما نهى الله عنه، وبه نستعين عليه وحده في أداء العبادات، وقضاءِ الحاجات، فلا نطلب العون إلا منه -عز وجل-، لأن الأمر كلَّه بيده، لا يملك أحدٌ غيرَه معه مثقالَ ذرة، ولذا أوصى النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "إذا استعنت فاستعن بالله"(رواه الترمذي)، وهذا المعنى مشار إليه في آيات عديدة من كتاب الله (فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ)[مَريَم: 65].

جعلنا الله ممن عبده حق عبادته، وتوكل عليه حق توكله.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

الخطبة الثانية:

بعد الثناء على الله وحده، بأنه -سبحانه- له الحمد كلُّه، وأنه ربُّ العالمين، وأنه الرحمن الرحيم، وأنه مالك يوم الدين، وأنّ له العبادةَ وحده، وبعد عهد الاستعانة، ناسب أن يُعْقَب بالسؤال، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "فنصفها لي، ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل" وهذا أكملُ أحوالِ السائلِ أن يمدح مسئوله، ثم يسأل حاجتَه وحاجةَ إخوانِه المؤمنين في طلب الهداية في قوله: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)[الفَاتِحَة: 6].

وهو الإرشاد والتوفيق إلى الطريق الواضح الذي لا اعوجاج فيه، وهو المتابعة لله ولرسوله، وقيل: إن الصراط المستقيم: هو دين الله الذي لا يقبل من العباد سواه، وقيل: الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وقيل: القرآن الكريم.

قال البغوي -رحمه الله-: "هذا الدعاء من المؤمنين مع كونهم على الهداية، بمعنى التثبيت، وبمعنى طلب مزيد الهداية، لأن الألطاف والهدايات من الله -تعالى- لا تنتهي"، والعبد يسأل ربه الهداية في كل وقت من صلاة وغيرها، حتى وهو متصف بها لاحتياج العبد ليلاً ونهارًا إلى سؤال الهداية، فإن العبد مفتقر في كل ساعة وحالةٍ إلى الله في تثبيته على الهداية ورسوخه فيها، فإن العبد لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا إلا ما شاء الله، فأرشده -تعالى- إلى أن يسأله في كل وقت أن يمده بالمعونة والثبات والتوفيق.

قال ابن تيمية -رحمه الله-: "هذا الدعاء: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) أفضلُ الأدعية، وأوجبُها على الخلق، فإنه يجمع صلاح العبد في الدين والدنيا والآخرة".

وقال أيضًا: "فإذا هدى الله العبد إلى هذا الصراط أعانه على طاعته، وتَرْكِ معصيته، فلم يصبه شر لا في الدنيا، ولا في الآخرة -إلى أن قال-: وعلى العبد أن يجتهد في تحقيق هذا الدعاء، ليصير من الذين أنعم الله عليهم، كما وصفهم الله بقوله: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا)[النِّسَاء: 69]".

فأهل الصراط المستقيم كما قال ابن القيم -رحمه الله-: "هم أهل تحقيق إياك نعبد وإياك نستعين".

ثم ختم الله السورة بقوله -عز وجل- (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ)[الفَاتِحَة: 7]، فالمغضوب عليهم: هم من عرفوا الحق وعدلوا عنه، وهم اليهود، فأخص أوصاف اليهود الغضب، قال -تعالى-: (مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ)[المَائدة: 60].

و(الضَّالِّينَ)[الفَاتِحَة: 7]: هم من فقدوا العلم، فهم هائمون في الضلالة، لا يهتدون إلى الحق، وهم النصارى قال -سبحانه-: (قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ)[المَائدة: 77]، قال ابن القيم -رحمه الله-: "من لم يعرف الحق كان ضالاً، ومن عرفه ولم يتبعه كان مغضوبًا عليه، ومن عرف الحق واتبعه فقد هدي إلى الصراط المستقيم".

أَجْمَلَ معنى هذه السورةِ إمامُ المفسرين ابنُ كثير -رحمه الله- فقال: "اشتملت هذه السورة الكريمة وهي سبع آيات، على حمد الله، وتمجيده، والثناء عليه بذكر أسمائه الحسنى المستلزمة لصفاته العليا، وذكر المعاد، وهو يوم الدين، وعلى إرشاد عبيده إلى سؤاله والتضرع إليه، والتبرّي من حولِهم وقوتهم إلى إخلاص العبادة له وتوحيده بالألوهية -تبارك وتعالى-، وتنزيهه أن يكون له شريك أو نظير أو مماثل، وإلى سؤالهم إياه الهداية إلى الصراط المستقيم، وهو الدين القويم، وتثبيتهم عليه حتى يقضي لهم بذلك إلى جواز الصراط الحسي يوم القيامة، المفضي بهم إلى جنات النعيم، في جوار النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، واشتملت على الترغيب في الأعمال الصالحة، ليكونوا من أهلها يوم القيامة، والتحذير من مسالك الباطل، لئلا يُحشروا مع سالكيها يوم القيامة، وهم المغضوب عليهم والضالون".

وفقنا الله للعلم، والعمل بآيات هذه السورة العظيمة.

وجعلنا من أهل الصراط المستقيم، وأنعم علينا بجنات النعيم.

وصلوا وسلموا على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.